أزمة النمو في شعر عبد الرحمن الأبنودي(1)
(دراسة نفسية لجوابات حراجي القط العامل في السد العالي إلى زوجته فاطنة أحمد عبد الغفار في جبلاية الفار)
[2]
لحظة الانفصال:
كان أول جواب من حراجى لزوجته فاطنة بعد شهرين من لحظة الفراق المؤلمة, وهذا التأخير يمكن تفسيره ظاهريًا بانشغاله في ترتيب أموره في عالمه الجديد والغريب عليه في السد العالي خاصة وأنه عامل بسيط فقير لا يملك من أمره شيء, ولكنه لم يذكر هذا السبب كتبرير لتأخيره, ولم يذكر سببًا غيره, ولكنه أقر "بكسوفه" على التأخير والذي كاد أن يدفعه لمزيد من التأخير. ويبدو أن التأخير هنا كان فرصة لالتقاط الأنفاس ولاستيعاب لحظة الفراق التي تكثفت فيها مشاعر وأفكار فوق قدرة احتمال جهازه النفسي.
وربما يكون التأخير تجنبًا للحظة ضعف محتملة تنتابه أثناء كتابة الجواب الأول وتكون نتيجتها انهيار مقاومته والتفكير في العودة. وربما يكون خلال فترة التأخير في حالة تفادي (غير واعية غالبًا) لصورة الأحباب حتى لا يتألم أو يضعف, وفي هذه المرحلة يكون الجهاز النفسي في حالة خدر مؤقت أشبه بالتخدير الذي يعطى لكي تتم عملية الولادة... والانفصال عن القرية التي ألفها حراجي وعن زوجته وأولاده لا يقل ألمًا عن أصعب عملية ولادة.... وكل خبرات النمو تتضمن في أولى مراحلها ألم انفصال تزيد حدته أو تنقص حسب حجم خبرة النمو ونوعيتها وحسب شخصية المنفصل والمنفصل عنهم وحسب وسائل التدعيم المحيطة بهم وحسب معنى النمو وقيمته لديه ولديهم.
ولنعد الآن لتسليط الضوء على تعبير الشاعر عن لحظة الانفصال (الفراق) بعد مضي شهرين، وتتبدى عبقرية الأبنودي في التعبير عن هذه اللحظة حين يعبر عن حالة الذهول التي تحوط هذه اللحظات فتجعل تفاصيلها غائمة أحيانًا على الرغم من كثافة الانفعالات والمشاعر وقتها:
شهرين دلوقت..
من يوم ما عنيكى يا فاطنة...
بلّت شباك القطر..
لسوعتى بدمعك ضهر يديّ.
لحضتها قلت لّك:
"قبل ما عوصل عتلاقى جوابي جي..."
نهنهتى.. وقلتي لي بعتاب:
"النبي عارفاك كداب..
نساي..
وعتنسى أول ما عتنزل في أسوان.."
ما عرفت ساعتها يا مرتي أضحك والا أبكي..
ما عرفت ساعتها إذا كنت باعوز القطر يقف ولا يولّي.
حسيت بعنيكي الحيرانة يا فاطنة بتقوللي..
وتسكت..
وتقوللي..
حسيت واليد بتخطفها يد الجدعان
بالقلب في جوفي ما عارف إن كان بردان.. دفيان..
والبت عزيزة والواد عيد..
قناديل في الجوف.. زي ما بتضوي.. بتقيد..
....... والقطر اتحرك.
وقليبى بيتنقل من يدّ.. لإيد.
والقطر بيصرخ ويدودو
اتدّلدلت بوسطي من الشباك..
(خدي بالك من الولد..
راعي عزيزة.. وعيد)
والقطر صرخ ورمح لكإنه داس على بصّة نار..
ولقطت الحسّ قريّب.. قد ما كنت بعيد:
(قلبي معاك ياحراجي هناك في أسوان..)
ورميت نفسي.. وسط الجدعان..
وبكيت..
وتبدأ بواكير التغير في الرؤية فتبدو قريته (التي كانت عالمه الكبير) صغيرة يتجاوزها القطار في لحظة:
وبلدنا اللي كنا بنمشيها في نص نهار..
