سيكولوجية الشيعة وإمكانات التعايش والصراع
يتفق علماء النفس أن للإنسان جانبا ظاهرا من السلوك يحكمه عقله الواعي, وهذا الجانب قد يبدو غريبا أو متناقضا أو غير مفهوم إذا نظرنا إليه وحده مقطوع الصلة عن جذوره الكامنة في ما يسمى بالعقل الباطن (اللاشعور) ذلك العقل الباطن الذي اختزنت فيه الذكريات والأماني والرغبات والمخاوف والدوافع والحاجات فشكلت قوة مستترة ولكنها هائلة التأثير على السلوك الظاهر للفرد.
ولم يقتصر الأمر على الفرد بل امتد ليشمل الجماعة فثمة ما يطلق عليه العقل الباطن الجمعي (اللاشعور الجمعي) والذي وصفه العالم النفسي كارل جوستاف يونج, وهو يحوي أرشيفا لتاريخ الأمم والجماعات يؤثر بوعي أو بدون وعي في طرق تفكيرها ووجداناتها وسلوكياتها. وبدون هذه المنطقة الكامنة في أعماق النفس (وغير المتاحة لنا في الأحوال العادية) يصعب فهم الكثير من سلوكيات البشر أفرادا وجماعات, لأن سلوكياتهم حينئذ ستبدو كقطاعات عرضية في فروع شجرة مدفونة في الرمال لا نرى جذرها لذلك تبدو لنا أجزاء هذه الفروع في تعدديتها وتناثرها وكأنه لا يوجد بينها رابط, أما إذا أزلنا الرمال ووصلنا لجذر الشجرة فإننا نرى تسلسل الفروع منها بشكل منطقي ومنظم ومفهوم.
نسوق هذه المقدمة لندعو لما يمكن أن نطلق عليه "التفسير النفسي للتاريخ" وهو تفسير لا يأبه له أحد على الرغم من أهميته القصوى وارتفاع درجة صدقه وثباته في قراءة وتفسير سلوك البشر أفرادا وجماعات, وليس فقط القراءة الراجعة وإنما أيضا القراءة التنبؤية بناءا على التركيبة النفسية والديناميات النفسية التي تساعدنا على توقع سلوك معين من شخص معين أو جماعة معينة, وهذا الأمر ربما يصبح في المستقبل القريب أو البعيد علما له أصوله وفروعه يهدف إلى القراءة السابقة واللاحقة للسلوك البشري ليس رجما بالغيب أو قراءة للكف أو استطلاعا للنجوم أو تفسيرا للأحلام (كما يفعل الكهّان والعرّافون الجدد على شاشات الفضائيات العربية هذه الأيام) وإنما بناءا على معطيات تربط المقدمات بالنتائج وترجع الفروع إلى الأصول.
إذن لكي نفهم سلوك الشيعة أو أي طائفة دينية أو سياسية أو اجتماعية علينا أن نعود إلى الجذور النفسية المبكرة لها لتفسر لنا جزئيات السلوك الظاهرة والمتناثرة والتي يبدو أنها متفرقة أو غير مبررة أو غير مفهومة, أو غير مترابطة وهي في الحقيقة ليست كذلك.
لحظة قتل الحسين رضي الله عنه تشكل التركيبة النفسية للشيعة:
لا يمكن فهم الجوانب النفسية لأتباع المذهب الشيعي دون الرجوع إلى حادثة كربلاء التي استشهد فيها الحسين رضي الله عنه وعدد كبير من آل بيت النبي (على الرغم من أن بدايات الشيعة تعود إلى أيام الإمام علي كرم الله وجهه), حيث تعتبر هذه الحادثة من اللحظات شديدة التكثيف والترميز والإيحاء والتأثير، فالحسين رضي الله عنه خرج من مكة إلى العراق رغم إشفاق الكثير من الصحابة عليه حيث لم يكن يملك العدة أو العدد اللازمين لملاقاة جيش يزيد، وهو كان يعلم ذلك جيداً، ولكنه كان حريصاً على إحياء معنى الحق في النفوس وضرب المثل بنفسه وبعشيرته في الوقوف ضد الظلم حتى ولو وقف وحيداً، وجعل حياته في كفه وإرساء هذه المعاني في نفوس المسلمين في كفة (خاصة وأن تنازل الحسن رضي الله عنه عن الخلافة لمعاوية قد قوبل لدى قطاع من المسلمين وقتها بأنه مهادنة لبني أمية).
