أزمة النمو في شعر عبد الرحمن الأبنودي(2)
(دراسة نفسية لجوابات حراجي القط العامل في السد العالي إلى زوجته فاطنة أحمد عبد الغفار في جبلاية الفار)
[3]
الحنين:
ويتحول ألم الفراق إلى حالة من الحنين أو "الخرمة" أو "الاشتياق"، وتستطيع فاطنة في هذه المرحلة التعبير عنها بصراحة وبدون خجل وبشكل مباشر خاصة أنها خرجت منها في ألفاظ جامعة موحية ومعبرة ولكنها لم تخدش جدار الحياء لدى امرأة صعيدية حتى وهي تناجي زوجها:
في الليل يا حراجي تهفّ عليّا ماعرف كيف..
هففان القهوة.. على صاحب الكيف..
وبامد إيديا في الضلمة ألقاك جنبي..
طب والنبي صحّ ومش باكدب يا حراجي.
وباحس معاك إن الدنيا لذيذة.
وهي قد اختارت الليل هنا ربما لإيحاءاته الخاصة التي لا تريد البوح بها حيث هو وقت الاقتراب والبوح والتلاقي والاندماج, أو ربما لأنه وقت ينصرف عنها الناس وتشعر بالوحدة فتستيقظ داخلها مشاعر الشوق، وتقوى هذه المشاعر حتى إنها لتتجسد لترى زوجها الحبيب بجانبها وتقسم أن هذا قد حدث وأنها قد شعرت فعلاً بقربه وبلذة الدنيا في وجوده.
ثم تخرج من هذا الجو الرومانسي الحالم وتتقمص صورة الأم الراعية:
وقوللي يا حراجي..
بتاكل كيف..؟ وبتلبس إيه؟ وبتقلع إيه؟
بتنام فين؟
قاعد في المطرح مع مين؟
مين الي بيغسلك توبك
وبتتسبح فين..؟
ونلاحظ فيما سبق وفيما سيأتي تناوب ذات الطفل (الطفلة) وذات الراشد (الراشدة) وذات الوالد (الوالدة) لدى الزوجين في تواصلهما وربما يكون هذا أحد جوانب الروعة والتكامل فيهما وبينهما ككيانين إنسانيين كاملين متكاملين ناميين معًا ونابضين في توافق وانسجام.
ويتجاوب حراجي في الرسالة التالية مع مشاعر زوجته التي تجسدت لها في الليل وكأنها رأى عين فيرسل لها بما حدث له مشابه لذلك وكأن نفسيهما المحبتين على موعد دائمًا حتى في سبحات الخيال وفي هبات المشاعر الآسرة المتجسدة:
مشتاق ليكي شوق الأرض لبل الريق..
شوق الزعلان.. للنسمة.. لما الصدر يضيق
مشتاق.. وامبارح..
قاعد.. قدامي عرق حديد.. وفي يدي الفحّار..
غابت عن عيني الحته اللي انا فيها.. وغابوا الانفار
تحت الانفاق.
الضلمة يا فاطنة
بتساعد على سحب الفكر..
ولقيت نفسي يا فاطنة طيره مهاجرة
والطيره جناحها محتار
ولقيت نفسي على بوابة جبلاية الفار..
باخد الأحباب بالحضن
كانس كل دروب الجبلاية بديل توبي
طاوي كفوفي وباخبط بيهم على صدر الدار
قلتي لي مين؟
مسيت الدمعة ف حزنك بايدي..
مسيت الدمعة اللي ف حزنك..
ما عرف خدتك في حضاني ولا انتى خدتيني في حضنك
وعزيزة وعيد حواليا يشدوا الجلابية
ويشموا ف غيبتي وفي إيديا..
وقعدت بيناتكم.. وبكيت وضحكت
لما لمحت عصايتي وتوبي.. وفاسي.. ومداسي
نداءات النمو:
وظل مستغرقًا في هذا الحلم.. حلمه بالعودة للرحم الأم ولحضن الأهل والأحباب مكتفيًا بما تحقق.. ولكن هيهات فنداءات النمو ونبضاته تسحبه إلى الأمام وإلى أعلى رغمًا عنه حيث يظهر له رمز الطلوع والصعود "المهندس طلعت" فيوقظه من حلم العودة:
يمكن ساعة.. وقف المهندس على راسي..
