الجرافيك الاجتماعي والنفسي لحادث "عزبة شمس الدين" بني مزار 2006 يناير
مما لا شك فيه أن حادث عزبة شمس الدين (بني مزار المنيا) بقدر ما أثار جدلاً شديداً من باب الشعور بعدم التصديق الكلي والكامل أو الإنكار DENIAL وتفضيل إحالة الموضوع، (الجريمة الشنعاء)، إزاحته إلى منطقة السرقة، الآثار،الخزعبلات وما إليه لكن ها هنا من واقع الاعتراف (سيد الأدلة)، ومن واقع الشكل الديموجرافى (الجغرافيا والسكان) و (السياسي النفسي والاجتماعي ـ السوسيو جيوبولتيك Socio -Geopolitical) ، الحلم بالوصول إلى خط الفقر ـ ( المصري اليوم الأربعاء 4/6/2004 ) في القرية 8 آلاف نسمة بينهم 100ألف موظف فقط الجاني (حاصل على الإعدادية) تاريخه المرضي العقلي (شخص على أنه يعاني من فصام العقل ـ شيزوفرينيا Schizophrenia مصحوبا بهوس وسواسي وفكرة تسلطية) طريقة ارتكابه للجريمة المتسلسلة (قتله للرجال أولاً بالساطور أولاً ثم ذبحهم من منتصف الرقبة إلى الأذن ثم بتر القضيب ودفنه أو وضعه فوق السطح ثم ذبحة للحمام حينما رفرف، ثم خروجه ودخوله من بيت إلى بيت من السلم الخلفي في هدوء وبرود القاتل المهووس الشديد المرض ـ الأهرام 4/1/2006 ).
كل ذلك يطرح أسئلة لابد من الإجابة عليها حرصاً على مستقبل الناس وصحتهم في مصر بدءاً من هل هناك حصر حقيقي للمرض العقليين في مصر؟ هل هناك رعاية ومتابعة لهم ولم لا ؟! هل هناك نظام التمريض المجتمعي الذي يذهب إلى الناس في بيوتهم، يتابع أحوالهم، يعطي المريض حقنته الوقائية الشهرية ويعلم أهله وأهل عزبته علامات الانتكاسة والخطر. ويرشد على علامات التوقف عن تناول الدواء وخطورتها الشديدة (كما تبين أن هكذا كان الأمر؟! في حادث بني مزار الشديد الدموية حيث امتنع عن تناول الدواء لمدة ثلاثة أسابيع قبل ارتكاب الحادث ـ الأهرام 4/1/2006).
أولاً هذا القتل الفريد من نوعه وكأنه جاء تراكما وتتابعاً وتسلسلاً لما قبله (بدءاً من المرأة والساطور، إلى تلك التي خمدت زوجها ورقصت مع عشيقها فوق جثته ثم مارسا الجنس وبعدها صلىّ القاتل في دار السلام، على الذي مزق جسد عروسته إلى نصفين بعد حوالي ثلاثة أسابيع من الزفاف، إلى الممرضة التي خدرت زوجها وشرحته بشفرة الحلاقة إلى نصفين، تخلصت من نصف وتركت نصفه الآخر في البانيو، وقبل ذلك بعامين ذلك الذي قتل أم صديقه المدمن ليسرقها ويشتري بالمال ما يخدره ويذهب بما تبقى من وعيه، وتلك في (البحيرة) التي طعنت زوجها مدمن الجنس والفياجرا حتى الموت، إلى قاتل بناته الخمس في سوهاج، وقاتل عائلته بأكملها في البساتين، إلى تلك التي سلقت لحم زوجها بعد ذبحه...)
وانتهاء بفظاظة العيش وتداخل كل موبقات المجتمع، إلى الذهن المريض المعتل المختل في تصورات انتقامية ولعل الاجتهاد الذي يتبادر على الذهن هو أن هذا الشاب (العاطل) يحسد كل هؤلاء (العَشرَة) على حياتهم وعلى رضاهم بالمقسوم. حَسدَ الرجال على أنهم متزوجون وعلى استخدام أعضاءهم التناسلية وكذلك النساء أفسد أعضاءهن عقاباً لهن، وحتى ذبحه للحمام ربما جاء اعتراضاً على رفرفته، وعلى حياته، فلا يحق له أن يحيا ويرفرف على موتى أحياء .
أين هو هذا القاتل أياً كان ذلك الذي اعترف أو غيره (لأن الثقافة المصرية ترفض الأدلة وسهولة الاصطياد والاعتراف وتؤمن وتتلذذ بتعقد الجريمة وتشابكها على طريقة أجاثا كريستي)، ولأن هناك اعتقاد بأن الداخلية قد أمرت رجالها بسرعة، للتحري والقبض مما أشعر الناس بروح الفبركة، إن هذا القتل الجديد، غير العادي، المتعمد مع سبق الإصرار، لا ينفك بعيداً عن ثقافتنا الحالية المشوشة الفسيفسائية (متعددة الألوان و الأشكال) الفاقدة الهوية، المائعة الهدف والمعتمة الرؤية ؟ !
