(1)
السينما في وادٍ والجمهور في وادٍ آخر، وكل فيلم مغامرة إنتاجية شبه مضمونة الخسارة، وكبار النجوم يرفعون أجورهم لأن المناخ العام يحتاج إلى ذلك، وفي مصر كلها 150 دار عرض فقط، وأغلبها لا يصلح للاستخدام. كبار المخرجين يصنعون أفلاماً حزينة، والجمهور ليس في حاجة للحزن أكثر، ودور العرض لا فرق فيها بين فيلم يعرض، وبين فترة الراحة، فهي خالية في الأغلب.
إنها مصر عام 1997 التي تبدو كمياه آسنة في كل شيء، باستثناء تجربة مضيئة يتذكرها الناس بإعزاز كبير وهي تجربة جريدة يتيمة اسمها "الدستور" استطاعت أن تؤكد أن ثمة صوت مختلف ينبض بالحياة في مصر، ويؤكد أن شباب"العشرينات" أصبح لهم صوت.
(2)
الصدفة وحدها صنعت نجاحا اسمه"إسماعيلية رايح جاي"، انفجر الفيلم ليتذكر المتأملون النجاح الشهير لأغنية "لولاكِ" وبينما انشغل هؤلاء بالبحث عن أسباب النجاح، وما الذي يحتاجه الجمهور في هذه المرحلة (وهو سؤال جديد.. فلم يكن الأمر يتعلق بالجمهور من قبل أو ماذا يريد؟)، انشغل المنتجون بتقليد التجربة الناجحة، وتحويل أبطالها إلى نجوم لتكرار الأرباح التي وصلت إلى عشرات الملايين، وانطلقت ظاهرة هنيدي ورفاقه، وانعطفت السينما المصرية في اتجاه الشباب اليائس العابث الذي يهوى الضحك فقط لأن ثقل الوضع لا يسمح بشيء آخر.
(3)
شعر الكبار بخطورة ما يحدث،لكنهم لم يكونوا يملكون من الأمر شيئا، فحين تتحدث الملايين يصمت الجميع، وتحول الإعلام بنفاقه المعروف إلى الدفاع عن "النجوم الجدد" وشباب الكوميديا، وبدأت الأسئلة "المزعجة" عن رأي الكبار في سينما الشباب، وكان أكثرهم رقة يرحب بتحفظ بهذه الظاهرة، وبدأ الانسحاب إلى الشاشة الصغيرة.. الكبار يمتنعون عن السينما.
(4)
رفض أحمد زكي الواقع الجديد، وتمسك بموقفه، وتعلق في أذيال الزعماء؛ ناصر، والسادات، ومشروع الضربة الجوية، وحليم، ونجح الأول، ونجحت الدعاية في الإيهام بنجاح الثاني.
أما عادل إمام "الملك المتوج" على عرش الكوميديا لثلاثين عاماً، فتمسك بما يقدم، وسقط "الواد محروس بتاع الوزير"، وسقط "رسالة إلى الوالي"، وسقط "أمير الظلام"، وشعر الملك أن العرش بدأ يهتز، وبدأ البعض يبالغ لدرجة المقارنة بين إمام بكل تاريخه، وهنيدي بفيلم أو أثنين، بل وتفضيل هنيدي!!
وبنجاح فيلم "التجربة الدانمركية" استطاع عادل إمام أن يبتسم مرة أخرى، وأن يستعيد الثقة في القدرة على العودة، خاصة أن هذا النجاح رافقه تراجع هنيدي في مستوى أفلامه؛ بدءً من "بلية ودماغه العالية"، ثم "جاءنا البيان التالي"، و"عسكر في المعسكر"، و"صاحب صاحبه"، وتأكد الذين قالوا أن نجومية هؤلاء الشباب مجرد موجة من صحة ما أطلقوه غيظاً.
