عفواً لغرابة عنوان هذا المقال وأعد القارئ بأن هذه الغرابة ربما تبددت إذا صبر معي حتى آخر المقال، ثم إن ما يحدث حولنا على ساحة المأساة التي تترى فصولها كل يوم هيأنا لكي نتقبل كل طارئ وكل جديد بلا دهشة ولا استغراب.. فضلاً عما صرنا عليه في السنوات الأخيرة من إدمان الهوان والتعود على الخذلان ومعاشرة الخيبات الوطنية والقومية وقد تبلد فينا الحس وسمكت الجلود بعد أن هُنَّا فسهل علينا الهوان ولم تعد جراحنا تؤلمنا وصرنا "فرجة العالم".. يري فينا الملايين بمشارق الأرض ومغاربها نوعاً من المخلوقات التي تنتمي لغرائب الطبيعة وتصلح أن تكون موضوع دراسة أنثروبولوجية ممتعة.
وسط الزحام المجنون
زحام من الأحداث والأفكار والتصريحات والاحتجاجات.. وأمطار الشجب تهطل ونداءات الاستغاثة تولول.. والضجيج يصم الآذان.. ومشاهد الانفجارات والدماء والأشلاء المتناثرة تتواصل عبر الشاشات وصفحات الجرائد فتقشعر لها الأبدان وتصيب الجميع بالغثيان.. ووسط هذا كله ينفرد رجل بمشهد العرض الرئيسي.. رجل مختلف في عصر تشابه فيه كل الرجال كأنهم خرجوا جميعاً من قالب واحد.. مغمض العينين.. مسدود الأذنين.. مقطوع اللسان.. رجل حقيقي في عصر الرجال الجوف مفرغو الرؤوس.. خاويو الصدور محشوون بالهراء.. رجل من نسيج قديم نادر لم نعد نعرفه.. رجل إذا قال فعل.. وإذا فعل التصق بفعله لا يفارقه ولا يتنكر له.
نعم.. السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله في لبنان هو ذلك الرجل.. وتلك صفاته التي تتجاوز اختلاف الآراء فيه ولا تأبه بثغاء أغنام الرجال يثرثرون في عنفوان الأزمة عن الحسابات والحكمة واختيار الوقت المناسب ويتباكون على اللبنانيين ضحايا القصف الإسرائيلي المخبول وكأن السيد نصر الله ليس لبنانياً وكأن الآلاف من جيشه وحزبه مستوردون من تايوان أو كأن هؤلاء المثرثرين يحبون لبنان أكثر من اللبنانيين.. ولكنهم نفس فصيل الانهزاميين التجار ونخاسي السياسة وسماسرة بيع الأوطان الذين يتحدثون من تحت الرمال المشبعة »بزفت« النفط فتخرج أنفاسهم بعبق أسواق المال ويتخلون لأول مرة عن جذرهم »الملكي« ليدينوا تسرع حسن نصر الله وتهوره..
ويشير إعلامهم الموبوء إلى مقاربة دنيئة توحد بين الصهاينة والشيعة تتبناها نطاعة القصد وفساد العقيدة. كما علمهم إمامهم المجدد إياه! ويقفز الجميع إلى البحيرة الآسنة.. ويتحول المشهد المأساوي إلى مشهد هزلي.. ويتحول الصراخ الهستيري إلى ما يشبه التلذذ بمضغ الكلام وتواتي الفرصة حواة اللعب بالثلاث ورقات وراقصي الترابيز على حبال السيرك ليشغلوا الجماهير بلعبته: هل أخطأ حسن نصر الله أم أصاب؟ وهل ما فعله يفيد قضية المقاومة على حساب اللبنانيين أم يقدم للإسرائيليين الفرصة التي ينتظرونها.. وهكذا يريدون تقزيم البطل الذي خرج من بين جموع »المحرومين« ليكون استثناء يثبت قاعدة المقاومة في زمن العجز العربي الفاضح.
وسط الزحام المجنون ـ وعذراً لعنوان رواية توماس هاردي ـ خرج الرجل الذي لم يكن من المفروض أن يخرج.. لأن معطيات الزمن العربي لا يمكن أن تصنع مثله.. فهو الطفرة.. أو قل الصدفة.. ولا ينبغي لنا أن نعول كثيراً على ما قد يفعله خارج إطار الرمز والمثال والأسوة.. لأنه في النهاية مجرد فرد واحد.. أتي ليعبر طريقاً في لحظة وللأسف لن يتتابع بعده رجال مثله فلسنا في حال يتيح لنا أن نأمل في توالي الأبطال.. والسيد حسن نصر الله.. بطل بالتأكيد.. لكنه بطل بلا بشارة!
في شرفة هادئة
بعيداً عن الزحام كان حديث لبنان وفلسطين والعراق ومصر يمر بمرحلة ما بعد »الألم«.. حين تهدأ الأوجاع وتستقر مع رواسب الإحباط ومشاعر اللاجدوى.. وأحس أنني لا أجد بين يدي من حصيلة الرحلة الطويلة غير قبض الريح وحصاد الهشيم وأنني فرجت من تجاربي بزاد له طعم الرماد وأن مطابقة العام على الخاص لا تترك في الأزمة ثقباً ينفذ منها الضوء.
