نقد الخرافة العاطفية.. أسطورة الحقبة الأمومية
ما هي الحضارة؟ إنها العوامل التي تنظم المجتمع الإنساني من عقيدة ودولة وفنون وعمارة. إذن، الإنسان هو اللبنة الحضارية الأولى الذي يشترط وجوده لإيجاد أي مجتمع.
كيف يعيش مجتمع ما؟ وفق أي أسس؟ على أي عقيدة؟ أسئلة قد تخطر على الذهن البشري، و لكن قد لا يخطر سؤال من طراز: أيهما كان مسيطرًا على الآخر، الرجل أم المرأة؟
الواقع أن المجتمعات البشرية قسّمت الأدوار بين الرجل والمرأة وفق الطاقات الحيوية والاستعدادات النفسية، واستمرت البشرية على هذا الحال حتى قرنها العشرين، والذي بزغت فيه أولى صيحات الاحتجاج من قبل النساء الأمريكيات اللواتي طالبن بحقوقهن العمالية المغصوبة على يد القطّاع الرأسمالي.
فما كان من الأخير سوى أن بارك هذه الدعوى في سبيل تجنيد المرأة في المصنع وتقليل من أجور اليد العاملة. وهنا بدأت الأفكار النسوية بالتشكل، وقد تأثرت معظمها بنظرية الصراع الماركسي. ولم يعد كافيًا أن تنافس المرأة الرجل في طبيعته وسلوكياته الحياتية –مع إهمال سلوكياتها – بل عزمت على شطب التأريخ ومعاداته بصفته ذكوريًا، وذلك استنادًا على الأسطورة القائلة (ولا ندري من هو القائل؟)
أن المرأة كانت المسيطرة على المجتمع، ولكن الرجل خدعها بعد أن أقنعها بالدفاع عنها من الوحوش الكاسرة وما لبث أن سيطر هو على المجتمع (دققوا في طفولة التبرير). وهنا نتساءل بصدق، دونما سخرية، عن نوع هذا المجتمع الذي كانت تسيطر المرأة على زمامه؟ كيف يمكن أن تسيطر امرأة على مجتمعات بربرية لا تقدس سوى القوة ومن يصيد حيوانات بريّة أكثر؟ كيف يمكن للمرأة أن تتحول للآمر الناهي في وضع اقتصادي حرج إذ كانت الحضارات البدائية لا تعرف كيفية ادخار الطعام، فكانت تتضور جوعًا أو تعاني التخمة في آخر، مما يجعل الصيد والرعاية هو شغلها الشاغل، ومن يورد هذه المتطلبات يكون الأحق بالسيادة. ويصف ديورانت تلك الحقبة بقوله:
{لقد كانوا ينتزعون بأيديهم المجردة انتزاعًا ما يستطيعون أكله مما يبديه سطح الأرض من أشياء وكنت تراهم يقلدون أو يستخدمون مخالب الحيوان وأنيابه ويصنعون لأنفسهم آلات من العاج والعظم والصخر وينسجون الشباك والمصائد والفخاخ من خيوط الحلفاء والليف ويصطنعون من الوسائل عددًا لا يحصى لاصطياد فريستهم من يابس أو ماء.
لقد كان لأهل بولينزيا شباك طولها ألف ذراع لا يستطيع استخدامها إلا مائة رجل مجتمعين وبمثل هذا تطورت وسائل ادخار القوت جنبًا إلى جنب مع النظم السياسية وكان اتحاد الناس في تحصيلهم للقوت مما أعان على قيام الدولة أنظر إلى السَّمَّاك من قبيلة "ثِلِنْجِتْ" إذ كان يضع على رأسه غطاء يشبه رأس عجل البحر ثم يخفي نفسه بين الصخور ويصرخ بمثل صوت ذلك الضرب من الحيتان فتأتيه عجول البحر فيطعنها بسنان رمحه لا يجد في ذلك ما يؤنبه عليه ضميره ؛
لأنه يتم على أوضاع يرضاها القتال في صورته البدائية وكان من عادة كثير من القبائل أن يُلقى سماكوها مادة مخدرة في مجرى الماء ليهون عليهم استجلاب السمك بعد تخديره فأهل تاهيتي -مثلاً- كانوا يلقون في الماء سائلاً مسكرًا يصنعونه من صنف معين من البندق أو ضرب معروف لديهم من النبات فتسكر الأسماك وتطفو على السطح مخمورة لا تحذر الخطر فيمسك منها السَّمَّاك ما أراد والأستراليون الوطنيون يسبحون تحت سطح الماء ويتنفسون خلال قصبات من الغاب فيتاح لهم أن يجذبوا البط السابح من سوقه إلى جوف الماء ويظلون ممسكين به هناك في رفق حتى تسكن فيه حركة الحياة وأبناء قبيلة "تاراهيومارا" كانوا يمسكون الطير بأن يلقوا لباب البندق على ألياف قوية ويربطوه بتلك الألياف التي يغرسونها إلى نصفها.