ولمس كتافي بصباعه.. قمت لفوق..
طبطب على كتفي..
وخدني من يدي بره النفقات في النور
ضيعنا نص نهار
وسألني.. قلت الشوق
قاللى اسمع يا حراجى أقولك..
ويا فاطنة قعد يحكي ويتكلم..
ألقط كلمة وميه تروح..
وكلام.. م اللي يرد الروح..
وحكى لي عن اللفرنج وعن حرب المينا..
في الجوابات الجاية يا فاطنة عاقولك واحكي لك.
وهكذا بدأت الرؤية تتسع أمام عينيه وهو يحرص على نقل هذه الرؤية المتسعة إلى عيني زوجته لتعايش هذه النقلات التطورية معه كي تنمو معه وينمو أيضًا عيد الذي ذهب للكتاب.
مخاطر ومخاوف النمو:
والنمو لا يحمل ألم الفراق والغربة فحسب وإنما ربما يحمل ألم الموت.. فالنمو مغامرة تحمل احتمالات الصعود كما تتضمن مخاطر السقوط من عل أو الموت. ويبدو هذا في كلمات فاطنة لزوجها:
قوللي يا حراجي بحق..
عامل كيف بس ف ليل الفرقة..؟
واللهي ما خشن دماغي حاجة من اللي كاتبه ف الورقة..
ويا خوفي عليك..
بيقولوا فيه ناس.. ماتوا في اللي اسمه السد..
طمنا عليك ياحراجى..
مش راح تاجى..؟
ومع الخوف تعلو صيحات التحذير ونداءات العودة وإغراءات النكوص:
طالقالك في البيت فرّوج..
علشان لما تعود م الأسوان دي.. تلاقي لك حتة لحم
وتتخفى فاطنة خلف أم "علي أب عباس" لتعبر عن قلقها ومخاوفها على حياة زوجها أو هي تزيح مخاوفها عليها وتعبر من خلالها عن نفسها :
وأم "علي أب عباس " مشغولة عليه
بدري مارسلهاش ليه..؟
أهي طول اليوم.. قاعدة ع العتبة إيد على خد..
وماسكة عود قش بتبكي وتخطط في تراب الدرب..
طمنّا عليه يا حراجي يرضيك المولى..
قلب الأم إن صابه الشوق يابو عيد
يبقى أسخن من رمل القيّاله لما يقيد..
يبقى عش خراب بيسرّخ على طيره..
ويفهم حراجى الرسالة (الدعوة للعودة والنكوص) فينتفض ويرد في حدة معلنا عدم تخليه عن رؤيته الجديدة وعدم قبوله للعودة إلى الحياة البدائية التي اكتشف سذاجتها وعدم جدواها:
قولى يا فاطنه للّى بنقولله وللى ما بنقلّلوش..
الدنيا مش عيش بس ولا قروش ولا غطيان وفروش.
قولى يا فاطنة للكل
إن احنا كنا هبل..
وضيعنا العمر فاشوش..
حتقولي عليا اتجنيت والا عييت
ويا ريتني مارحت الداهية اللي مسمينها أسوان..
ولا كنت طلعت من البيت..
هوه حراجى ايّاه..
بس اللي قلب راسي يا فاطنة مش سهل..
والدنيا يا فاطنة في البر التاني..
قالبة الدنيا؟
ماهو ده اللى معفرتلي كياني..
ومدور لي راحة راسي
ومخليني زي ما اكون واحد تاني.
"نبيهة المنزوع" في البر التاني من الدنيا..
لبست بدلة يافاطنة سامعاني؟ لبست بدلة
ونزلت وسط المكن المتخبل تربط وتحل.
إحنا يا فاطنة فين م الدنيا..؟
فين مخ الدنيا الجبار..
ماعرفشي كيف جبلاية الفار..؟
ويتبع >>>>>: أزمة النمو في شعر عبد الرحمن الأبنودي(4)
اقرا أيضا:
ستار أكاديمي الفقرة الأخيرة على شاشة الانتفاضة / الدلالات النفسية لزواج الأمير تشارلز من عشيقته / إبداعات الخريف عند نجيب محفوظ(1)