الزواج رباط مقدس بين رجل وامرأة يعيشان معًا تحت سقف واحد وتجمعهما مشاعر حميمة، وهما يقطعان مشوار الحياة "معًا" يدًا بيد وقلبًا بقلب، وفي هذا الجو الدافئ ينشأ الأبناءفيستمتعان بوجود الأبوين "معًا" وتنطبع في عقولهم ووجدانهم صورة لنموذج الأب (الرجل) وصورة لنموذج الأم (المرأة) وصورة لنموذج الأسرة، ومن هذه الصور يتكون لديهم مفهوم الحياة في تكاملها وتآلفها، ولكن للأسف الشديد، ربما لا تسير الأمور دائمًا على هذا الطريق، فللحياة ظروف وضرورات ربما تهدد هذه المنظومة الأسرية، وتؤدي إلى بعثرة هذا الكيان الجميل فيعيش الأب بعيدًا عن الأم والأولاد وينشأ بذلك واقعًا جديدًا يحمل تركيبات وتفاعلات نفسية غير متوازنة وغير صحية في كثير من الأحيان خاصة إذا طال السفر ولم تكن هناك عوامل اتصال أو تآلف كافية.. وفي هذه الحالة تستبدل كلمات "السكن".. "القرب".. "الرعاية"، بكلمات مثل: "الفراق".. "الوداع".. "الغربة".. "الشوق".. "الحنين".. "اللوعة".. "النسيان".. إلخ.
ازدياد ظاهرة سفر الأزواج بسبب طبيعة الحياة العصرية:
تتباين الإحصاءات من بلد لآخر حول نسبة الأزواج المسافرين، ولكنها تدور قريبًا من ال20% وهي نسبة غير قليلة، فتقريبًا خمس الأزواج يغيبون عن زوجاتهم وعن أسرهم بشكل متقطع أو دائم، وهذه الظاهرة مرشحة للازدياد، حيث أن نمط الحياة العصرية يتطلب حركة واسعة سعيًا لطلب العيش أو العلم أو بحثًا عن عمل مميز أو ظروف أفضل للحياة، وبما أن الأسرة يصعب عليها كثرة الانتقال من مكان لمكان بسبب ارتباط الأبناء بمدارسهم وأحيانًا بسبب التكلفة المادية العالية للأسرة في بلاد الغربة، لذلك نجد أن الزوج غالبًا ما يسافر وحده على أمل أن يجتمع شمل الأسرة في فرصة مناسبة، وأحيانًا تأتي هذه الفرصة وأحيانًا لا تأتي.
إذن فظاهرة سفر الأزواج أصبحت من الانتشار مما يستدعي دراستها ومحاولة البحث عن حلول لمشكلاتها, خاصة أن تلك المشكلات كثيرًا ما تكون مستترة تحت السطح لا يبوح بها الزوج ولا تبوح بها الزوجة، لأن هذه المشكلات تكون من الحساسية بالدرجة التي يصعب معها البوح. ولقد قدر لي أن أرى الأزواج في وحدتهم أثناء سنوات سفري وغربتي، وحين عدت إلى بلدي وجدت من خلال عملي كطبيب نفسي كيف تعاني زوجاتهم وهن يواجهن الحياة وحدهن أيضًا. والأمر لا يتوقف على عام أو عامين ولكنه يمتد إلى عشر سنوات أو عشرين سنة أو أكثر وخلال هذه السنوات تحدث تغيرات مؤلمة في الطرفين، وتمتد هذه التغيرات إلى الأبناء وبدرجات متفاوتة ولكنها مؤثرة في كل الحالات وأحيانًا مزلزلة ومشوهة لتركيبتهم وتفاعلاتهم النفسية.
مزايا السفر والهجرة:
ربما يقول قائل: إذا كان السفر يفرق الأحباب ويترك آثاره الصعبة على نفوس الجميع بهذا الشكل.. إذن لماذا يسافر الناس؟.. ولم لا يجلسون حيث هم وسط الأهل والأحباب تفاديًا لهذه المشكلات وغيرها؟!.. والواقع أن للسفر فوائد كثيرة، فالسفر يتيح الرؤية لبلاد جديدة وأناس مختلفين، وبالتالي يوسع دائرة الإدراك ودائرة الوعي، ويتيح فرصًا هائلة للنمو والابتكار. فكلما تعددت أسفار الإنسان اتسعت مداركه ورؤيته وأصبح أكثر قدرة على المعرفة وحل المشكلات والابتكار وأكثر فهمًا للحياة وللبشر.
