شاهدة عيان: لبنان الذي أهديناه مكان الوردة سكينا(1)
الآن أعود وأجلس على أريكتي لأتابع الأخبار مثلي مثل ملايين العرب أشاهد لبنان أمامي تنهك وتدمر قطعة قطعة، أتجنب الحديث المجاني بلعن من يستحقون اللعنة والثناء على من اختاروا الصمود دون أن أدفع ثمنا ولكن تنفيس الغضب يباغتني من وقت لآخر
أعود بعد أن هربت من بيروت وأنا أبكيها، أعود بعد أن شهدت -بل عشت- أربع ليال من عدوان بربري على لبنان لم يرحم أحدا أو شيئا في بلد كنت أصرح للمقربين بأنني إذا ما أجبرت على الرحيل من القاهرة فبيروت هي العاصمة التي أتمنى أن ألجأ إليها، في نظري لم يكن مجرد بلد يتمتع بالجمال والحداثة بل كنت دائما ما أراه بلدا يضج بالحراك السياسي والثقافي، يجمع متناقضات تعبر عن نفسها في حرية وكأنه متنفس للعرب الذي اعتادوا في عواصمهم على هوامش الحرية الملغاة، حتى أنني كنت أقول للمقربين أنني إذا ما اضطررت إلى الرحيل من القاهرة فإن العاصمة العربية التي أتمنى اللجوء إليها ستكون بيروت، لم انتبه لكل ما سمعت من أصدقاء ومحللين –حتى في أوساط اللبنانين أنفسهم- من أن التركيبة السياسية والمؤسسية للبنان تظل هشة سريعة العطب. لبنان يملك جمالا وألقا لم نستطع عبر تجارب متكررة أن نحميه.
كانت رحلتي الأولى إلى لبنان –سبتمبر 2004- شاهدا على هذا الحراك والحيوية إذ استضافت بيروت مؤتمرا عالميا لحركات مناهضة الحرب والعولمة كان منفذا للتعرف على وجوه من لبنان بتنوعاته السياسية والثقافية بعيدا عن النظرة السائدة لدى بعض العرب باعتبار لبنان ملهى أو منتجع كبير وفقط.
واللافت أن حزب الله كان أحد المنظمين والفاعلين في هذا المؤتمر إذ قدم نفسه للحاضرين –من الشرق والغرب– ككيان مؤسسي رافضا للظلم الاجتماعي والسياسي وليس كمجرد "ميليشيا محاربة" حررت جنوب لبنان من الاحتلال الصهيوني ونظم حزب الله ضمن فاعليات المؤتمر زيارة للجنوب المحرر بود وكرم باديين للعيان.
أما الزيارة الثانية فكانت في أكتوبر 2005بعد سلسلة من التفجيرات التي كانت تؤرق بيروت من وقت لآخر منذ مقتل الرئيس رفيق الحريري وبداية أعمال لجنة التحقيق الدولي، ووسط تحذيرات الأهل والأصدقاء سافرنا للمشاركة في مؤتمر عن "الإعلام والدين" نظمه معهد للدراسات الإعلامية تابع للجامعة الأمريكية اللبنانية، وحضره عدد كبير من الباحثين والمهتمين وبدت لي أكثر من خلاله طبيعة الحالة الإعلامية في لبنان بتركيبها وتعددية أصواتها. وتخلل تلك الزيارة تعرف أكبر على الأطياف والمواقف السياسية في لبنان وخاصة على تجربة حزب الله عبر لقاء ومحاورة الشيخ نعيم قاسم – نائب الأمين العام لحزب الله.
إذن كانت زيارتي الثالثة لبيروت.. زيارة مع زوجي ضمن أيام أجازة صيفية استثنائية قررنا أن تكون أكثر استرخاء وتفهما من زيارات العمل اللاهثة.. نتأمل بيروت أكثر وقد نتجه شمالا لبعلبك وجبال الأرز.. أو جنوبا لتكون زيارتنا للأصدقاء في النبطية والذين توطدت معرفتنا بهم عبر الزيارة السابقة.
وصلنا إلى لبنان فجر 12يوليو أي قبل ساعات من تنفيذ حزب الله لعمليته بخطف الجنديين الإسرائيليين في سعيه لوضع قضية الأسرى على الطاولة من جهة وفك الحصار ودعم الفلسطينيين خاصة في غزة والذين شهدوا تدميرا ومجازر متتالية بعد عملية الخطف لجندي إسرائيلي نفذتها المقاومة الفلسطينية. وصولي وزوجي إلى لبنان لم يبعث فينا إلا فرحا وأملا بقضاء وقت مختلف.