ثقافة مجتمعية مشطورة متداخلة متشابكة مع التعدد و التشتت، المزج والخلط بين القنوات الإباحية، الفضائيات المفتوحة، الأغاني الهابطة، الصحف الفارغة، الإخباريات المدمنة لمشاهد العنف ولروح التآمر وعذاب القبور ومآسي المؤامرة، فأصبحنا كمجتمع الآن (2006) وكأننا نجُرى لحظياً جراحة ترقيعية لإضافة أجزاء صناعية إلى بنية المجتمع (ولعل الرمز المقابل هنا هو بتر القاتل لأعضاء الرجال والحفاظ عليها وإذا كان أرضية البيت من تراب فيرميها على السطح ؟!)،
وكان ذلك الكابوس الذي حدث في عزبة شمس الدين نوعاً من التكيف المباشر والمروع لعنف وشظف الحياة اليومية، وكأنه رغم الخوف والرعب والهلع نوعا من الإدمان على العنف، ربما يسدّ الرمق ويطفئ الظمأ في مجتمع مصر الحديثة، بمعنى ظهور ما يمكن تسميته بـ (المجال المريض، المنطقة الموبوءة) في المجتمع، انبثاقها تطورها حتى آل الأمر إلى ما آل إليه في بني مزار، هناك حميمية بين صفحات الصحف في مصر ـ مثلاً ـ وجموع الناس الفقيرة في عزبة شمس الدين (البطالة حوالي 85% ـ الأهرام الأحد 11/2006)، وكأن بعض الناس موجودون في هذا القاتل، والبعض الأخر هو تلك الأسر وأفرادها الضحايا العشر، لنا هنا أن نسأل أسئلة بدائية جداً ربما ننعطف عن إجابتها قليلاً أو ننفرج كثيراً لاستيضاح الأمر ؟! ....
ما الذي كوّن هذا القتل وهذا القاتل ؟ ولماذا وهكذا وكيف أصبح ؟!
كيف ولد وتربى وتعلم ونشأ، وهل كان على دراية بالعنف الديني وعنف الانتخابات البرلمانية القاتل 2005 مثلاً ؟!
أن الإجابة على كل تلك الأسئلة ليست سهلة على الإطلاق حتى مع الاعتراف ووجود الأعضاء التناسلية المبتورة. إن القاتل المتسلسل (بمعنى أي قاتل سواء كان يعاني من الفصام أم لا ) لديه ذلك الدافع القهري التسلطي للعنف، وكأنه يتمزق بين قطبي (الجهل والفقر والمرض ) و (الجنون ـ بكل لوعته ومأساته وجحيمه )،
إن التعريف الجنائي، الطبي النفسي للقاتل المتسلسل يكاد ينحصر في مصطلح (تعريف الحدث) Naming Event، تبدو هنا المسألة مركبة للغاية : كيف؟ بالفعل ـ يمكننا تعريف حدث عزبة شمس الدين ببني مزار المنيا في مصر 2006؟
المسألة أعقد من تفسير بسيط للداخلية، أو للمستشفى العقلي لأن المصطلح والمفهوم لا (يقنن ولا يصنع)، لأن إطلاق الأحكام على عواهنها يضع على أعناقنا كلنا طوقاً حديدياً، فكأننا ننظر إلى شخص واحد (قاتل، سفاح، مجنون، مخبول) نسكب فيه كل سوءاتنا وعيوبنا النفسية، الاقتصادية، السياسية، التعليمية، الدولية، والاجتماعية، كل أفعالنا المشينة، تجاوزاتنا، حماقاتنا، خيالاتنا المعلنة والمكتومة الدفينة والمريضة، كل نواحي قصورنا في حق أنفسنا كأفراد وكجماعة، كدول وكمؤسسات، كصحة ومرض، كأسرة وأرض وغذاء وهواء وكساء ولحم ودم وأعصاب ويبدو الأمر هنا كدورة فارغة من الممكن ببساطة ربطها بحريق قطار الصعيد وحريق مسرح بني سويف وكل منهما على بعد كيلومترات من عزبة شمس الدين..نعم.