وكثير من الأنبياء والمصلحين والعلماء هاجروا من مكان لمكان بحثًا عن ظروف أفضل لدعواتهم وأفكارهم وارتبط نجاحهم بهجرتهم وسعيهم في الآفاق، وربما لو ظلوا في أماكنهم لماتت دعوتهم وفترت هممهم، فالحركة في الأرض تولد أفكارًا وتولد مشاعرَ، وتغير في داخل الإنسان وخارجه، وكما يقولون في المثل الشعبي: "الحركة بركة"، وكما يقول الشاعر:
الحركة بركة..
والسعي في أحشاء الزمن خلود
والقفز فوق قناة الخوف جسارة
والجري طهور
والطهر شطر الإيمان.
وفي القرآن الكريم إشارة إلى ارتباط السعي في الأرض والهجرة بسعة الرزق، يقول تعالى: "ومن يُهاجِرْ في سبيْلِ الله يجِدْ في الأرْضِ مُرَاغَمًا كثيرًا وسَعَة"(النساء:100).
وفي المثل الشعبي يقولون "للسفر سبع فوائد" (ولو أنهم لم يقولوا ما هي هذه الفوائد السبعة). إذن فالسفر لا يخلو من فوائده بل إنه مليء باحتمالات الرؤية والمعرفة والرزق الأوسع، وما سنذكره لاحقًا من آثار سلبية هي بمثابة أعراض جانبية للسفر نحاول تلافيها بقدر الإمكان، والناس في كل زمان ومكان يتناولون الدواء على الرغم من وجود أعراض جانبية له، وذلك بناءًا على قاعدة نسبة الفائدة: الضرر، فكلما ارتفعت هذه النسبة كان ذلك مبررًا لتعاطي الدواء، والسفر يقاس على هذا فإن رأى المسافر أن فوائد سفره تفوق أضراره فلا بأس من سفره، وإن وجد عكس ذلك فمراجعة الموقف واجبة.
دوافع السفر ودواعيه:
لكل مسافر دوافعه التي تجعله يتحمل ألم الفراق والانفصال عن واقع ألفه وعن أحباب ارتبط بهم سنوات طويلة، ونذكر من هذه الدوافع ما يلي:
1- السفر الاضطراري: كالذي خرج من بلده بحثًا عن لقمة عيش لم يجدها في هذا البلد، أو بحثًا عن حياة كريمة افتقدها، أو أنه تم نفيه أو استبعاده بناءًا على ما يتبناه من أفكار ورؤى لا تتفق مع النظام السياسي القائم، خاصة تلك النظم الاستبدادية التي لا تحتمل الرأي الآخر، وهي ليست ناضجة بالدرجة الكافية لذلك تلجأ إلى استبعاد الآخر من مجال وعيها حتى تنعم بالراحة الزائفة.
2- السفر سعيًا نحو النمو: مثل أن يسافر الإنسان طلبًا للعلم أو بحثًا عن ظروف أفضل لعمل متميز أو أفكار إصلاحية خاصة إذا تأكد له أن ذلك غير ممكن في بلد المنشأ. وكما قلنا فإن السفر كثيرًا ما يحمل فرصًا واسعة للنمو حيث تتفتح مدارك المسافر وتتحفز همته وتنشط قدراته الكامنة، لأنه مع إحساسه بالغربة وإحساسه بالتهديد والضياع يفتح كل وسائل إدراكه ويستنهض كل ملكاته وقدراته، ولو أضفنا إلى ذلك جدة الحياة من حوله واختلافها عما ألفه في بلده الأصلي، كل هذا يعطي فرصًا هائلة لامتداد الوعي وحركة الفكر والسلوك.
