لكي نجيب على هذا السؤال يحسن بنا أن ننظر إلى عدد من الدوائر فنبدأ من الدائرة الأوسع، وهي الدائرة الدولية حيث أطاح القطب الأوحد في هذا الزمان (أمريكا) بالقانون الدولي والشرعية الدولية وتواطأت معه القوى العالمية ونافقته فأصبح هناك شعور عام بالظلم والإحباط والقلق، هذا الشعور يسد منافذ البهجة وينذر بمخاطر كثيرة قادمة إضافة إلى المخاطر القائمة.
فإذا انتقلنا لدائرة العالم الإسلامي وجدنا تشرذم وعدم اتفاق حتى على أبسط الأشياء مثل رؤية هلال رمضان، ورأينا هجوماً كاسحاً على المسلمين ومحاولات يومية لوصمهم بالإرهاب ووصم ثقافتهم بالجمود وعدم الملاءمة مع روح العصر ووصم سلوكهم بالاضطراب ورؤيتهم كناقصي أهلية يحتاجون لتأهيل القوى العالمية المسيطرة.
فإذا انتقلنا للدائرة العربية وجدنا أمراضاً مزمنة مثل الاستبداد والتخلف والنزعات القبلية والانقسامات والمؤامرات والتحالفات المهينة والاحتلال العسكري المذل وغياب الحد الأدنى من الاتفاق على أي شيء وحالة الاستسلام المخزي والانبطاح المذل والهزائم المتكررة التي يشاهدها الناس كل يوم في وسائل الإعلام، ولا يغير هذا الوضع العام بعض نبضات المقاومة هنا أو هناك، تلك النبضات التي يبتلعها صمت عربي تفوح منه رائحة المؤامرات.
وإذا انتقلنا إلى دائرة المجتمعات المحلية وجدنا جموداً في كثير من جوانب الحياة لا يتناسب مع عصر سادت فيه الحركة وسادت فيه الشفافية ووجدنا مجتمعاً أبوياَ يقوم على سلطة أبوية مطلقة تملك كل شيء وتدعي معرفة كل شيء مقابل من تعتبرهم أطفالاً قاصرين عن معرفة الحقيقة وقاصرين عن إدارة شئونهم وهم مخطئين دائماً أو معرضين للخطأ ومذنبين، وهذا الوضع الاجتماعي الأبوي يستلزم افتراض العصمة والسيطرة دائماً للأب (الراعي أو الناقد أو كليهما) ويستلزم افتراض القصور والخطأ والذنب والخضوع دائماً من الابن. تلك العلاقة البائسة التي تغيب أي شعور بالتكافؤ وأي فرصة للتواصل الصحي وأي إمكانية للسعادة الحقيقية وأي نبضة للنمو.
فإذا انتقلنا للدائرة الأسرية نجد فكرة المجتمع الأبوي تسيطر أيضاً على جو الأسرة فهناك الأب (أو الأم) الراعي أو الناقد أو كليهما يملك كل شيء ويتحكم في كل شيء (حتى زوجته) ويعرف كل شيء، في مقابل أبناء قاصرين عاجزين لا يملكون خيارات خاصة بهم ولا يقدرون على الحركة دون توجيه الأب ومباركته، وهذا وضع أيضاً يسد منافذ السعادة والنمو الصحيح وإذا انتقلنا إلى الدائرة النفسية للأفراد أنفسهم نجد أن فكرة المجتمع الأبوي تسود داخل دائرة النفس فطبقاً لرؤية عالم النفس اريك برن فإن النفس البشرية تتكون من ثلاث ذوات: ذات الوالد (وهي تحوي القيم الأخلاقية والدينية وتهتم بما هو صحيح أو خطأ وحلال أم حرام وشرعي أم غير شرعي) وذات الراشد (وهي ذات موضوعية تهتم بالمكسب والخسارة ولها رؤية متوازنة ومنطقية للأمور) وذات الطفل (وهي الجزء من النفس الذي يتميز بالانطلاق والعفوية والإبداع والمرح والرغبة في التغيير والاستمتاع).
وذات الوالد تنقسم إلى قسمين: الوالد الراعي (وهو المحب الحنون الذي يعطي أبناءه ويعمل من أجل راحتهم) والوالد الناقد (الذي ينتقد أبناءه دائماً ويلومهم على تقصيرهم ويراهم دائماً مذنبين وغير جديرين بالثقة).
وذات الطفل تنقسم إلى قسمين: الطفل المتكيف (وهو الطفل الخاضع المستسلم الملتزم بالقواعد التي وضعها الكبار دون سؤال) والطفل المبدع (وهو الباحث عن التغيير وعن الرؤية الجديدة للأشياء والمندهش دائماً لكل جديد, والمرح والتلقائي والمنطلق)، ونحن نلاحظ سيادة ذات الوالد (خاصة الناقد) في نفوس الكثيرين من أفراد مجتمعنا بحيث تتضخم هذه الذات على حساب ذات الراشد (صاحب الرؤية الموضوعية المتوازنة) وعلى حساب ذات الطفل (صاحب الرؤية الإبداعية والباحث عن المرح والانطلاق)، ونلاحظ ضموراً واختناقاً في ذات الطفل مقابل تمدد ذات الوالد وتضخمها، وهذا يجعل التكوين النفسي تكويناً أبوياً ناقدا، وهذا التكوين الأبوي الصارم والمتجهم حين يسود الجهاز النفسي منفرداً (بعيداً عن ذات الراشد وذات الطفل) يؤدي إلى حالة من فقد الإحساس بالحياة وفقد الإحساس بالمرح والجمال ويؤدي إلى جمود الحركة النفسية وإلى حالة من الكآبة والرتابة والميل للحزن، ويقال هنا أن ذات الطفل المسحوقة أو المختنقة تبكي من طغيان ذات الوالد (خاصة الناقد المتجهم والصارم).