بعد تنفيذ عملية حزب الله، انتابتنا فرحة كحال العرب الذين صاروا يتسولون أي إحساس بالنصر بعد هزائم متكررة في الداخل والخارج، أما الشارع اللبناني فكان كعادته منقسما بعض الشيء.. التحليلات السياسية على القنوات اللبنانية لا تكف عن استنطاق أطياف واسعة من هنا وهناك، أهالي الضاحية الجنوبية يوزعون الحلوى، وسائق التاكسي الذي أقلنا من الحمراء (الحي السياحي الذي يمتلأ بالمحلات والفنادق) يسب العرب وأحوالهم ويرفض أن يدفع لبنان دائما ثمن كل الجبهات العربية الساكنة الهادرة على شعوبها وفقط، ولكن حتى هذا الساخط في أحلك توقعاته كان يرى أن الإسرائيليين "عم يدونا ضربة تهد قوانا وبعدها بيروحوا على المفاوضات" في إشارة إلى أن الانتقام قادم وقد يكون عنيفا ولكنه -في توقعات الغالبية- سيكون محدودا، لم يكن أحدا يتوقع أن تصل الأمر إلى هذا القدر من الوحشية المفرطة التي تستهدف حرفيا كل حجر في لبنان.
بعد ضرب الجنوب ثم استهداف مطار بيروت اتفقت وزوجي على أن نبقى إلى أن يحين موعد مغادرتنا آملين أن يعاد تشغيل المطار، إلى أن جاءت ليل الخميس ويوم الجمعة (13–14يوليو)، نسمع الطائرات تحلق فوق رؤوسنا.. نغالب قلقنا.. نقرأ في السفير تقريرًا هاماً يعرض لعملية خطف الجنديين ويفسر كيف أن الحدث واحد ولكن معالجات وسائل الإعلام اللبنانية معه مختلفة بدا معها وكأنه حدث ليس واحدا وذلك وفقًا لكل وسيلة والتي عادة ما تحمل قناعات ورؤى تيار سياسي بعينه.
ولهذا فعلى المستوى اللبناني، وقبل تصاعد الأحداث ظلت الوسائل الإعلامية، خاصة الفضائيات تعمل وفق أجنداتها في إدارة حوارات عن الأزمة وتحليلات عن نتائجها باستجلاب أصوات مختلفة وإن أبرزت ما يتفق مع وجهة نظرها.
هذه الوسائل التي بعد تصاعد العدوان وشدته وجهت أغلبها -وخاصة التلفزيوني منها- جل طاقتها لنقل وقائع العدوان وتطور الأحداث ميدانيًّا، وظلت في هذا متفاوتة في قدراتها على الوصول للأحداث ونقلها، وكذلك في درجة تضامنها مع قرارات المقاومة.. بعضها اتخذ موقف تأجيل الحسابات وتصفيتها لما بعد انتهاء العدوان، وبعضها استمر-بدرجة ما- في التحليل للدوافع والأهداف مستصحبًا ذلك بقدر كبير من اللوم لحزب الله وما سُمّي بمحور إيران-إسرائيل، وهناك من دفعته المسئولية للتحول إلى منصة لإعلانات الإغاثة والدعم -والتخلي عن الأدوار التقليدية للإعلام بنقل الخبر وتحليله- في محاولة لشحذ الناس وتمتين موقفهم النفسي.
نغادر الغرفة وتغطيات الفضائيات.. نخرج إلى الشارع.. إلى الناس.. اللبنانيون يتابعون.. الأجيال الأكبر اعتادت الحرب ولكنها تخش على الأبناء.. القلق يستبد بنا، لكننا مازلنا بعد نرى ملامح بيروت الجميلة بأهلها وشوارعها، نخرج في محاولة للاستئناس فالتجربة تقول أن جانبًا كبيرًا من تبديد الخوف يتحقق بالنزول والحديث إلى الناس، وكان أغلبهم خاصة من الأعمار الكبيرة والمتوسطة يقولون إنهم اعتادوا الحرب: "معودين على القصف وبنضل، وين بدنا نروح".. لشعب اللبناني جميل.. يمتلك رغبة وقدرة كبيرة على التحليل السياسي، بل والعسكري أحيانًا.. اللبنانيون -لأسباب مختلفة- في مجملهم مسيّسون إلى أقصى حد، كنا بينهم في المطعم.. في الشارع.. في السينما لا نلبث أن نسمعهم يفسرون هذا الرأي أو ذاك ويتوقعون الضرب هنا وهناك مخففين من حدة توترهم.