فهذه لحظة فاصلة تتحدد من خلالها قيماً ومعان هائلة تؤثر في التاريخ الإسلامي بل والتاريخ الإنساني كله. ومما يزيد من كثافة هذا الحدث وعمقه غدر أهل الكوفة الذين وعدوا الحسين رضي الله عنه بالنصرة ثم خذلوه وتركوه هو وعدد من خيرة آل بيت النبي يواجهون الموت في الصحراء عطشى وجوعى على أيدي جنود يزيد الذين لم يراعوا حرمة آل بيت النبي ولم يراعوا –شأنهم شأن أي حاكم مغتر بقوته وسطوته– أي قيم إنسانية فذبحوا الحسين وفصلوا رأسه عن جسده ولم يراعوا حرمته حياً أو ميتاً، ذا الحدث رسخ في الوجدان الشيعي الأشياء التالية:
1- الشعور الشديد بالذنب تجاه الحسين رضي الله عنه فهم يشعرون أنه قتل وحيداً ولم يهبوا أو يهب أحد غيرهم لنصرته، وأنهم تركوه يلاقي هذا المصير المؤلم وحده بيد عدو لدود لم يرع فيه إلاً ولا ذمة وهو من هو من شرف النسب ونبل المقصد.
2- الإحساس الدائم بالحزن، ذلك الحزن الذي لا تخطئه العين في وجوه أتباع المذهب الشيعي، وقد عبر الإمام علي بن الحسين (زين العابدين) عن ذلك حين سأله الناس عن سر ذلك الحزن فقال: "إن يعقوب عليه السلام بكى حتى ابيضت عيناه على يوسف ولم يعلم أنه مات، وإني رأيت بضعة عشر من أهل بيتي يذبحون في غداة يوم واحد أفترون حزنهم يذهب من قلبي" ( البداية والنهاية لابن كثير ج 9 ، ص 107).
3- الإحساس العميق بالظلم والغدر والشعور بالمرارة تجاه ما حدث والرغبة في الثأر ممن فعلوا ذلك أو تواطئوا فيه أو سكتوا عنه.
4- الخوف من الآخر والتشكك فيه واعتباره قابلاً للغدر في أي لحظة, وأخذ الحيطة والحذر إلى أقصى حد ممكن ليس فقط في الأفعال ولكن حتى في الكلام، وهذا ما نشأ عنه مبدأ "التقيّة " الشهير في السلوك الشيعي.
5- الانعزال عن سائر جماعة المسلمين، فعلى الرغم من اشتراك الشيعة في كثير من شعائر الإسلام مع السنة إلا أنهم معزولون عقائدياً ووجدانياً عنهم، وهناك الكثير من جدران الشك والتوجس لدى الجانبين بعضها تاريخي وبعضها عقائدي وبعضها سياسي. وقد فشلت محاولات متكررة في مراحل تاريخية مختلفة لكسر هذه العزلة وإيجاد صيغة للتقارب أو التفاهم أو حتى التعايش بين السنة والشيعة وكان وراء هذا الفشل عوامل نفسية (ممثلة في حالة التشكك والتوجس بين الطرفين، إضافة إلى مبدأ التقيّة الذي يهز ثقة السنة في أي وعود شيعية)، وعوامل عقائدية (ممثلة في خلافات تبدو أساسية في العقيدة ومنها الإمامية كركن سادس للإسلام لدى الشيعة، وموقف الشيعة من الصحابة وخاصة أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة رضوان الله عليهم، تلك الخلافات التي يبدو صعوبة تجاوزها لدى الطرفين شأن أي أمر عقيدي).
وعوامل سياسية (متمثلة في اختلاف توجهات أهل الحكم ومصالحهم بصرف النظر عن مصالح الشعوب، إضافة إلى لعب القوى الخارجية خاصة أمريكا على وتر إثارة الصراع الطائفي بين السنة والشيعة بغية السيطرة الكاملة على منطقة الشرق الأوسط الغنية بالنفط ).