هذا القاتل يرقد في بطن المجتمع الرخوة، يشير بأصبعه أو بساطوره أو بسكينه ليبتر ويقطع ويشوه الأحلام والحمام والرٌضّع... إنه خارق مخترق للبناء الاجتماعي المعطوب (مجتمع مليء بمنظمات حقوق الإنسان وهيئات نسويه ومنظمات دولية وغيرها)، ولا احد يهتم بظاهرة العنف المتنامي تغرقنا البرامج الهوائية والأرضية والصحف السيارة، تغرقنا بسيل من الانطباعات وجنرالات العلوم الوصفية وكأنهم يرسمون لوحة (اسكتش) للشيطان وهم كلهم ونحن كأننا الملائكة نحاول أن نداوى بالبلسم الشافي الجروح الغائرة، ترى هل نخاف ونرتعد ونوصد أبوابنا خشية أن يكون الجار (فصامياً نادراً سفاحاً) ينتظرنا.
أم ننزل على السلالم خوفاً من لقائه في الأسانسير، أو خوفاً من أن يصبح أحدنا، أم نناقش تركيبة الوزارة الجديدة (هل ننتظر الزبد من خض الماء)، هل لوزير الصحة الجديد أن يخبرنا عن مشروع تطوير الصحة النفسية في مصر الذي تدعمه فنلندا منذ عام 2000؟، هل هناك مسح صحي إحصائي للمرضى النفسيين في مصر؟، هل هناك ميزانية حقيقية للدواء النفسي الذي أصبحت أسعاره أغلى من اللحمة بمراحل؟ هل الحال بمستشفياتنا العقلية (تمام) هل هناك مواكبة للعلاج الحديث (مجتمعياً ومن خلال الفضفضة العلاجية المهمة والمهملة)، هل هناك مثلاً (حملة قومية ضد الاكتئاب)،
هل هناك دراسات تربط بين الواقع بكل مرارته واضطرابه وتشاؤمه وبين ظهور العنف بهذا الشكل أما أنها فقط واصفة محللة؟، هل هناك بحوث لدراسة المرض العقلي بهذا الشكل اختلافاً وتنوعاً، هل يمكن أن تصبح الأمور أفضل ولا نرى رجلاً عارياً في وسط الطريق العام مغطى بالوساخات وكل أنواع الفضلات الآدمية لأنه (كان ينظف بالوعة المجارى) نعم ـ في القاهرة في 2006 ـ وهو يعتبر موظف عام في عصر القرية الذكية، والحكومة الذكية، وثورة الاتصالات وسهرات رأس السنة التي تفوق كل وصف وكل حَدّ .
أن كل هذا العنف في عموم مصر ما هو إلاّ عَرًضْ وانعكاس للأزمات الاجتماعية ممتزجة بكيمياء المخ العصبية في حيرتها ونزوعها إلى التعكير الشديد، هل لنا أن ندرك وأن نعلم يقيناً أن البيئة المحيطة بكل سلبياتها وتوحشها تؤثر على كيمياء المخ العصبية فتولد الجنون والحماقة والقتل والاغتصاب لدى أفراد ليس لديهم أي استعداد وراثي ولا شخصي.
بمعنى انبثاق شريحة جديدة من الناس يتكوّن فيها الخطر والظلم والحرمان، هل نملك شبكة من (المعرفة والقوة) تمكننا من الرصد، العلاج والوقاية ممن يستمتعون بإراقة الدماء وبالرشوة والفساد كذلك، إن ذلك التوتر المجتمعي الذي نعانى منه الآن شديد جدّ شديد ونحن نزحف بالفعل على أرض ثلجية، ببطن رخوة وعضلات واهنة !! وهم هناك في مصر الأخرى يحتفلون بافتتاح فيلم (رعب) باسم (أجنبي) وسط القاهرة (اندفع) شاب شاذ نفسياً جنسياً وسط الجمهرة إلى ممثلة فاتنة ودسّ فيها في موطن عفتها أصابعه مما أحدث نوبة من الفزع.
هل هذا الشخص (رغم أنه ضرب بالشبشب) مختلف عن قاتل بني مزار وهل هو مختلف عن سائق أتوبيس النقل العام الذي تمهل ثم توقف وسط الطريق العام ليبصبص هو والكمساري والركاب وليحملقون في غادة حسناء تتمشى مع كلبها على الرصيف المقابل؟!، أم أن السلوك واحد، أم هو مشروع السفاح الجنسي يغتال الحسناوات بأصابعه أو بساطوره. تري كم قنبلة موقوتة وكم لغم مدفون وكم مشروع لألم وحزن وانقباض وتشاؤم، لا نريد أن نعد و لكن نريد أن نرصد وان نعالج وأن نقاوم وأن نخطط للوقاية. ما أمكن ذلك...
4/1/2006
اقرأ أيضا:
سر الخلافات الزوجية المتكررة / المصريون والعفاريت(3) / لمصريون ....والتربص الاجتماعي / المجتمع المصري وظاهرة رجل الأسرة الطيب