لقد حبانا الله بنعمة الكلام لنعبر بها عما يختلج بقلوبنا من عواطف، ولنعبر بها أيضا عن رغبات أنفسنا بطرق لفظية يفهمها بعضنا فيفهم البعض، إن البعض يسرف في استعمال هذه النعمة فيثرثر بطريقة تجعلنا نمل من ذلك الشخص ونعتبر ذلك عيبا ونقيصة بشخصيته، والبعض الآخر لا يقدر أن يضع هذه النعمة موضعها فلا يقدر التعبير عن رغباته، ويكون السكوت هو الرد في معظم أوقاته ومواقفه، وهذا أيضا يضايقنا كثيرا ونعتبر ذلك الشخص "قليل الكلام" شخصا قليل الحظ من الاجتماعيات وبعيدا عن فهم البروتوكولات التي تربطنا مع من يتعامل معنا من المحيطين في مواقف الحياة المختلفة.
إذن هل نتكلم؟ أم نصمت؟! هل يكون السكوت دائما من ذهب؟...
أولا: لا تسكت..............
إننا إن ركنا إلى الصمت في كل مواقفنا فسوف نشعر بالسلبية الاجتماعية ويجعلنا لا نثق بأنفسنا ويجرنا ذلك إلى الكبت، وعندما يكبت الإنسان أحاسيسه من الحب والغضب ولا يعبر عنها بطريقة ترضى طموح الطينة البشرية بداخله بأن تثبت نفسها بين الناس (Self Esteem) وأن تسمو بكيانها فوق الأحداث (Mastery Motive) وهذا الطموح إنما يعتبر من الدوافع الرئيسية بداخل كل منا (Basic Motives)، وعندما لا يقدر الإنسان في مواقف متوالية أن يثبت ذاته ويعبر عن دوافعه عندما يحب أو يغضب أو يثور لموقف ما، هذا الكبت مع تراكم السنين أثبت العلم حديثا أنه يتسبب في نقص الأمينات المخية (Brain Amines) وهى التي تمثل معينا تتولد منه معظم الناقلات الكيميائية المخية (Chemical Transmitters) مما يؤهل الشخص إلى أمراض نفسية من أخطرها اضطراب الاكتئاب الجسيم واضطراب القلق العام، إذن فمن مصلحتنا ألا نكبت مشاعرنا وألا نتوانى في التعبير عن رغبات أنفسنا ودوافعها وهنا لا يمكن أن يكون السكوت من ذهب ولكنه يكون من جبن وخجل وكبت... إلى خلل بالمخ واكتئاب.
ومن الناحية السيكولوجية:
إن دوافعنا وغرائزنا تكمن في لاشعورنا وهذا الاشعور (Unconscious) إنما هو بحر هائج يتكلم بلغة القوة والعصف والابتلاع والإغراق والعنف، ومن هنا لابد أن تتحول لغة كلامه إلى أصوات وكلمات ورسائل مفهومة اجتماعيا ويمكن تفسيرها على مستوى الأعراف والتقاليد، وهذا الدور يقوم به الأنا (Ego) الذي يتحكم في الاشعور ويخضع هو الآخر بدوره إلى حكم الأنا الأعلى (Superego)، فليس كل ما يريد الإنسان قوله يقوله أو يفعله، ولكن الكلام اللاشعورى يتم ترشيحه مرتين مرة على مستوى الأنا (بطريقة يرضاها الناس والتقاليد) وأخرى على مستوى الأنا الأعلى (بطريقة ترضى الله والقانون).