6- محاولة امتلاك ناصية القوة بناءاً على مشاعر الظلم والاضطهاد والعزلة وذلك لحماية الذات من العدو البعيد ممثلاً في قوى الغرب غير المسلم (تمثله أمريكا حالياً) والعدو القريب (تمثله الكتلة الإسلامية السنية وبوجه خاص التيار السلفي الوهابي). وربما نفهم في هذا السياق النفسي محاولات إيران المستميتة لامتلاك السلاح النووي ومحاولات التمدد الشيعي المنظم في لبنان والعراق ودول الخليج.
7- التعظيم الذي يصل إلى التقديس: فمن شدة شعورهم بالذنب تجاه الحسين من ناحية، ومن ناحية أخرى إعجابهم بشجاعته وصموده وتضحيته، بالغوا كثيراً في التعامل معه ومع ذكراه، وهذا الأمر له شبيه في تاريخ السيد المسيح عليه السلام حين حاول اليهود الغدر به وقتله وصلبه، وهنا ظهرت مشاعر الذنب الشديدة لدى أتباعه من النصارى فعظموه لدرجة التأليه.
فالشيعة تحت تأثير الشعور بالذنب يعطون لسيدنا الحسين رضي الله عنه مساحة في وعيهم تطغى على كل ما عداه وتنتقص في ذات الوقت من مساحة ومكانة الكثير من الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً، والسبب وراء ذلك هو الشعور الشديد بالذنب والانطلاق من لحظة مقتله، تلك اللحظة المليئة بمشاعر الألم والحسرة من ناحية والبطولة والصمود من ناحية أخرى. وهذا التعظيم والتقديس للحسين وعلي رضي الله عنهما وصل لدى الشيعة إلى حالة من الاستقطاب الوجداني الشديد, بمعنى أن حبهم الهائل هذا جاء على حساب حب بقية الصحابة رضوان الله عليهم جميعا, بل كثيرا ما قابله مشاعر سلبية تجاه نفر من خيرة الصحابة بظن أنهم انتزعوا الخلافة من آل بيت النبي.
8- المجتمع الأبوي: وفي أعماق وعي الشيعة إحساس بالتخلي عن الحسين وعن نصرته، لذلك يظهر رد فعل عكسي فيما بعد في صورة الاحترام الشديد للأئمة من بعده واعتبارهم معصومين لا يسألون عما يفعلون، ويصل الأمر إلى تقديسهم والانضواء تحت لوائهم بلا أي تحفظ, وحين انتهت سلسلة الأئمة المعصومين بالسيد الحسن العسكري واختفاء ابنه المهدي (المشكوك في وجوده من الأصل لدى علماء السنة) ظهرت لديهم عقيدة انتظار الإمام الغائب والذي سيخرج من السرداب يوماً ما ليكون إمامهم، وحتى في غيابه هم يأتمون به، ويتخذون أحد أئمتهم نائباً عنه ويمتثلون له بالطاعة المطلقة ويسلمون له أنفسهم. ونجد أيضاً في العقيدة المسيحية مقابلاً لذلك يتمثل في رجل الدين والذي يدعى بالأب (أبونا) الذي هو جدير بالطاعة والقداسة, ولديه صلاحيات من الرب بأن يستمع لاعترافات المذنبين ويمنحهم صكوك غفران.
وهذه العقيدة الأبوية الإمامية لدى الشيعة تنبع من إحساسهم بأنهم أقلية وأن الأغلبية ربما تجور عليهم أو تغدر بهم أو تبيدهم (كما حدث للحسين رضي الله عنه)، لذلك أعطاهم ذلك نوع من التماسك والإحساس بالأمان تحت راية الإمام المعصوم الذي يضفون عليه كل معاني القداسة والعصمة والاحترام ويطيعونه طاعة لا حدود لها وينسبونه إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ويعتبرونه نائباً عن الإمام المهدي الغائب.
والعقيدة الإمامية لدى الشيعة تحمل سماتا ماسوشية (طبقا لرأي الدكتور عبد المنعم الحفني في كتابه: الموسوعة النفسية الجنسية) حيث أن قولهم بالإمام المعصوم يعلن عن حاجتهم الطفولية المستمرة لوجود إمام راشد يتولاهم عن أنفسهم ويسلمون له قيادهم. وعلى الرغم من طاعة الشيعة للإمام وانصياعهم الماسوشي الكامل له كمنصب إلهي ذكوري إلا أنهم يأخذون موقفا ساديا مع المرأة وأخصها السيدة عائشة, ولم يحدث في تاريخ الأديان –حسب قول الدكتور الحفني– أن نالت زوجة رسول من الذم والتحقير والتشويه ما نالته السيدة عائشة على لسان الشيعة.