إن الصيد عند كثرتنا الغالبة اليوم ضرب من اللهو نستمد فيه اللذة -فيما أظن- من بعض الذكريات الغامضة الراسخة في دمائنا والتي تعيد لنا تلك الأيام القديمة حيث كان الصيد عند الصائد والمصيد كليهما أمرًا تتعلق به الحياة أو الموت ذلك لأن الصيد لم يكن سبيلاً إلى طلب القوت وكفى بل كان كذلك حربًا يراد بها الطمأنينة والسيادة، حربًا لو قَرَنْتَ إليها كل ما عرفه التاريخ المدوَّن من حروب ألفيت هذه الحروب بالقياس إليها بمثابة اللغَط اليسير.
وما يزال الإنسان في الغابة يقاتل في سبيل الحياة لأنه على الرغم من أن الحيوان هناك لا يكاد يهاجمه مختاراً إلا إذا اضطره إلى ذلك الجوع الشديد أو الخوف من الوقوع فريسة لا يجد لنفسه مهربًا يلوذ به فليس في الغابة قوت يكفي الجميع وأحيانًا لا يظفر بطعامه إلا المقاتل أو الذي يستخدم لنفسه حيوانًا مقاتلاً وها هي ذي متاحفنا تعرض أمام أبصارنا بقايا تلك الحرب، الإنسان وسائر الأنواع الحيوانية إذ تعرض أمامنا المُدى والهراوات والرماح والقسى وحبال الصيد والأفخاخ والمصائد والسهام والمقاليع التي استطاع بها الإنسان الأول أن يفرض سيادته على الأرض ويمهد السبيل أمام خَلَفٍ لا يعترف بالجميل ليحيا حياة آمنة من كل حيوان إلا الإنسان}. (1)
نعم، إنها الحياة التي تحتاج للقوة والجني الغذائي المرير، فهل كانت المرأة قائدة لمجتمع كهذا يا ترى؟ و هل تصلح لأن تكون كذلك أصلاً؟ و هل عدم كونها يعني أنها دون الرجل؟ لقد كان الصيد أعظم خطوة بشرية نحو الصناعة والرقي الحضاري لاحقًا، وعلى عكس النساء، فالإنسان –رجلاً أو امرأة – كان له فخر هذا الإنجاز. فلم تكن المجتمعات لتستمر لو عمل النساء بجانب الرجال في الصيد وتركن الأطفال عرضة للافتراس والمخاطر، ولم تكن الصناعة تطورت لو وقفت الحياة على رعاية الرجال والنساء لأطفالهم في الكهوف البدائية.
وكان الإنسان قد أكتشف الزراعة عن طريق المرأة، على ذمة ديورانت، التي كانت تعبث بالأرض بحثًا عن الجذور في غياب زوجها، وكانت قد اهتدت مع الوقت لزراعة الأرض ثم التطور بفلاحتها. المرأة أوجدت هذا اللون من القوت، ولكنها لم تكن لتتخلى عن دورها الأمومي الراعي للمجتمع حضاريًا، ولم يكن الرجل ليتخلى عن العمل للمرأة و بهذا لم يتخلى عن دور الراعي حياتيًا. ولا يذكر لنا التأريخ عن أي عهد صارت فيه الأنثى قائدًا للمجتمع، لأنها غير قادرة على الصراع الطويل الأمد والمعدوم النتائج كما يفعل الرجل.
وقد بدأت أقدم حضارة في عام 20000 قبل الميلاد، وقد امتازوا بتنظيم معيشي عالي، وكانت الزراعة والصناعة والكتابة التصويرية جزء من حضارتهم. ليس هذا فحسب، بل إن هناك نقوشًا تحدثت عن عالم ما بعد الموت وعن الربوبية والخلق. ويقول ديورانت عنهم:
{ويظهر أنه قد حل جنس جديد أسمه "كرو-مانيون" حول سنة 20000 قبل الميلاد محل هؤلاء السكان الأقدمين لأوروبا كما تدلنا الآثار التي كُشف عنها (سنة 1868) في مغارة بهذا الاسم في منطقة "دوردوني" في فرنسا الجنوبية ولقد استخرجت بقايا كثيرة من هذا النمط ترجع إلى العصر نفسه من مواضع مختلفة في فرنسا وسويسرا وألمانيا وويلز.
