لا يستطيع المرء أن ينفكَّ أبدًا عن التأثر بطبيعة مهنته، وأرجو ألا أقضَّ مضجع سيبويه بتلك القسمة الغريبة على باب النحو، وإن كنت أرى أني لست أول من سيقضُّ مضجعه! فقد تمرَّس على ذلك من قبل كثير من مذيعينا ومحاورينا وخطبائنا! حتى صار تعبير "أقض مضجعه" بالنسبة لهم تعبيرًا يحتل من الرقة قمتها؛ والحقيقة أنهم قد نبشوا قبره وطحنوا هيكله العظمي وذروه للرياح!!
هناك نظرية في النحو تعتمد على تحليل الجملة النحوية إلى بِنْيتين؛ بنية سطحية وبنية عميقة، ولقد أثارت تلك النظرية في خَلَدي محاولة لتأمُّل "نوبة الهلع" من الناحية السطحيًّة ومن الناحية العميقة؛ ودون أن أصرِّح باستنادي لشيء من الناحية العلمية الطبيَّة (إلا إذا كانت معاناة المرض مستندًا يصحُّ؛ على مذهب: "اسأل مجرِّبًا ولا تسل طبيبًا"!) فقد توصلت لنتيجة تتمثل فيما يلي:
إذا أردنا أن نحلل مفردات "نوبة الهلع" استنادًا إلى تلك النظرية النحوية! فإننا نستطيع أن نقسم "جملة الهلع"، وهي في رأيي جملة "فعلية"! إلى هذا التقسيم:
أولاً: من ناحية البنية السطحية:
ثانيًا: من ناحية البينة العميقة:
والتي هي حسب النظرية تحتاج إلى شيء من التدقيق؛ فإنني أستطيع وبكل ثقة أن أقسمها إلى التقسيم التالي:
وتقول لي أين تقع نوبة الهلع من ذلك التقسيم؟!
فأقول لك:
نوبة الهلع في هذا التقسيم.. لا محل لها من الإعراب!!
يتساءل أخ مريض من أمثالي: هل تعني أن نوبة الهلع لا ذنب لها فيما يحدث؟ ولا يد لها في الأعراض التي تنتاب المصاب بها؟!!
أقول له وبكل ثقة مرة أخرى: نعم!
فما لاحظته إلى الآن من خلال بداية معرفتي (غير السعيدة) بتلك النوبة، مرورًا بالتعرُّف عليها والقراءة حولها، ووصولاً إلى درجة ما من القدرة على التحكُّم بها.. أن مصدرها هو الشخص المريض نفسه (أنا وأنت)؛ مما يُحدِّث قدرًا من التشويش يتمثل في الصورة التي يأتي عليها تعبيرنا جميعًا نحن المرضى عن مصدرها؛ والتي لا تخرج عن إحدى تلك الصور:
٠ لا أدري لها سببًا محدَّدًا.
٠ لا تأتيني في أوقات معينة.
٠لا تحدث لأسباب معينة.
٠ تأتيني بصورة غير متوقعة.
ولعل هذا هو أصعب ما في "نوبة الهلع"؛ بحيث إننا لو أمكننا التغلب على ذلك الشعور لأمكن التخفيف من حدَّة تلك النوبات بدرجة ما.
فمن المعروف أن الأعراض الجسدية المصاحبة للنوبة؛ من تسارع دقات القلب والتعرُّق وجفاف الحلق والشعور بأن النفَس غير كافٍ والشعور بحرارة في الوجه وبعض أجزاء الجسم..... قد تحدث للمرء في كثير من الأحيان والظروف؛ فتحدث مع الجري لمسافات طويلة، وفي حالات الخوف الطبيعي من أشياء محددة، وقد تحدث مع بعض حالات مرض القلب المحضة، بل قد يحدث ما هو أشدُّ منها في حالة ممارسة الحب بين زوجين!
الفرق بين تلك الحالات وحالة الهلع:
(1) أن الأعراض في نوبة الهلع غير مسبَّبة؛ فتحدث تلك الأعراض الجسدية بلا أدنى سبب ظاهريًّا؛ أثناء مشاهدتك للتلفاز، أو أثناء تناول الطعام، أو وأنت تلعب مع طفلك، أو وأنت ذاهب إلى النوم والاسترخاء، وربما تكون عائدًا من الصلاة... إلخ!
(2) الجهل بالسبب هذا يدفع المرء إلى قمة الضيق، فالإنسان بطبيعة الجانب المادي فيه لا يحب الأمور المجهولة وغير المتوقعة؛ خاصة إذا كانت أمورًا سيئة، مما يزيد من حالة التأزم النفسي ويضيف إلى الأعراض السابقة أعراضًا أخرى لا تقلُّ قسوة؛ يتمثل بعضها في الرغبة في الصراخ أو البكاء والشعور كأنك على حافة الجنون أو الموت.
كل هذا مما يجعل المريض دائمًا في حالة استنفار (القلق التوجُّسي)؛ خشية أن تهاجمه تلك النوبة تارة أخرى، ويكون أكثر خوفه هو أن تحدث له في جمع كبير، أو في وسط أناس يقدِّرونه أو يعتمدون عليه، أو حتى في الشارع حيث لا يتوقع المساعدة!!
ومن هنا تبدأ المشكلة؛ فتتحول الحالة العرَضية (ربما) إلى حالة مرضية متكررة، ومع الوقت تسوء ردود الأفعال تجاهها، ويحاول المريض الخروج من الحالة التي هو فيها؛ والتي غالبًا ما تكون حالة من السعادة، إلى وضع آخر، فيغلق التلفاز، أو يتوقف عن اللعب مع طفله، أو يترك السرير ويذهب إلى مكان آخر، ويبدأ الشرود والقلق والخوف، والدائرة المغلقة التي يدور فيها المرء، والتي يعلمها جيدًا من يتعرض لتلك النوبات المقيتة.
هذا تصور بسيط من مريض؛ لعله يصيب أو يخطئ، على وعد بمقالة أخرى أوضِّح فيها بعض الوسائل التي يسَّرها الله لي ونصحني بها طبيبي الفاضل، والتي مكَّنتني من تحقيق درجة مقبولة من التحكم في تلك النوبات.
واقرأ أيضًا:
نفسي عصابي: اضطراب هلع Panic Disorder / نفسي عصابي: نوبة هلع Panic Attack / الهلع.. دليل المساعدة الذاتي (1-4)