أحد الأصدقاء كانت توكل إليه مسئولية الإشراف على لجان الامتحانات في أماكن مختلفة وكان موسم الامتحانات بمثابة أزمة حقيقية له ولأسرته وللجان التي يشرف عليها، فقد كان الرجل من ذلك الطراز الذي يرفض الغش بكل أنواعه وكل درجاته، ولا يقبل الحلول الوسط أو الحلول التوفيقية أو التلفيقية أو الموائمات أو المساومات أو المجاملات أو التهديدات، وفي أكثر من مرة كان ينجو من الموت بأعجوبة.
فقد كان أهل الطلاب يتحرشون به وينتظرونه خارج اللجنة ليفتكوا به لأنه ضيق عليهم الخناق فلم يأخذوا حقهم في الغش، وكان يتم هذا في أحيان كثيرة بإيعاز من بعض المراقبين ومشرفي الأدوار الذين كانوا يرفضون أسلوبه المتشدد (في نظرهم) في المراقبة وكانوا يحرضون الأهالي عليه بشكل مباشر أو غير مباشر، وكان الخطر يتفاقم إذا كانت اللجنة في أماكن ريفية نائية حيث العائلات والعصبيات وحيث انعدام وسائل الحماية لغريب جاء ليتحكم في مصائر أبنائهم ويمنع عنهم حقا من حقوقهم التي اعتادوا عليها سنوات طويلة.
وحين كان يحاول طلب الحماية من الأمن لم يكن يجد أذنا صاغية بل كانوا يعتبرونه مثيرا للمشاكل والقلاقل والشغب بسلوكه المتعنت تجاه محاولات الغش المعتادة، وكانوا يعتذرون له بلباقة (أو بدونها) بأن القوة غير كافية لمواجهة بلدة أو حي أو قرية، فما كان منه إلا أن يضع روحه على كفه ويخرج من اللجنة معرضا نفسه لأخطار عديدة. ونظرا لكثرة المشاكل في هذا الشأن قرر الاعتذار عن رئاسة لجان الامتحانات، وقبلت الإدارة اعتذاره بسرعة وسهولة (على غير عادتها في هذا الشأن وفي غيره) ربما تفاديا لمشاكل كثيرة سببها لهم.
وعايشت محنة أحد رجال الأمن حين حاول التصدي لمحاولة غش جماعي بالميكروفون أمام أحد المدارس يقوده أحد الأعيان، وكانت النتيجة أن ذهبت شكاوى في رجل الأمن تقول بأنه أهان هذا الرجل من الأعيان وأهان أهل هذه البلدة، فجاءت حركة التنقلات لتدفع برجل الأمن هذا إلى إحدى محافظات الصعيد.
ورأيت في يوم من الأيام مشادة بين اثنين من أعضاء هيئة التدريس في أحد الجامعات وعلمت أن سببها أن أحدهما قد وصّى الآخر على أحد الطلاب ثم اكتشف أنه لم يقم بعمل اللازم كما يتوقع هو وهو الدرجة النهائية بلا نقصان على الرغم من أن هذا الطالب –كما ذكر عضو هيئة التدريس الآخر– لم يفتح فمه بكلمة إجابة واحدة تبرر إعطاءه أي درجة ناهيك عن الدرجة النهائية.
قد تكون شعرت بالضيق والملل أيها القارئ وتقول: وما الجديد في ذلك؟.... وهذه هي المشكلة أن أمر الغش في الامتحانات لم يعد يثير انفعالا ذا قيمة عند مستقبله، فالأمر لا يعدو شقاوة طلاب أو رأفة مراقبين أو حرص أولياء أمور على نجاح وتفوق أبنائهم. وهذا جزء من الخلل الذي أصاب الضمير العام فأصبح لا يستنكر بعض الظواهر الاجتماعية مثل الرشوة أو الغش في الامتحان، وحتى لو تحدث عنها فإنه يتحدث عنها كأمر واقع لا مفر منه، وأن هناك أشياء أهم وأخطر جديرة بالحديث فيها وعنها.
