سيكولوجية الشيعة وإمكانات التعايش والصراع(1)
سيكولوجية الأقلية:
الشيعة على وجه العموم يشعرون أنهم أقلية، فهم من الناحية العددية (حوالي 200 مليون على مستوى العالم إن صح هذا الرقم) أقل من السنة، وكثير منهم (باستثناء من يعيشون في إيران) يعتبرون أقلية في بلادهم أو يعاملون معاملة الأقلية، ويعيشون في ظروف اجتماعية واقتصادية صعبة نسبيا. والأقليات من الناحية النفسية والاجتماعية لا يشعرون بالأمان وهم يتوقعون القهر والتهميش والاستبعاد من الأغلبية، لذلك تراهم يتسمون بالحذر والحيطة ويعمدون إلى العمل الجاد وإلى امتلاك نواصي القوة بالعلم أو المال أو الإعلام، فليست لديهم رفاهية الاسترخاء والراحة وسط أغلبية ربما تتربص بهم أو تظلمهم، وهم يتحينون الفرصة لاسترداد الحقوق الضائعة أو المكانة المنقوصة.
والشيعة في كثير من البلدان (باستثناء إيران كما ذكرنا) كانوا ينتمون إلى طبقات اجتماعية فقيرة ومحرومة (في لبنان أسسوا حزبا في وقت مبكر أسموه حزب المحرومين نشأت عنه حركة أمل ثم حزب الله بعد ذلك)، ولذلك كانت تسعى تلك الطبقات إلى الصعود والترقي رغم الظروف غير المواتية المحيطة بهم سياسياً واجتماعياً ودينياً فعلى المستوى السياسي ينظر إليهم بشك على أنهم ينتظرون الفرصة للوثوب إلى السلطة أو على الأقل تكوين قوة سياسية أو عسكرية مؤثرة، وعلى المستوى الاجتماعي ينظر إليهم كأقلية مغلقة لها تقاليدها وأعرافها الخاصة، وعلى المستوى الديني توجه لهم انتقادات نحو بعض معتقداتهم تختلف حدتها من طائفة دينية لأخرى ولكنها تبلغ حدتها من ناحية التيار السلفي والذي يرى في عقيدة الشيعة كثير من المثالب ويعزو إليهم (كلهم بلا استثناء أو تفريق بين طائفة وأخرى) سب الصحابة ووضع الأحاديث وتغيير أركان الإسلام بوضع ركن سادس هو الاعتقاد في الإمام المعصوم وولاية الفقيه والاعتقاد في الإمام الغائب والتشكيك في المصحف المتداول لدى المسلمين حاليا وادعاء وجود ما يسمى بمصحف فاطمة.
المساحات المشتركة والاختلافات العميقة:
لو بحثت عن مساحات مشتركة بين السنة والشيعة فلن تعدم ذلك فهم يشتركون في الإيمان بالله وبرسله وبخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم ويشتركون في غالبية الشعائر التعبدية وتراهم يؤدون مناسك العمرة والحج في أرض الحجاز جنبا إلى جنب مع السنة، ولو بحثت في مناطق خلاف واختلاف فلن تعدم ذلك متمثلاً في الموقف من بعض الصحابة والعقيدة الإمامية ومبدأ التقية ويصل الاختلاف لدى بعض الطوائف على الجانبين إلى حد التكفير المتبادل.
والأمر له جانب نفسي هام حيث يتوقف على الطبيعة النفسية لصاحب الرؤية ودوافعه ومصالحه وانتماءاته، فلو كان متسامحاً واسع الأفق محتملاً للخلاف لرأيته أكثر ميلاً لرؤية مساحات الاتفاق (وهي كثيرة) والرغبة في التعايش وتبادل المصالح، أما لو كان غير ذلك لوجدته ينتقي من بين صفحات الكتب وصفحات التاريخ كل عوامل الشك والبغضاء والكراهية ليؤكد لك أن الصراع والاقتتال بين السنة والشيعة هو الحل ليحيي من حيي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، وهو هنا يعطي أولوية للصراع العقائدي بين السنة والشيعة على الصراع القائم حالياً بين الإسلام من ناحية والمعسكر الصهيوأمريكي من ناحية أخرى.