(5)
طبيب أسنان وكاتب روائي، هو علاء الأسواني، اكتشف أن مصر كلها اختزلت في "عمارة يعقوبيان"، ورصد بشجاعة ما حدث في كل أركان العمارة، من رصيفها إلى سطحها على مدى خمسين عاما، هي تلك الفترة التي ولد ونشأ وأصبح عادل إمام خلالها نجم النجوم، وكتب "الأسواني" رواية يستطيع كل مصري أن يرى فيها نفسه، ويحدد مكانه، ويكتشف أصل الداء الذي جعل من مصر مياه آسنة تعيش فيها الطفيليات والميكروبات على السطح وفي القاع، واشتهرت الرواية بشكل لم يكن متوقعاً (إنها حالة أشبه بنجاح لولاكِ، وإسماعيلية رايح جاي أيضا)
(6)
ما حدث من 1997 وحتى 2003، كان خطير جدا في عالم وسائل العرض، حيث رأى البعض أن السينما قد تموت بين لحظة وأخرى، فقد ظهرت كاميرات الديجيتال، وانتشرت الفضائيات، والتي أكدت على أنه لا يوجد فيلم مهما كان مستواه يمكن أن يخسر بما يعني أن هناك متسع للجميع، وبالفعل تقدم أصحاب الأدوار المساعدة ليصبحوا أبطالا لأفلام كوميدية، وحدث تنوع فظهرت أفلام اجتماعية، وأخرى رومانسية، والتقط الكبار أنفاسهم بفلوس المنتج المنفذ في التلفزيون، وترشيحات لأفلام مختلفة يتسع السوق لاستيعابها وعرضها على الفضائيات بإيرادات معقولة.
(7)
تغير المناخ السياسي في مصر، بفعل الضغوط الأمريكية، وازدياد الأزمات التي يعاني منها المجتمع، واستيقظ ضمير بعض من اعتزلوا الحكم ليصبحوا في جبهة المعارضة لنظام استحق المعارضة عن جدارة، وفاحت رائحة الفساد لدرجة جعلت الصمت عليه غير مقبول، واهتمت أمريكا بما يعنيها، وجاء تعديل المادة "76" من الدستور ليكون بمثابة فتح صمام الأمان لانطلاق الأصوات التي لم يسمعها أحد طويلا إلا في الغرف المغلقة أو الزنازين، ونجح التعديل-رغم عدم الرضا عنه- في الإيهام بوجود إصلاح سياسي، ونجح أيضا في تجديد فترة الرئاسة الخامسة، ببساطة حقق كل الأهداف التي يبغيها النظام، وبعض المعارضين الذين لا يطمحون إلى أكثر من المعارضة.
(8)
تغيرت الزعامة السينمائية في الواقع، وراوح نجومها أماكنهم في لعبة أشبه بلعبة الكراسي الموسيقية، وهكذا كانت اللعبة أيضا في السياسة، فالنظام نجح في أن يصيب كل قطاعات المجتمع بالشلل، وأصابته العدوى بعد ذلك، ومع الحراك السياسي الذي حدث عفوا أو بضوء أخضر أمريكي، فإن الإحساس بالخطر بعث فيه الحياة، وبدأ يمارس شراسته وعدوانيته باختيار "فزاعة" معروفة سلفا وهي الإخوان، ليقوم من خلالها باستعادة المبادرة، خاصة مع غزو العراق، وذكرى غزوه، وكانت العصا الأمنية هي السبيل الوحيد، وفي الوقت نفسه كان الاستعداد لفكرة "التوريث" لدى الجميع قائما حتى عند من ينفي ذلك.
(9)
رأى "عادل إمام" أن عليه أيضا أن يوحد صفوفه في موقعة أخيرة، فالسينما ظل المجتمع، والضحك العبثي جاءت لحظته ثم غابت، وعلى الكبار أن يعودوا لتحقيق هدفين فنيين أو سياسيين.. لا فرق.
أولهما هو السيطرة على العمارة "عمارة يعقوببان"، وثانيهما الدفع ب "محمد عادل إمام" ليرث العمارة!!، وهو ما فعله وحيد حامد الذي تنازل لفترة عن عرشه، ورشح له كل من بلال فضل، وأحمد عبد الله، ومحمد حفظي، وأسماء كان يشعر بالقلق حيالها، فتوحد نجم التمثيل ونجم السيناريو، ومعهما في العمارة يسرا ونور الشريف، والوريثان محمد عادل إمام ومروان وحيد حامد، فهو "فكر جديد.. وعبور للمستقبل"!
(10)
في يوليو 2006 يعرض"عمارة يعقوبيان" الذي يوازي انتخابات التجديد لرئاسة عادل إمام ويسرا ونور الشريف ويورث كل من محمد عادل إمام، ومروان وحيد حامد، ويفتح الأبواب، أمام إعادة الأمور إلى نقطة الصفر مرة أخرى، فهل يحقق عمارة يعقوبيان الهدف وهل نعود من مرحلة الضحك العبثي بلا معنى إلى البكاء العبثي بلا معنى أيضا، وهل يجدد إمام ورفاقه فترة رئاستهم لجمهورية السينما ويرث محمد عادل إمام ومروان وحيد حامد البلاد؟
واقرأ أيضًا :
الآلة والإنسان في عمارة يعقوبيان(5) / عمارة يعقوبيان.. بصقة على الذات