"لقد أجريت تحليل الإدمان لابني بالأمس وكانت النتيجة إيجابية!!"
أي أنه ما زال يتعاطى المخدرات... "أمال انت بتعمل معاه إيه يا دكتور في الجلسات"هكذا جاءت كلمات الأم حزينة شاكية لائمة عبر الهاتف لتخبر الطبيب النفسي أن ابنها البالغ من العمر ثلاثين عاما ما زال يتعاطى المخدرات رغم ما يبديه من انه قد امتنع عنها وبرغم انتظامه في الجلسات النفسية لإعادة التأهيل وتجاوبه الشديد خلالها مع الطبيب وإظهار أن مسألة الإدمان لم تعد تشغل باله وأن حياته منتظمة بدون المخدر وأنه يكاد يكون قد عاد إلى حالته الطبيعية.
تعبر كلمات الأم رغم قصرها عن أزمة كبرى في فهم طبيعة دور الطبيب النفسي بصورة عامة وفي حالات الإدمان بصورة خاصة وربما يكون هذا الالتباس ناتجا عن فهم طبيعة مشكلة الإدمان في الأساس وأنها لا تكمن في تعاطي المادة المخدرة وهو ما يركز عليه أهل المدمن عند مجيئهم للطبيب النفسي..
أننا نريده أن يقلع عن تعاطي المادة المخدرة ويتصورون أن هناك أدوية أو محاليل تساعد ابنهم على الامتناع عن التعاطي فإذا امتنع انتهت المشكلة والحقيقة على غير ذلك فتعاطي المادة المخدرة هو في الواقع تعبير عن منهج حياة متكامل.. يمثل التعاطي جزءا منها بحيث يصبح تعاطي المادة المخدرة جزءا من منظومة من التصرفات والأفكار والانفعالات التي لا يمكن فصلها عن بعضها.. إنها طريقة للحياة تميل إلى الهروب من مواجهة المشكلات وإلى الحصول على المتعة بأسرع الطرق مع غياب كامل لأي هدف أو غاية للحياة وبالتالي فإن الامتناع عن تعاطي المادة المخدرة وحده دون تغيير نمط الحياة التي يحياها هذا المدمن لن تؤدي إلا إلى عودة المدمن إلى التعاطي إن عاجلا أو آجلا.. لأن التعاطي يكمل الصورة الناقصة لحياة هذا المدمن بل هو ذروة التعبير..
لذا كان العلاج مرتبطا بصورة أساسية بإرادة المدمن في العلاج أي إرادته في تغيير حياته لذا فإن الخطوة المحورية والأساسية والتي بغيابها لا يصلح أي علاج هو أن يتخذ المدمن قرارا بتغيير حياته. أفكارا وانفعالات وتصرفات بحيث يخرج التعاطي خارج المنظومة الجديدة لحياته ولا يصبح له مكان ولا وقت... لأنها حياة لها هدف وغاية يحتاج فيها عقله اليقظ من أجل أن يخطط لحياته ويواجه مشاكله ويشعر بالرضا عن نفسه من خلال الإنجاز والفعل المتراكم عبر حياته كلها وليس عبر لحظات متعة عابرة هذه الرؤية الصحيحة لطبيعة المشكلة وكيفية حلها هو الذي يحل معضلة علاج الإدمان لأن دور الطبيب هنا سيكون هو مساعدة المدمن في تغيير حياته من خلال إعادة النظر في أفكاره والوقوف بجانبه وهو يخوض تجارب الحياة الجديدة ويواجه صعوباتها حتى يعتاد حياته الجديدة ويتعلم كيف يتعامل مع أحداثها دون هروب أو سعي لمتعة سريعة ولذا فإنه عندما جاءني المدمن وأمه وهي تقرر أنها المرة العاشرة التي يمتنع فيها عن الإدمان ويعود وأنها لجأت في الفترة الأخيرة إلى الكبسولة التي تم زرعها في بطنه كأمل أخير للإقلاع ولكنه سرعان ما عاد إلى التعاطي....
كان السؤال البسيط الذي توجهت به إلى هذا الشاب... هل فعلا هل فعلا كنت قد اتخذت القرار في أي مرة من هذه المرات للإقلاع عن المخدر أو بعبارة أخرى هل أنت على استعداد لتغيير حياتك؟!
وكانت الإجابة الحاسمة الواضحة... الحقيقة أنني لم أتخذ هذا القرار أبدا لأنني أحب حياتي في ظل المخدر وأحب المخدر نفسه ولا أريد الإقلاع عنه وفي كل مرة أطاوعهم من أجل أن أعطي لنفسي راحة حتى أعاود تعاطي المخدرات وأعاود حياتي كما هي!! وليكون سؤال هذه الأم وكل الأمهات والآباء.. وماذا نفعل ولتكون الإجابة.. أنه الاختيار....
إن العلاج يبدأ قبل النقطة التي تتصورونها،.. إنه يبدأ هناك في نقطة بعيدة في نفس المدمن.. نقطة لا يحسمها إلا صاحبها فقط لا يستطيعها الأهل ولا الطبيب وإن كان لهم دور في الوصول إليها .. ولكن دونها يصبح الأمر بلا جدوى لأنه قرار لتغيير منهج الحياة وليس بالإقلاع عن مادة مخدرة .
*اقرأ أيضا:
الفن للفن أم الفن للمجتمع (1-3) / الفصام ذلك المعلوم ...... المجهول / هل الفصام ..... هو ازدواج الشخصية ؟!!! / ضحايا الاعتقال المنسيون