كان القطر في لحضة.. فاتها بمشوار.
ويصل الجواب الأول إلى زوجته "فاطنة" فيوقظها من حالة "خدر عاطفي" (إنكار) مماثلة لحالته خلال الشهرين:
النبي ساعة مرزوق البسطاوي.. ما نده..
كده زي ما كون.. دقّت في حشايا النار.
وكإن العمر بيصدق.. بعد ما كان كداب.. ...
طب والنبي وكإن ورقتك دي
أول قنديل يتهزّ في جوف الدار.
أول ندعة ضو.
الدار من غيرك يا أبو عزيزة.. هِوّ.
ولكنها لا تسترسل في التعبير عن مشاعرها تجاه زوجها بصراحة في هذه المرحلة المبكرة من الفراق ربما حياء أو ربما لأنها ما زالت في مرحلة الخدر العاطفي (الإنكار) كما ذكرنا أو ربما لأنها لم تتعود من قبل على التعبير اللفظي عن مشاعرها تجاه زوجها أو ربما كل هذا، ولذلك نجدها تتستر خلف أبنائها عزيزة وعيد لتعبر عن مشاعرها ومشاعرهما:
وعزيزة وعيد..
من غيرك يا حراجي
زى اليُتَما في العيد
الواد على صغره حاسس بالغربة وبالبعد ولا عاد حتى بيطلع يلعب في القمَّارى مع الوِلد
أطلع وأخش. أطلع وأخش القاه.. غيمان وكإنه محروق له دكان.
ويقوللي:
" فين يامه أسوان..؟
وأبا.. سابنا ليه يامه؟ ما يمكن زعلان..؟
ثم تتشجع في نهاية الجواب لتعبر عن نفسها في عتاب مؤلم ومتألم:
شهرين يا بخيل.؟
ستين شمس وستين ليل.؟
النبي يا حراجي ما أطول قلبك
لأقطع بسناني الحتة القاسية فيه
بداية المشوار:
وفي الجواب الثاني تزول غيمة الإنكار ويصبح حراجي أكثر قدرة على الرؤية وعلى التعبير عن المشاعر الماضية والمشاعر الآتية وأكثر قدرة على التعامل مع متطلبات الواقع ففي بداية الخطاب يتحدث بذات"الراشد" عن أمور واقعية واحتياجات أسرية:
باعتين طيُّه ما قدرنا المولى عليه..
وعنبعتلك في ظرف الجمعة.. طرد
الطرحة والجزمة بتوعك..
وكساوي عزيزة وعيد..
وهو يحاول تعويض غيابه عن أبنائه بإرسال ما يحتاجونه وربما أكثر كي يشعر براحة الضمير ويخفف من مشاعر الذنب تجاههم:
دوَّرت الحسبة ف راسي وقلت يا واد يا حراجي..
هو يعني قانون العيل ما يدوقش الكسوة..
غير في العيد؟
أمال كيف العيِّل حيحس بابوه جنبه
إذا كان الأب.. بعيد؟؟
ثم تعاوده ذاته الطفلية مسترجعًا رؤيته للأحداث ودهشته للتغيير المفاجئ الذي ألم به ومشاعره تجاه كل هذا:
بقى أول ما دلقنا يا فاطنة بابور السد على محطة أسوان أنا والجدعان، حسيت بالدوخة
مش أول مرة باسيب جبلاية الفار..؟
آه يا "فَطاني" لو شفتي الرجالة هنه..
قولى ميات.. ألوفات..
بحر من ولاد الناس..
جدعان زي عيدان الزان.. سايبين الأهل.
ويتشجع شيئًا فشيئًا ليعبر عن آلام غربته بادئًا الحديث عن آلام غربة من معه:
وتطلّي ف عين الواحد يا ولداه ع الغربة
عارفة يا مرتي الراجل في الغربة يشبه إيه..؟
عود درة وحداني.. فغيط كمون.
حسيت بالخوف ناشع في عروقي زي البرد.