رهاب الشيعة:
كانت الشيعة في الماضي تمثل أقلية عددية (وما زالت) لا يؤبه لها كثيراً وسط المحيط السني الهادر، وكان زمام المبادرات بيد الجانب السني صاحب الأغلبية العددية وصاحب التيار الحضاري الأساسي، ثم حدثت تحولات في ربع القرن الأخير جعلت الدول الرئيسة في التيار السني تتراجع عن دورها القيادي والحضاري في المنطقة وتقنع بالدوران في فلك القوى الكبرى مما أفقدها (على المستوى الرسمي بالذات) بوصلة توجهها الإسلامي (أو القومي أو الوطني) الأصيل فصدرت في كثير من قراراتها من منطلق المجاملة أو الانصياع لضغوط وابتزازات القوى الكبرى التي تسعى لتحقيق مصالحها والتي هي بالضرورة معاكسة لمصالح المسلمين والعرب ومتناقضة معها في أغلب الأحوال.
وقد قام ما يشبه التحالف بين حكام الدول الإسلامية السنية الرئيسة وبين المعسكر الأمريكي وذلك لخدمة المصالح الأمريكية من جانب ولخدمة بقاء كراسي وعروش حكام تلك الدول من ناحية أخرى، وقد أدى هذا إلى انشقاقات وتصدعات شديدة داخل المجتمعات السنية مما أدى إلى حالة انشقاق بين أنظمة الحكم وبين الشعوب وخاصة الجماعات التي تتبنى فكرا إسلاميا بشكل أو بآخر، وأدى هذا إلى تنامي تيارات المعارضة الدينية وإلى ظهور بعض الفرق التي لجأت للعنف بدرجاته المختلفة كسلاح أشهرته في وجه السلطة التي تراها انحرفت عن المسار الصحيح سعيا نحو مصالحها الذاتية.
في ذات الوقت كانت هناك أحداثا مختلفة تجري في المعسكر الشيعي فقد نجح الإمام الخوميني في قيادة ثورة شعبية ناجحة للإطاحة بشاه إيران الموالي لأمريكا وإنشاء نظام وطني قائم على المبادئ الدينية الشيعية، ورغم محاربة العالم كله لهذه الثورة إلا أنها ثبتت وشكلت بناءا تنظيميا متماسكا يجمع بين المبادئ الدينية والدنيوية ويحقق استقلالية حقيقية ويكسر التبعية لأمريكا.
وقد استطاع النظام الإيراني أن يكسب المعارك السياسية مع أمريكا والغرب ويحافظ على مصالحه واستقراره بشكل ملفت للنظر، وهاهو الآن يخوض معركة تبدو ناجحة حتى الآن في سبيل امتلاكه للسلاح النووي (في الوقت الذي سلمت واستسلمت فيه حكومات الدول السنية للإرادة الأمريكية والإسرائيلية بالتخلي عن أي سلاح أو موقف ذو أهمية على الرغم من الإذلال الأمريكي والإسرائيلي لهم في كل لحظة من حياتهم )، يضاف إلى ذلك ما تحقق من قيام تجربة ديموقراطية حقيقية أدت إلى تداول السلطة (المشروط والمحكوم بولاية الفقيه) في إيران (في الوقت الذي تعيش فيه غالبية الدول الإسلامية السنية إن لم تكن كلها في حالة استبداد سياسي مزمن وبائس)، وفوق كل ذلك تلك الكاريزما الهائلة التي تمتع بها الإمام الخوميني في حياته وبعد مماته كرجل دين وكسياسي وكقائد لأكبر ثورة شعبية دينية في القرن العشرين.