وكلها تدل على قوم ذوي قوة عظيمة وقوام فارع يتراوح طوله من خمس أقدام وعشر بوصات إلى ست أقدام وأربع بوصات ولهم جماجم سعة الواحدة منها تختلف من 159 إلى 1715 سم مكعب وتعرف فصيلة "كرو-مانيون" كما تعرف فصيلة "نياندرتال" باسم "سكان الكهوف" ذلك لأن آثارهم وجدناها في الكهوف لكن ليس هناك دليل واحد على أن الكهوف كانت كل ما لديهم من المساكن فقد يكون ذلك سخرية بنا من الزمن أعني أن علماء الحفريات لم يجدوا من آثار هؤلاء الناس إلا آثار من سكنوا الكهوف ولاقوا فيها مناياهم والنظرية العلمية اليوم تذهب إلى أن هذه الفصيلة العظيمة إنما جاءت من آسيا الوسطى مارة بإفريقية. حتى بلغت أوروبا، وأنها شقت طريقها فوق جسور من اليابس، ويقال أنها كانت عندئذ تربط إفريقية بإيطاليا وأسبانيا.
وأن طريقة توزيع هذه القواقع البشرية يميل بنا إلى الظن بأنهم لبثوا عشرات من السنين بل ربما لبثوا قرونًا طوالا يقاتلوا فصيلة "نياندرتال" قتالاً عنيفًا لانتزاع أوروبا من أيديهم. وهكذا ترى أن النزاع بين ألمانيا وفرنسا ضارب بجذوره في القدم ومهما يكن من أمر فقد زال إنسان "نياندرتال" عن ظهر الأرض حيث عمرها إنسان "كرو-مانيون" الذي أصبح السلف الأساسي الذي عنه جاءت أوروبا الغريبة الحديثة وهو الذي وضع أساس المدنية التي انتهت إلى أيدينا اليوم.
إن الآثار الثقافية لهذه الأنماط البشرية التي بقيت في أوروبا من العصر الحجري القديم تقع في سبعة أقسام رئيسية تختلف باختلاف المواضع التي وجدنا فيها أقدم الآثار أو أهمها في فرنسا. وكلها جميعًا تتميز باستخدام آلات غير مصقولة، والأقسام الثلاثة الأولى منها قد تم لها التكوين في الفترة المضطربة التي توسطت العصرين الجليديين الثالث والرابع}. (2)
ويقسم ديورانت المراحل الثقافية الحجرية التي تحدثنا عنها قبلاً من صناعة وزراعة، حتى يصل للمرحلة المهمة وهي مرحلة الثقافة الأورجناسية:
{الثقافة الأورجناسية تقع حول عام 25000 قبل الميلاد وهي أول المراحل الصناعية بعد أعصر الجليد وأولى الثقافات المعروفة لإنسان "كرومانيون" وها هنا في هذه المرحلة أضيفت إلى آلات الحجر آلات من العظم -مشابك وسندانات وصاقلات.. الخ-
وظهر الفن في نقوش غليظة منحوتة على الصخر أو في رسوم ساذجة بارزة أغلبها رسوم لنساء عاريات ثم جاءت في مرحلة متقدمة من مراحل تطور إنسان "كرومانيون" ثقافة أخرى هي الثقافة "السُّولَترْيه" التي ظهرت حول سنة 20000 قبل الميلاد في فرنسا وأسبانيا وتشيكوسلوفاكيا وبولندة وهنا أضيفت إلى أسلحة العهد الأورجناسي السالف وأدواته مُدّى وصفائح ومثاقب ومناشير ورماح وحراب وصُنِعَتْ كذلك إبَرّ دقيقة حادة من العظم وقُدَّت آلات كثيرة من قرن الوعل وترى قرون الوعل منقوشة أحيانًا برسوم جسوم حيوانية أرقى بكثير من الفن في العصر الأورجناسي السابق وأخيرًا عندما بلغ إنسان كرومانيون ذروة تطوره}. (3)
ربما يعتقد البعض أن كثرة النقوش والنحوت الأنثوية هو دليل ديني على عبودية الرجل للمرأة سابقًا، و هم بهذا ينسون أتفه مفردات التكون النفسي للرجل إذ أنه يعيش حالة هيام أبدي بالمرأة، وهو الذي دفعه لاكتشاف النحت والرسم، وذلك كي يعبر عن احتفاله بهذه المخلوقة الجميلة المعطاءة، والتي تمتاز بخصوبة مقدسة، لكنها لم تكن الإله الأعلى، بل كانت آلهة الخصوبة لا أكثر.
المراجع:
1- قصة الحضارة (ول ديورانت) صفحة: 6 - 8
2- قصة الحضارة (ول ديورانت) صفحة: 107 - 108
3- قصة الحضارة (ول ديورانت) صفحة: 109
*اقرأ أيضاً:
ضد الاحتلال/ حنين وطن، وأحزان/ المسلمون وتفجيرات لندن/ من الكناني إلى بثينة كامل/ لم أشتم الدكتور وائل مشاركة