والغش في الامتحانات تكمن خطورته في أنه التجربة الأولى للغش في الحياة لذلك فهو البذرة الأولى لكل أنواع الغش والتدليس في أي مجتمع مثل التزوير في الأوراق الرسمية (تذكر خروج الشباب في مصر للدفاع عن مطرب شاب حوكم بسبب تزويره لشهادته الدراسية ولشهادة إعفائه من الخدمة العسكرية ودلالة ذلك على الميزان القيمي له ولهم)، وانتحال الشخصيات، والخداع في الخطبة والزواج، وتقديم ضمانات وهمية للبنوك للحصول على قروض يتم تهريبها والهرب معها، وتزوير الانتخابات، واغتصاب حقوق الشعوب، إلى آخر ذلك من الجرائم التي تنتمي في بداياتها إلى استحلال الغش في الامتحانات من الطالب ومن المراقب ومن المجتمع.
والآن نحاول أن نستقرئ التركيبة النفسية للغش في الامتحانات وذلك بقراءة طبيعة ودوافع أطراف هذه العملية كالتالي:
* طبيعة ودوافع من يغش:
من يقوم بفعل الغش يمكن أن يندرج تحت أحد الأنماط التالية:
1 – الطمّاع: وهو الذي يريد أن يأخذ أكثر مما يستحق وأكثر مما تسمح به ملكاته وقدراته
2 – اللص: وهو الذي يسلب الآخرين ممتلكاتهم وحقوقهم (الفكرية في هذه الحالة)
3 – المغامر: وهو الذي يجد في الغش نوع من المغامرة والمخاطرة يسعد بها لأنها خروج عن المألوف يعطي شعورا بالقدرة على الأعمال الاستثنائية وعلى اختراق الحواجز
4 – المتمرد: فالغش هنا خروج على السلطة (المدرسية أو الاجتماعية أو السياسية) وكسر لقوانينها وخداع لها، وكل هذا يعطي الإحساس بكسر سلطة المدرس والمدرسة والمجتمع والحكومة.
5 – السيكوباتي: الذي لا يحترم نظم وقوانين المجتمع ويعيش لرغباته ومكاسبه ولا يتعلم من أخطائه.
6 – السلبي الاعتمادي: الذي لا يحب أن يتعب أو يجتهد في تحصيل العلم ولكنه يعتمد دائما على جهود الآخرين ومساندتهم.
7 – الانتهازي: الذي ربما لا يمارس سلوك الغش طول الوقت ولكنه على استعداد في ظروف معينة أن يغير قيمه ومبادئه إذا وجد أن هذا سيحقق مصالحه في ظرف بعينه.
* طبيعة ودوافع من يغشش:
أما من يتطوع بإعطاء معلومات للآخرين أثناء الامتحانات فيمكن أن يكون أحد الاحتمالات التالية:
1– فاقد الثقة بنفسه: لذلك يريد أن يثبت للآخرين أنه يعرف مالا يعرفونه وأن باستطاعته تقديم العون لهم
2 – المتسول للحب: وهو شخص يفتقد الحب من الناس (أو على الأقل يشعر بذلك) لذلك فهو يتطوع لخدمتهم استجداء لحبهم واهتمامهم
3 – صاحب المروءة الكاذبة: والذي يتخيل أن مساعدة الزملاء والأصدقاء في الامتحان نوع من المروءة والشهامة والإيثار
* طبيعة من يرضى بالغش من المراقبين ورؤساء اللجان:
هؤلاء يمكن أن يندرجوا تحت أحد الاحتمالات التالية:
1 – المشوه أخلاقيا والذي اختلطت لديه الأمور فلم يعد يرى في الغش أي مشكلة بل بالعكس ربما يراه نوعا من الرأفة والرحمة للطالب ولأسرته وخدمة للمجتمع بأن ينجح أكبر عدد من الطلاب.
2 – المجامل، الذي ربما لا يرغب في تسهيل الغش ولكنه يحب المجاملات ويضعف أمامها فلا يستطيع أن يقول لا لمن يطلب منه شيئا.
3 – السلبي المستسلم الضعيف، الذي لا يستطيع أن يقول لا رغم رفضه الداخلي لهذا الأمر ومعرفته بعدم مشروعيته إلا أنه يؤثر السلامة ويتجنب المواجهة ويترك الأمور تسير كما يريد الآخرون.