وقد تلا ذلك عمليات تمدد شيعي منظم في لبنان والعراق وبعض دول الخليج، وهذا التمدد يزداد يوما بعد يوم، ويعضده في هذه الأيام نشاط حزب الله في لبنان بقيادة شخصية بارزة ومؤثرة وآثرة هي شخصية حسن نصر الله، ذلك الزعيم الشيعي الذي نجح في تكوين صورة للبطل الحر الواعي المستنير المتدين، واستطاع بذكائه الحاد أن يخاطب الجماهير العربية والإسلامية خطابا يتجاوز الحدود العرقية والطائفية (فلا يذكر كلمة توحي بالخلافات العقائدية أو المذهبية الصادمة)، ويحيي في نفوسهم معاني العزة والكرامة والشجاعة والتضحية (التي يعرف أنهم يشتاقون إليها بعد انكسارات حكوماتهم أمام الطغيان الأمريكي والغطرسة الإسرائيلية)، وهو قد قاد حزب الله في معركة تحرير الجنوب واضطر إسرائيل للانسحاب ثم قاد الحرب السادسة في يوليو وأغسطس 2006 ضد إسرائيل وخرج منها منتصرا بعدة مئات من المقاتلين على دولة إسرائيل التي تمتلك (أو تدّعي امتلاك) أكبر جيش في المنطقة، وصمد للغطرسة الإسرائيلية والأمريكية والتواطؤ العالمي في الوقت الذي ارتعشت فيه أنظمة الحكم العربية واختبأت أو تواطأت أو انحنت.
نصل في النهاية إلى وضع جعل المعسكر السني في وضع سيئ على المستوى السياسي والعسكري والاجتماعي في الوقت الذي كسب فيه المعسكر الشيعي جولات عديدة على تلك المستويات، وهذا جعل العديد من الشباب والمثقفين ينظرون بإعجاب إلى قيادات الشيعة (راجع المظاهرات في كل مكان وهي تحمل صور حسن نصر الله وراجع صفحات الجرائد والمجلات وهي تضع صورا شامخة له على أغلفتها وبجانبه صورا مطأطئة لحكام عرب أو مسلمين).
وقد أدى هذا إلى وجود حالة من الهلع على المستويين السياسي والديني في الدول السنية، فالسياسيون يخشون تنامي الانبهار والإعجاب بالقيادات الكاريزمية الشيعية وعلى رأسها حسن نصر الله على حساب شعبيتهم التي تدهورت كثيرا بسبب مواقفهم المترددة المرتعشة وانشغالهم بمصالحهم الذاتية في التشبث بالحكم والتوريث، ولهذا بادروا بتوجيه اتهامات لحزب الله بالتهور وجر الأمة العربية إلى حرب غير متكافئة وغير مبررة، ولكن هذه الاتهامات انهارت مع صمود المقاومة اللبنانية وانتصارها على الهجمة الصهيوأمريكية.
أما على المستوى الديني فقد خاف الدعاة على الشباب السني من ذلك الانبهار بالصعود الشيعي العسكري والسياسي والانبهار بشخصية حسن نصر الله الساحرة (128 مولودا في الإسكندرية حملوا اسم حسن نصر الله وصوره تملأ الشوارع والبيوت وشاشات التلفاز) لذلك همّ التيار السلفي بوجه خاص بإصدار الفتاوى والكتب والأشرطة التي تبين حقيقة العقيدة الشيعية، وموقف الشيعة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشكلات التقيّة والإمام الغائب وعصمة الإمام ومصحف فاطمة والمواقف التاريخية التي توضح العداء القديم والمستحكم بين السنة والشيعة.
وقد وقف العديد من خطباء المساجد خاصة مساجد أنصار السنة في مصر ومساجد عديدة في دول الخليج يحذرون الناس من مناصرة الشيعة ومن الانبهار بهم وبقادتهم، ولكن هذا كان يقابل برفض شعبي نظرا للظروف والملابسات التي شرحناها من قبل (وحدثت كثير من المشادات بين الدعاة والمصلين حول هذا الأمر)، فهم (أي الناس) يرون أن علماء السنة اكتفوا بالظهور المدفوع الأجر على شاشات الفضائيات والوقوف على المنابر الفخمة أو الجلوس في الغرف المكيفة أو الاستمتاع بالزيجات المتعددة في القصور الفخمة، في حين يرون حسن نصر الله يقف في الميدان رافعا رأسه تحت قصف الطائرات الإسرائيلية الأمريكية وقد قدم ابنه هادي نصر الله شهيدا من قبل في معارك تحرير الجنوب اللبناني.