بدأنا باختراق الشوارع الآهلة بالسكان.. الناس تجمعت.. الأسر الممتدة تلملمت.. تجلس في الشرفات يتجمعون بأعداد كبيرة حتى توزع عليهم حصيلة الخوف والقلق.
بدأنا نسمع صوت الطيارات الإسرائيلية المحلقة بشكل أوضح.. يدور الحديث بيني و زوجي.. أقول له قررنا عدم الرحيل ولكن علينا توخي الحذر، ليس من الحكمة أن نظل حتى الساعات المتأخرة من الليل في شوارع بيروت المهددة ويراجعني قائلا أن الشارع هو المكان الآمن أثناء الغارات التي تستهدف المباني السكنية ويؤكد أن الموت سيدركنا –إذا ما أراد الله– ولو كنا في بروج مشيدة.. ابتلع طعم الخوف واظهر ثباتا بتمتمة الدعاء واليقين بالتسليم وأعود لأعلق معه على ما ناقشناه مع اللبنانيين وما شاهدناه على شاشات الأخبار.
وصلنا إلى الفندق نمت في وقت متأخر وقليلا– لم أزد عن ساعتين، وصحوت على صوت انفجار هائل... استقبلني زوجي بعينيين دامعتين: "دكوا الضاحية الجنوبية يا داليا"... يا إلهي هذا الصوت والضاحية على بعد 15دقيقة منا... الضاحية التي زرت فيها مقر الأمانة العامة لحزب الله وأجريت حوارا مع الشيخ نعيم قاسم، الضاحية حيث تسكن فاطمة بري مذيعة تلفزيون المنار الذي زرناه.. الضاحية التي لطالما اخترقنا شوارعها المكتظة لزيارة الأصدقاء. شعور تام بالعجز أن تكون على ثقة من أنه على بعد خطوات منك هناك من يموتون وتدمر حياتهم وأنت قابع في مكانك تنتظر دورك دون أدنى قدرة على المقاومة. بدا زوجي يوصيني.. أدركنا أننا نواجه الموت وحيدين الآن وأن ليس لها من دون الله كاشفة.
أخذت استجمع قواي في لحظة زلزلتني.. اتفقنا على أن نصلي الفجر ونقنت لله مستخيرين في أمرنا بالبقاء أو محاولة الخروج أو قل الهروب.
أذهب للوضوء.. أنظر إلى نفسي في المرآة لأجد ابتسامة باهتة.. الآن تواجهين الحقيقة.. أدركت وقتها كم أتمتع بدرجة من النفاق وأنا منضمة لمن يكتب ليل نهار عن أهلنا في فلسطين ولا ندرك حقيقة ما يتعرضون له وما معنى أن ترتج الأرض من تحت قدميك وتشعر بالموت محيط بك.
ذهبت إلى الجنوب 3مرات وزرت معتقل الخيام وتحدثت مع كثيرين عن تجربة حزب الله وقابلت مسئولين ومناضلين منهم.. أتابع القضية الفلسطينية وأكتب عن مجتمع الانتفاضة.. وأؤمن كغيري من المسلمين والعرب بشرعية وضرورة المقاومة (مع تعدد أنماطها)، ولكن لم أدرك للحظة وأنا أقوم بكل هذا حقيقة الثمن المطلوب نفسيًّا أولاً وماديًّا ثانيًا للعب هذا الدور وتدعيمه... فقط عندما سمعت دوي الانفجار يقترب مني ومن زوجي صرت أدرك ما هو حجم المعاناة التي نطالب الآخرين بالصمود في مواجهتها.. كانت لحظة تعري لحقيقة مخبأة للنضال المجاني والطنطنة.
علينا أن نراجع مواقفنا تجاه هؤلاء الذين نطالبهم بالصمود إما أن نرتب أوراقنا ونتخذ مواقف تستشعر حجم ما يتعرضون له وإما أن نستمر مرضى بالعجز أو بوهم المساندة.
ويتبع >>>>>: شاهدة عيان: ما الذي يجري في لبنان2
أقرأ أيضا:
تسويق "الإيمان" في "سوبر ماركت" العولمة!!! / مدى تأثير الإعلام والعولمة في ضياع هوية أبنائنا؟! / فسيفساء شغل الفراغ