فلو سكتنا خوفا من الفهم الخاطىء من المحيطين فهذا الكبت على مستوى الأنا، أما لو سكتنا خوفا من الوقوع بالحرام أو خوفا من بطش الأنظمة السياسية فهذا الكبت على مستوى الأنا الأعلى، ومن هنا يثرثر اللاشعور برغبات وطموحات وأمنيات ولا يسمعها الأنا ولا الأنا الأعلى، فلا بد لهذا الكبت من انفجار وهو الذي يتسبب في الاضطرابات النفسية كالاكتئاب والهوس، هذا إذا كانت النفس مازالت محتفظة بترابط أجزائها الثلاثة (الوجدان-النشاط المعرفي-النشاط الحركي) الذين يتمفصلون كتمفصل التروس يدير أحدها الآخرين ويدير معهما الحياة. أما إذا زاد حجم الكبت والانفجار عندها ستتكسر الشخصية ويفقد كل جزء بالنفس اتصاله بالجزأين الآخرين وتحدث أمراض أخرى كالفصام.
هل يعنى هذا أن نثرثر في كل المواقف وندعو المستمعين للملل ونفقد وقارنا الاجتماعي؟؟!!.....
ثانيا: لا تتكلم............
إن الذي يثرثر في كلامه بطريقة غير مترابطة هو إنسان على شفا حفرة من المرض النفسي بحيث أن المكبوت بداخله قد زاد فعلا ولكنه لم ينفجر وأصبح لا يحتمل أي كبت جديد لأن لاشعوره قد تكدس بالكبت حتى امتلأ فلم يعد يستوعب أي إضافة أخرى من الكبت، وهذا الامتلاء بالمكبوت يخلق نوعا من السخونة والتوتر على مستوى لا شعور ذلك الشخص، وهذا التوتر هو الذي يطفو على السطح، ويجعل الأنا أيضا متوترا فيفقد ترابطه ومن هنا تأتى الأفكار غير مترابطة، فيلف الشخص ويدور حول فكرة ما ولا يصل إلى هدفه من أقرب طريق بل من دروب ومنحنيات ومنعطفات، بطريقة يمل منها سامعه ويحط من قدره ويعتبره ثرثارا وقد يكون الشخص الثرثار إنما يحاول أن ينسى عقدته ويعوض نقصه اللاشعوري عندما يهفو من داخله لشيء لا يقدر أن يصل إليه في واقعه فيأتي كلامه كله يدور في فلك حلمه المكبوت أو في إطار يخالف العقدة العاطفية التي يشعر بها كأن يكون الشخص رافضا وضعه المغمور وحالما بالشهرة والثراء فيأتي كلامه يلف ويدور حول قيمته بين الناس ومواقفه الشيك وبذخه ونوادره المليئة بالمفاجئات وكأن يكون الشخص دميما ويشعر في نفسه بقبح فترى كلامه كثيرا حول غرام بنات حواء برجولته وشهامته ولباقته....
هذا الشخص الثرثار إذا عجز عن تعويض نقصه بكثرة كلامه يبدأ عندئذ في بداية الاعتلال النفسي فيفقد تركيزه ويبدأ مزاجه في التقلب السريع وتصبح شخصيته تحت هوسية (Hypomanic Disorder)، وإذا شعر بالإحباط أمام ضغوط الحياة فان القنبلة المكبوتة تنفجر ويصبح مريضا مصابا بالهوس (Bipolar-Manic Disorder)، إذن فأيهما من ذهب... الكلام أم السكوت؟؟؟!!!
إن الشخصية المتزنة الناضجة هي التي تجيد لغة الصمت والكلام بمعادلة صعبة غير ثابتة تتغير باختلاف المواقف فأحيانا يكون نداء اللاشعور قويا وصوته صاخب فلا ينفع هنا السكوت فلابد بأن نتكلم بأقرب لغة يقبلها الواقع ونكون عندئذ قد أرضينا أنفسنا أقصد لاشعورنا وأرضينا الأنا أقصد الواقع ولا نكون قد اقترفنا مخالفة شرعية أو قانونية أقصد الأنا الأعلى.
واقرأ أيضاً:
الجديد في مرض الزهايمر / النواحي النفسية والعصبية للاضطرابات الجنسية (3) / الهاتف المحمول والقتل البطيء(4)