4 – السيكوباتي، الذي يحقق منافع من وراء تسهيل الغش سواء كانت مكاسب مادية أو وظيفية أو اجتماعية أو غيرها، وهو في سبيل ذلك يدوس النظم والقوانين والقيم لأنه منذ البداية لا يحترمها ويعتبرها قيودا غير منطقية على سلوك.
* طبيعة المجتمع الذي ينتشر فيه الغش:
هو مجتمع سقطت فيه قيم كثيرة أهمها الصدق والعدالة واحترام العمل الجاد وجعله وسيلة للارتقاء في السلم العلمي والمهني والاجتماعي، وهو مجتمع أصبح ضميره العام معتلا فأصبح لا يستنكر مثل هذه الظواهر بل يراها أمورا بسيطة لا تستدعي القلق والاستنفار وأنها مجرد شقاوة طلاب لا تستدعي أكثر من التنبيه أو الزجر اللطيف في أصعب الأحوال، وهو مجتمع يقبل الرشوة ويقبل الكذب ويقبل تزوير الأوراق الرسمية وتزوير الانتخابات وتلفيق القضايا وتشويه سمعة الناس، وهو مجتمع لم يعد للمصلحين فيه صوت مسموع بل علا فيه الباطل وتوحّش وأصبح يفرض قيمه وموازينه بلا حرج أو خجل.
والطالب حين يمارس الغش منذ صغره فإنما هو يتعلم هذا السلوك بكل تفاصيله، وفي كل عام يتفنن في وسائل جديدة للغش مما يكسبه مهارات سيكوباتية تتراكم معه مع الزمن حتى إذا كبر صار سيكوباتيا كبيرا يخدع الناس ويسطو على حقوقهم دون أن يتمكنوا من فضحه أو إيقافه عن ذلك لأنه يكون مسلحا بقدرات غير عادية اكتسبها على مدار السنين من خبرات الغش المدرسي والغش الحياتي، وربما يصل هذا الغشاش الذكي الطمّاع السيكوباتي المحترف إلى مناصب قيادية تمكنه من نشر قيمه ومفاهيمه على مستوى أوسع في المجتمع، وبهذا يهيء وجود قواعد أخلاقية فاسدة تحتمي بقشرة زائفة من الأخلاق الواهية يخدع بها الآخرين.
ومع تزايد أعداد الغشّاشين في مواقع مختلفة نجد أن المجتمع يصبح مخترقا ومهلهلا وقائما على أخلاق نفعية انتهازية غير أخلاقية، وربما يكون التبرير لهذا التدهور الأخلاقي أن الحياة العصرية تستلزم المرونة والتعامل بواقعية وأن ما دون ذلك هو المثالية الرومانسية التي لا تصلح للحياة اليومية بتعقيداتها، وهكذا يتدهور الميزان الأخلاقي للمجتمع ككل تحت دعوى الأمر الواقع الذي فرضه مجموعة من الغشّاشين الذين سكت عن غشهم المجتمع أو تواطأ معهم فيه.
وفي المقابل نجد المكافحين والجادين والصادقين يكابدون مصاعب جمة حيث أصبحت المنظومة الاجتماعية في صالح الكذّابين والمنافقين والمخادعين واللصوص ومن يدور في فلكهم أو ينتفع منهم، وبهذا تسقط أو تضعف مع الوقت تلك الرابطة المقدسة بين العمل وقيمة العائد، فتنتشر قيم الفهلوة والنفاق والخداع.
هل ظن أحدنا في يوم من الأيام أن الغش في الامتحانات له كل هذه الأبعاد المخيفة، وإذا كنا قد ظننا ذلك فلماذا تواطئنا بالسكوت أو بالضعف فلم نقاوم هذا الوباء المستشري في بلادنا والذي يفرخ لنا كل يوم فاسدين محترفين يهددون قيم المجتمع ويشوهون فطرته. ومن هنا نفه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا".
واقرأ أيضاً:
الجانب الأخلاقى فى شخصية المسلم المعاصر / الثانوية العامة .... مرحلة دراسية أم أزمة نمو؟ / فن المذاكرة / قلق الامتحانات.