ونظرًا لهجمة المشاعر المؤلمة في الليلة الأولى للغربة تأتي تعبيرات الشاعر غامضة مبهمة مستخدمًا كلمات مألوفة في البيئة الصعيدية ولكنها غريبة على التعبيرات الانفعالية ومع هذا فهي تصور حيرته واضطرابه وتصور غيمة الإنكار وذهول الموقف وهذا شأن أي طفل تاه وفقد الأهل والأحباب:
قضينا الليلة الأولانية في أي مكان
العين مشقوقة..
والبال..
زي الغلة بتسرسب من يد الكيال.
وندهت عليكم قلت: يا فاطنة أنا بانده
سامعاني؟
سامعيني يا عيال؟
وهنا تثور الرغبة لديه للعودة.. العودة إلى القرية والأهل والأحباب.. العودة إلى المألوف (هربًا من المجهول).... العودة إلى الرحم حيث الدفء والحنان (هربًا من الواقع حيث التحدي والمواجهة وآلام الغربة) ولكنه يخاف "لوم الرجالة" بأنه طفل.. وربما يخاف في أعماقه توقف نموه فيحاول إقناع نفسه بالاستمرار في طريق النمو المؤلم ولا يكتفي بذلك بل يحاول أن يقنع غيره أيضًا بذلك:
النبي لولا الخوف واللومة من الرجالة..
لاركبت القطر وعدت
قبل ما اروح لموظف
قبل ما اردّ سؤال
وقعدت أعطّل نفسي وأقول: يا حراجي يا بوي أمال جيت ليه؟
الخايف م الغربة مايجيش
إتحمّل علشان كسوة عيد.. ورغيف العيش
لكإنك ياخي رحت "الديش"
من خوفي يا مرتي
قعدت أهَدِّي الرجالة
ثم تعاوده ذات الراشد فجأة ويعود للحديث عن أمور الأسرة المالية:
أول ما تفكي الخمسة جنيه
اطلعي ع الفور..
وادّى حساب "عمران" وجنيه "بمبه الصباغ"
والباقي زيحوا بيه القارب
لما يعدّلها الرحمن
ثم تظهر ذات الوالد الحريصة على الواجب والعلاقات والقيم الإنسانية:
سلِّمي ع الوِلد.. وعَ "الحاج التايب"
بلا كتر كلام
سلمي على كل اللي لينا فيهم نايب..
واوعي يا فاطنة لما ارجع وأبص ف وش اللولاد..
أعرف إن أبوهم كان غايب.
فهو يريد أن يطمئن إلى أن التعويض المادي للأولاد بالإضافة للتعويض العاطفي البديل من الأم كانا كافيين بحيث لا يشعر الأولاد بغياب الأب. ومع شعور الزوجة "فاطنة" بالوحدة بعد غياب الزوج (وبعد وفاة الأب) تتجه بمشاعرها نحو الابن "عيد" تحاول أن تجعل منه رجلاً له قيمة لكي تستمد قيمتها منه:
امبارح.. جانا "الشيخ قرشي" وخبط ع الباب..
قاللي لابدّن ما نبص لعيد..
قاللي: "يابت المرحوم..
الواد لازمه الكتاب
يوم السوق..
اتدلي هاتي له قلمين بوص.. وداواية.. ولوح"..
وضحك.. بعدين قاللي: "لاحسن يطلع لوح"..
وأنا بيني وبينك يا حراجي عاوزاه يكبر ويعوضنا عن الأهل ويعمل لنا قيمة..
وتتجاوز فاطنة أحزانها (كما تجاوز حراجي) وتتجاوب مع دهشة زوجها وبدايات نموه:
اللي بتقوله عن أسوان يابو عيد..
حكاية ولا حكايات أبو زيد..
هيا يعني.. مش زي بلدنا..؟
وانت طول عمرك راجل صاحب فاس
فهمهاني دي
لاحسن عامله في راسي زي الخبطة..
كيف صاحب الفاس يصبح أوسطي..؟
ويتبع >>>>>: أزمة النمو في شعر عبد الرحمن الأبنودي(2)
اقرا أيضا:
ستار أكاديمي الفقرة الأخيرة على شاشة الانتفاضة / الدلالات النفسية لزواج الأمير تشارلز من عشيقته / إبداعات الخريف عند نجيب محفوظ(1)