غضبت كمواطن مصري بسيط (ليست له علاقة حميمة بالسياسة) حين وصفنا الدكتور نظيف بأننا مازلنا نحتاج لمراحل طويلة لكي نصل إلى النضج السياسي، وهاجت في رأسي سبعة آلاف سنة بذكرياتها وخبراتها، ثم انتبهت كمتخصص – واكتشفت أن كلامه صحيح (بصرف النظر عن أهدافه ونواياه) فنحن فعلا رغم الآلاف السبعة من السنين لم ننضج سياسيا ولم ننضج تربويا ولم ننضج وجدانيا ولم ننضج اجتماعيا، وهناك في علم النفس ما يسمى بالعمر العقلي والعمر الزمني والعمر الاجتماعي والعمر الوجداني... وهذه الأعمار لا تسير بالتوازي في سائر الناس فقد يكون رجلا في الستين وعمره العقلي في العشرين وعمره الوجداني في الخامسة عشرة وعمره الاجتماعي في العاشرة.
ونحن كشعب مصري عمرنا الزمني كبير وقديم ولكن لا يواكبه في الكبر والقدم أعمارنا الأخرى وهذا ما يجعل حالنا كما ترى وتسمع وتشم.
ستغضب سيادتك وتثور بداخلك الحمية الوطنية وتقول: (لدينا قمم علمية وأدبية وسياسية واجتماعية ورياضية) ولن أنكر عليك ذلك، ولكنها دائما قفزات فردية لا تكفي لبناء منظومة حضارية.
نعود مرة أخرى إلى حالتنا السياسية، أقصد إلى أميتنا السياسية أو طفولتنا السياسية.. وإذا لم تعجبك هذه الأوصاف فاخرج إلى الشارع واقرأ لافتات التأييد والمبايعة الأبدية وانظر إلى الصور في الشوارع والميادين وشاهد قنوات التليفزيون وشارك في أي اجتماع حزبي وطني أو معارض أو معاند، أو اذهب لتشارك بصوتك في أي لجنة انتحابية ستقول إن لنا تاريخ سياسي حافل بالثورات مثل ثورة عرابي وثورة 19 وثورة يوليو، أقول لك "تعظيم سلام" لعرابي وسعد زغلول ومحمد نجيب وجمال عبد الناصر فقد فعلوا ما بإمكانهم في حدود الزمان والمكان ولكن لو عدت إلى التاريخ وعدت إلى علوم السياسة لوجدت، إنها لم تكن ثورات شعبية بالمعنى الاصطلاحي الذي يعني إرادة شعبية منظمة وهادفة وفاعلة على المدى الطويل (مثل الثورة الفرنسية).
وإنما كانت هبات شعبية حماسية يحركها زعماء لهم كاريزما آسرة ولا تنتهي إلى بلورة وفرض نظام سياسي واجتماعي وثقافي محدد المعالم وإذا أردت تجارب أكثر حداثة فارجع إلى تجربة الثورة الشعبية الإيرانية وتجربة جنوب أفريقيا وتجربة ألمانيا الشرقية ورومانيا وغيرها .
هذه كلها ثورات "شعبية" بحق وحقيق نتج عنها إرادة تغيير برامج تنمية حقيقية على كافة الأبعاد.
ولا أريد أن أزيدك حزنا وغما فأقول أن في حياتنا السياسية فترات نكوص فقبل ثورة فقبل ثورة يوليو كانت هناك أحزاب سياسية وانتخابات حقيقية وحكومات تضغط على العرش، ثم اختفى كل هذا وعدنا لطفولة سياسية ساذجة تحبو من البداية وتتعثر في الطريق. وربما يعود هذا إلى أن ثورة يوليو – طبقا لكل التعريفات العلمية الدقيقة والأمينة– ليست ثورة وإنما انقلاب عسكري تقبله الناس دون أن يكونوا هم الفاعلون فيه.
ونحن كأي طفل لم ينضج –لا نحتمل مواجهة الحقائق كما هي فنسمي الهزائم نكسات ونهتف لأصحابها ونفديهم بالروح والدم والحبر الأسود القاتم.
وما يحدث الآن في الشارع السياسي هو أشبه "بشخبطة سياسية" أو "نبش فراخ" فهناك "هوجات" و"هبات" من هنا وهناك تريد الإصلاح ولكنها لا تجد خلفها إرادة شعبية فاعلة ومؤثرة، فتعود إلى بيوتها (أو لا تعود) أملا في صحوة النائمين والمغيبين في الغد أو بعد الغد، فتتكرر المحاولة ويتكرر الإحباط ويراكم الغضب ويتزايد الخطر من خروج هذا الغضب بشكل غير منظم وغير محدد فيحرق ويدمر بلا هدف أو نظام.
واطمئنانا للأمية السياسية الراهنة، يقوم أصحاب المصالح بعمل "بالونات" و "شخاشيخ" و "ألعاب" يتلهى بها الأطفال السياسيون والأجنة المبايعون من بطون أمهاتهم حتى يحين موعد نومهم (أو موعد موتهم لا فرق) والشخبطة السياسية ليست بعيدة عن بقية أمور حياتنا بل هي نتاج طبيعي لها، ونحن نفتقر إلى فكرة (العمل الجماعي) وإلى فكرة (المنظومة) وإلى (روح الفريق) لذلك نفشل حين يحتاج العمل إلى ثلاثة أشخاص فأكثر لأنهم لن يتفقوا على شيء، وهذا قائم حتى على مستوى الألعاب الرياضية حيث يمكن أن ننجح في الألعاب الفردية ولكن يستحيل هذا في الألعاب الجماعية وهذا الغياب المروع للروح الجماعية وللإرادة الشعبية (الحقيقية) يجهض كل المشروعات الكبيرة بما فيها مشروعات التحرر من الاستبداد، أو التغيير السلمي الناجح ( شفتم بأه إزاي كان عنده حق...!! ).
واقرأ أيضا:
الزلزال ظاهرة طبيعية....أم رسالة إلهية؟