قالت ومشاعر البكور وريعان الشباب تركها: إياك أن تستسلم! كن أقوي من أحزانك لتقفز فوق هوة الاكتئاب التي تقاربها أقدامك! دعك من الانهماك في القضايا الكبرى التي لن تبرح ولن تحل مشاكلها.. وابق لقضايا حياتك.. جدد مشاعرك وافتح ذراعيك واكتب سطور بداية نحتاجها..
قلت: لم أعد بقادر على معايشة السخف والتفاهة وصغار النفس.. لم أعد بمستسيغ لطعم حياة باردة وأيام صلعاء ومناخ يلمؤه الهراء! ولم أعد بالقوة التي تساعدني على تحمل ضربات السوقية والتخلف في صدري.. وطعنات الغدر والبيع والخيانة في ظهري.. لم يعد الحب حباً ولا الصداقة صدقاً ولا الكلمات تشير إلى معانيها.. بصراحة لم تجد الحياة فرصة تحمل أملاً بقدر ما تحولت إلى كابوس عبثي مثلما رآه كافكا وبودلير وألان دو وبيكيث وأونيسكو.. هؤلاء الذين مضوا تاركين كوابيسهم تحوي الحقيقة بلا تجميل أو خداع.
هتفت محتجة: لابد أن تغير المكان! سافر! أو افعل كما يفعل الباحثون عن سلام النفس وتوازن الروح هناك.. عند سقف العالم.. في التبت!
التبت؟.. لا شك أنك تمزحين!.. ولكنها لم تكن فرحة! كانت تتحدث جادة عن رحلات تنظمها شركات سياحة عالمية للراغبين في خوض مغامرة التبت.. حيث ينضو الزائر عن نفسه كل ما يربطه بالعالم الذي هجره.. ويسلم نفسه لتعاليم »اللاما« الذي سيتولى إرشاده وتدريبه وإعداده لخوض تجربة الحياة الروحية: حيث يمكنه عن طريق تمرينات اليوجا الحقيقية ـ الصعبة والتي تتطلب صبراً ووقتاً بلا حدود ـ من أجل تحرير الروح من سيطرة الجسد وإخضاع الكينونة المادية والعضوية للقوة النفسية.. حتى يصل المتدرب إلى مرتبة اللاما ويحقق درجة السمو الروحي »النيرفانا« حيث يمكنه أن يرتفع بجسده عن سطح الأرض ويأمر كافة أعضاء جسده فتستجيب لأوامره (في بعض الحالات يستطيع اللاما أن يوقف نبضه بإرادته ويعيده بإرادته) وتخضع كل احتياجات الجسد لنفس القانون..
فكرت كثيراً في كلامها (ومازلت حتى الآن أظنها كانت تمزح وتجر شكلي!) واستعادت ذاكرتي تلك الرواية الجميلة التي درستها في ثانوي واسمها: الأفق الضائع للروائي الأمريكي جيمس هيلتون.. وتذكرت شخوصها.. ومسرح أحداثها: ذلك الدير البوذي شانجريلا المطل على وادي القمر الأزرق! تذكرت أيضاً كل ما قرأته عن اللاما الأكبر: الرالاي لاما وعن نائبه البانشن لاما، وكيف أقصت الصين الأول واستقر في الهند ووضعت الثاني مكانه! وتذكرت ما ورد في الأفلام الأمريكية عن هؤلاء البوذيين الذين يشبهون الدراويش ويرتدون مآزر برتقالية ويحلقون رءوسهم »زيرو« ويمسكون بالصاجات الكبيرة يدقون عليها مترنمين: هاري كريشنا.. هاري راما.
وقضيت ليلة بطولها أفكر فيما قالته صاحبة فكرة التبت وأسأل نفسي: أليس هذا هو الحل لمن كان مثلي راغباً عن البقاء وسط الزحام المجنون لأحداث تلك المنطقة الملتهبة.. المنطقة التي شهدت نزول كل الرسالات السماوية وخطي على أرضها كل الأنبياء.. ومع ذلك ظلت بؤرة للصراعات التاريخية التي لا تنتهي: صراعات جغرافية وعرقية ودينية وسياسية! ولابد لمن يعيش فيها أن يكتوي بنار تلك الصراعات إن لم يكن بالتورط المباشر بالحرب والمقاومة، فبالمعايشة والمشاركة بالرأي والكلام..
والمدهش أن الغلبة لابد أن تكون للكلام.. لأن العرب صناع كلام ومدمنو كلام ويجيدون قوله وسماعه.. ولا عجب فهم من سموا الفلسفة »علم الكلام«.. والكلام هو سبب الضجيج، والضجيج هو العملة الرائجة في الشرق العربي.. وبتنا نحلم بالهدوء والسكون والصمت.. ولعل في اقتراح التبت ما يحقق الحلم! ولكن.. لم تحل لي محاورتي العزيز أهم ركن في مغامرة التبت.. وهو: من أين؟ وكيف؟ ومتى؟.. فعلها الآن توفر لنا راعياً رسمياً للرحلة ولها الشكر!
نقلا عن جريدة الوفد
أسامة أنور عكاشة
اقرأ أيضًا:
تحيا كوريا الشمالية: يحيا حزب الله / ساعات سكينة: ساعة الأخبار/ اغتيال الحرية: لبنان عروس العرب/ شيزلونج مجانين نوم في غير وقته