وقد أدت العقيدة الإمامية فعلاً إلى حالة من التماسك حول سلطة (مرجعية) دينية يتعدى تأثيرها المجال الديني في أوقات كثيرة إلى المجال السياسي والاجتماعي، وإن كانوا في بعض الأحيان يحرصون على الفصل بين المرجعية الدينية والعمل السياسي المباشر إلا أن التأثير الروحي للمرجعية يتغلغل بشكل تلقائي في كل جوانب حياة الشيعة، وأكبر دليل على ذلك مساهمة كل شيعي طواعية ب 5% من دخله يضعه تحت تصرف المرجعية الدينية، وهذا عمل اقتصادي واجتماعي وسياسي وديني في ذات الوقت، إضافة إلى ما نشهده من علو السلطة الدينية (ممثلة في الإمام والملالي والمرجعيات والحوزات) على أي سلطة سياسية أو اجتماعية أخرى.
9- التكفير: يميل الشيعة في كثير من سلوكياتهم وطقوسهم إلى التكفير عما يشعرون به من ذنب داخلي تجاه مقتل الحسين، وهذا يبدو في أوضح صوره في طقوس الاحتفال بعاشوراء وبذكرى مقتل الحسين حيث يمارسون ما يسمى بالطق (أو الطج) فيضربون وجوههم وصدورهم باليد أو العصي أو السياط كشعيرة تعبدية فيها تذلل لله سبحانه وتعالى حتى تدمى وجوههم وأجسادهم, وعلى الرغم من عنف هذه الشعيرة إلا أنهم يشعرون بعدها بحالة من الرضا والراحة والوله وأحيانا النشوة. والطق وسيلة بدائية للتكفير عن الذنب وهو بطبيعة الحال لن يعيد الحسين إلى الحياة, ولكنه من الناحية النفسية نكوص إلى مرحلة الطفولة حيث يعاقب الطفل المخطئ أو المذنب بالضرب.
10- التقيّة: وهي أن يخفي الإنسان الحقيقة كلها أو بعضها في مواقف يتوقع فيها الخطر أو الغدر من الآخرين وقد يبالغ البعض فيها فيعتبرونها جزءاً من عقيدة الشيعة (كما قال أحد أئمتهم: التقية عقيدتي وعقيدة آبائي وأجدادي), وقد يعممها البعض في كل المواقف فتصبح هي الأصل في التعامل مع الآخر. والتقية هي أحد الإشكاليات الكبيرة في تعامل الآخرين مع الشيعة حيث تضع الثقة فيما يقولونه محل شك كبير، فلا يدري أحد أهم يقصدون ما يقولون أم يقصدون عكسه. والتقية قد نشأت في ظروف خاف الشيعة على أنفسهم من غدر يزيد بن معاوية ولكنها استمرت وصارت حولها الأقاويل لدرجة جعلت البعض يعتبرها واجبا دينيا أساسيا أن يخفي الشيعي حقيقة أفكاره وتوجهاته عن بقية الناس وأن يعلن غير ما يبطن.
من هنا نستطيع القول أن دماء الحسين التي سالت على أرض كربلاء كان لها أبعد الأثر في تشكيل الوجدان الشيعي، وهذا يفسر لنا احتلال الحسين رضي الله عنه مساحة هائلة في ذلك الوجدان وقد تتجاوز هذه المساحة الحدود الآمنة لدى بعض طوائف الشيعة، فردود الأفعال لهذا الحدث الجلل سيطرت على الكثير من السلوكيات الشيعية فيما بعد، فمثلاً التقية, تشكل رد فعل لوقفة الحسين الصريحة والمتحدية في وجه الباطل، وتقديس آل البيت ورفعهم لمستويات النبوة عند بعض الطوائف هو رد فعل مغالى فيه على التنكيل الشديد بهم في كربلاء، وطقوس إيذاء الذات هي رد فعل على خذلان الحسين.
ويتبع............ سيكولوجية الشيعة وإمكانات التعايش2
اقرأ أيضاً:
الشائعات في عصر المعلومات / عمارة يعقوبيان.. بصقة على الذات / أمراض السلطة(1)