3- السفر الهروبي: أحيانًا يسافر الشخص هربًا من ظروف ضاغطة في البيت أو في العمل أو في الوطن ككل، فهو في هذه الحالة يجد أن وجوده في هذه الأجواء الضاغطة يؤثر سلبًا على عقله أو وجدانه أو إنجازاته لذلك يفضل الهروب بحثًا عن ظروف أفضل للحياة. والهروب هنا يحمل من المعاني الإيجابية بقدر ما يحمل من المعاني السلبية، فهو ليس هربًا للراحة، وإنما هربًا لساحة أفضل. ولكن هذا الحل يترك السلبيات في البيئة الأصلية تتراكم دون حل وربما تستوحش، وهذا ما حدث في كثير من دول العالم الثالث، حيث هرب منها خيرة أبنائها جراء ما لقوا فيها من عنت، وفروا بعقولهم وأحلامهم إلى العالم المتقدم فأحرزوا نجاحات ممتازة، ولكن هذا الوضع فرّغ المجتمعات الطاردة لأبنائها من العناصر المحركة والمبدعة وبالتالي ظلت في حالة جمود وتأخر.
4- السفر وضبط المسافة الزوجية: في بعض الحالات يرى الزوج أو الزوجة أن قربهما ليس مريحًا، بل إنهما كلما اقتربا زادت احتمالات الشقاق لذلك يكون السفر نوعًا من ضبط المسافة أو ضبط جرعة العلاقة الزوجية بما يحتمله الزوجين, فهما لا يطيقان الاقتراب بأكثر مما تتيحه ظروف سفر الزوج.
5- السفر كبديل للطلاق: حين تصبح الحياة غير محتملة ويصبح الطلاق هو الحل يظهر السفر كبديل للطلاق فهو يتيح ابتعاد الزوجين عن بعضهما مع بقاء شكل اجتماعي للأسرة وبقاء فرصة لتربية الأولاد في إطار هذا الشكل الجديد.
6- السفر كبديل للثورة: بعض الناس تصل بهم الأحوال إلى أنهم لم يعودوا يحتملون الأوضاع القائمة (سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية) فيكون أمامهم خياران: إما الثورة على الأوضاع القائمة بهدف تغييرها وإما الانسحاب بعيدًا عن هذا الواقع. والانسحاب هنا ربما يكون انسحابًا تكتيكيًا لحين توجد الفرصة المناسبة للتغيير من الخارج أو من الداخل. ونسبة غير قليلة من الثوار والمصلحين تركوا أوطانهم لفترات متفاوتة لالتقاط الأنفاس ولاستكمال خطط ووسائل التغيير، وبعضهم نجح في ذلك والبعض الآخر اندمج في حياته الجديدة في الغربة ونسى هموم الوطن ومتاعبه.
7- السفر كاحتجاج: فالشخص هنا يسافر احتجاجًا على أوضاع أو ظروف تسبب له ضيقًا أو إزعاجًا أو فشلاً، وهو يريد أن يبعث من خلال سفره رسالة احتجاج إلى من يهمهم أمره (سواء الزوجة أو الأسرة أو المجتمع).
8- السفر كعقاب للذات أو للآخر: وهذا اختيار عدواني يتوجه فيه العدوان إلى الداخل لعقاب ذاته ويكفر عن أخطائه ويخفف من مشاعر الذنب التي يشعر بها، أو يتوجه بذلك العدوان إلى الخارج نحو الآخر والذي يمكن أن يكون أحد الوالدين أو الزوجة أو غيرهم نتيجة إحساس بالظلم أو القهر من ناحيتهم أو إحساس بالجحود من جانب الأبناء، وكأنه يقول لهم "سأسافر حتى تعرفوا قيمتي" أو "سأسافر حتى أريحكم مني".
9- السفر كحل للزوج النرجسي: هناك بعض الأزواج يحبون أن يعيشوا كما يحلوا لهم، فلديهم مشاعر نرجسية عالية تجعل من الأسرة واحتياجاتها عبئًا ثقيلاً. والزوج هنا غالبًا ما يسافر بعد الزواج بفترة قصيرة ويستمر سنوات طويلة في سفره ويتعلل دائمًا بصعوبة العودة وسوء الظروف في بلده واحتياجات الأسرة، وهذه العوامل كلها ربما تكون صحيحة لحد ما، ولكن العامل الأهم في سفره هو احتياجه لأن يعيش كما يريد ولا يتحمل مسئولية أحد، ويكفيه أن يبعث مبلغًا من المال لزوجته وأولاده يكفي احتياجاتهم المادية، فهو يقوم فقط بدور الممول للأسرة.
ويتبع :........... الزوج المسافر(2)