وقد كانت هناك مسرحيتان تمثلان هذا الصراع (بصرف النظر عن موافقتنا أو رفضنا لأسلوب المعالجة) وهما مسرحية مدرسة المشاغبين ومسرحية العيال كبرت، تلك المسرحيتان تهاجمان (بسخرية) فكرة المجتمع الأبوي، فالأب ليس بالضرورة حكيماً أو محقاً والأبناء ليسوا بالضرورة قاصرين، وحتى لو كانوا قاصرين فإن ذلك يعود لتحكم الأب واستبداده غير المنطقي وسذاجة الأم أو غيابها عن مسرح الأحداث.
وقبل ذلك كان عمل نجيب محفوظ في الثلاثية حيث جسد شخصية الأب المسيطر والمستبد (السيد أحمد عبد الجواد) والذي يلغي كل من حوله ويظهر في صورة تحوطها هالات التبجيل والاحترام والخوف في حين أنه مع أصحابه بداخله طفل يلهو ويلعب ويمارس نزواته ويضعف أمام شهواته ويغطي كل ذلك بقناع من الشدة والقسوة خاصة حين يعود إلى بيته حيث يسود الرعب سائر أفراد الأسرة بما فيهم زوجته ويختبئ كل من أبنائه في ركن يحتمي به.
وللأسف الشديد فإن هذه الأعمال وغيرها التي حاولت أن تهز من السلطة المطلقة للأب من خلال تسفيهه وكشف نقائصه لم يواكبها نمو حقيقي لذات الطفل وذات الراشد في النفس وفي المجتمع، وهنا اهتزت صورة الذات الوالدية دون أن تنمو الذوات الأخرى بالشكل الكافي, وقد أحدث هذا أزمات نفسية واجتماعية ربما نجد من مظاهرها غياب سلطة المدرسة والمدرس في شكلها التقليدي وفي ذات الوقت غياب حالة الرشد في سلوك الطلاب فانفرط العقد التعليمي أو كاد أن ينفرط وأصبح المدرس يشعر أن سلطته مقيدة أمام طالب مستهتر لا يعرف ماذا يريد.
والرسالة الإعلامية بكل أشكالها تهز الرموز الوالدية بشكل مباشر أو غير مباشر ولكنها في المقابل لا تسعى إلى تنمية ذات الطفل وذات الراشد في نفوس الناس وفي الحياة الاجتماعية وهذا يؤدي إلى انفراط العقد وغياب التوازن والتناسق والتكامل الذي يقتضي وجود الذوات الثلاثة (الوالد والراشد والطفل) وتناوبهم العمل في مرونة حسب ما تقتضي الظروف والمواقف وتكاملهم داخل إطار الشخصية على أن تكون ذات الراشد الموضوعية هي المنسق والميزان لبقية الذوات.
وفي المجتمعات الغربية نشطت ذات الراشد فوضعت النظم والقوانين وضبطت إيقاع الحياة بما يحقق المكاسب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأطلقت ذات الطفل بلا حدود، ولكن جاء ذلك على حساب ذات الوالد التي ضمرت وانسحبت ولم يعد لها وجود متوازن بجانب الذاتين السابقتين، وهذا أيضاً خلل في التوازن نتج عنه تراجع الموازين القيمية والأخلاقية والدينية، وأغرى ذات الراشد وذات الطفل بالعدوان على الآخرين وسلب ثرواتهم دون أي اعتبار للشرائع والقوانين، وقد واكب ذلك تحجيماً أو إلغاءاً لدور الأمم المتحدة حتى تخلو الساحة من قوى الضبط والشرعية.
هذه الحالة من عدم التوازن خاصة في شرقنا العربي والإسلامي يصاحبها حالة من التوتر والضيق والكآبة وعدم الطمأنينة للمستقبل، ويتبع ذلك علاقة سالبة بين الأبناء والآباء وبين الطلاب والمدرسين وبين المرؤوسين والرؤساء وبين الشعوب والحكام، تلك العلاقة القائمة على قواعد لعبة "القط والفأر" (الطفل والوالد), فهناك مستوى سلطوي أعلى (الأب، المدرس، الرئيس في العمل، الحاكم) يقهر ويتحكم في المستوى الأدنى، وذلك المستوى الأدنى (الأبناء، الطلاب، المرؤوسين، الشعوب) يتحايل ويخدع المستوى الأعلى ليتجنب بطشه وحكمه، ويجسد هذا الموقف عنوان لمسرحية هو "لما بابا ينام"، وأغنية انتشرت بقوة في الفترة الأخيرة يقول فيها أحد الأبناء: "أمي مسافرة وهاعمل حفلة بس ياريت ماتجيش على غفلة"، وواضح جداً الرغبة في مغافلة سلطة الأم (تلك السلطة الجديدة المستحدثة بعد غياب سلطة الأب نظراً لسفره أو انشغاله بالعمل الطويل).
وهنا تبدو ضرورة إعادة التوازن بين الذوات المختلفة داخل النفس (الوالد والراشد والطفل) وما يستتبعه من إعادة التوازن بين الجميع على المستوى الأسري والاجتماعي والسياسي والدولي، حيث يعرف أنه لا سلام ولا محبة ولا سعادة إلا تحت مظلة العدل والتوازن داخل النفس وخارجها.
اقرأ أيضا:
بين الإبداع والابتداع / قانون منع التمييز العنصري / طريق يشوع: من غزة إلى بيروت / لماذا غابت البهجة عن حياتنا ؟ / المصريون والجن(3)