إذن فهناك تهديد حقيقي بالاختراق الشيعي (على المستوى السياسي أو الفكري أو الوجداني أو حتى الديني) للمجتمعات السنية، ويوازي هذا الاختراق تمددا وتمكننا شيعيا في العراق ولبنان والبحرين والسعودية والإمارات وعمان وغيرها. وهذا الاختراق وذلك التمدد والتمكين يخلق الآن حالة من الرعب لدى السياسيين ورجال الأمن وعلماء التيار السلفي، وهذا الرعب وهذا الاختراق لن يوقفه كلام أو تحذير وإنما يوقفه مراجعة شاملة لمظاهر الانكسار والانحدار في جوانب حياة المجتمعات السنية، ولن يكفي التخويف الأمني أو التشكيك السياسي أو التكفير العقدي لإيقاف هذا الزحف الشيعي.
وأكبر تهديد الآن للرموز السياسية والدينية السنية هو شخصية حسن نصر الله والذي ظهر في صورة البطل الشعبي الذي يعيد للناس ثقتهم بأنفسهم واعتزازهم بكرامتهم وشرفهم والوقوف في وجه أعدائهم الذين يذيقونهم كل ألوان العذاب والهوان، كل هذا في الوقت الذي تدعو فيه قيادات سنية كثيرة إلى التحلي بالموضوعية والواقعية وضبط النفس (أو خنقها) وإلى عدم الوقوف أمام إسرائيل التي نعجز عن حربها وعدم الوقوف أمام أمريكا التي تتحكم في مصير العالم. كل هذا يخلق خللا نفسيا يدفع الشباب إلى التوحد مع البطل الشعبي خاصة إذا أثبتت الأحداث مصداقيته، والانصراف عن قياداته التي تأكد له مع الزمن حرصها على مصالحها الخاصة، كما أن هذه القيادات دائما ما تدعوه إلى طأطأة الرأس والركوع لكل قوى الأرض الظالمة بدعوى الواقعية وعدم التهور. والشباب (ومعه حتى الكبار من المقهورين والمكسورين) إذ يتوحد مع البطل الشعبي سوف ينسى أو يتناسى الإشكالات العقيدية التي ربما تفصله عن هذا البطل.
احتمالات التعايش والصراع:
جرت محاولات كثيرة في فترات تاريخية متعددة للتقريب بين السنة والشيعة (استعرضها الأخ العزيز الدكتور محمد إسماعيل المقدم في عدد كبير من محاضراته المسجلة والتي أمدني بها)، وكانت هذه المحاولات تتمحور حول الجانب الديني، وكان أصحاب هذه المحاولات يحدوهم الأمل في التقريب بين رؤى الطرفين ومحاولة تصفية الخلافات العميقة خاصة في الجانب العقدي، ولكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل لسبب بسيط وجوهري وهو أن أصحاب العقائد ليسوا على استعداد لأن يغيروا عقائدهم ليرضوا أطرافا أخرى أو ليتقاربوا معهم، لذلك فإن محاولات التقريب الديني تكاد تكون مستحيلة من الناحية النفسية لأن العقائد غير قابلة للنقاش أو التصحيح لدى كثير من البشر.
فننحن أمام مشكلات نفسية وتاريخية ودينية عميقة الجذور (على الرغم من المساحات المشتركة) تحول دائماً دون التعايش بين السنة والشيعة على الرغم من ضرورة ذلك وإلحاحه الآن (وعلى الرغم من تعايش الطرفين مع أطراف أخرى غير إسلامية)، حيث أن البديل لذلك هو حالة من الاستقطاب الشديد بين الشيعة والسنة يتبعها حالة من المواجهة تؤججها قوى خارجية على رأسها أمريكا وإسرائيل وتدعو إليها قوى داخلية لدى الطرفين تشهر سلاح التكفير أو التفسيق أو التخوين أو التآمر، ولو نجح الاحتمال الثاني فإن ذلك يعني انتحار الأمة الإسلامية بشقيها السني والشيعي لحساب قوى الاستكبار العالمي ولحساب حكام وأمراء دول أو جماعات قصرت رؤاهم عن استشراف آفاق للتعايش بين البشر على اختلاف معتقداتهم وأحوالهم، فمما لا شك فيه أن المسرح الشرق أوسطي يعد حالياً لمواجهة سنية شيعية بديلاً للمواجهة الإسلامية مع المعسكر الصهيوأمريكي، ولو لم يعلو صوت العقلاء والمعتدلين في السنة والشيعة للدعوة إلى التعايش (وليس التقارب العقدي المستحيل كما ذكرنا) وتبادل المصالح وقبول الاختلافات فإن الطوفان سيأخذ الجميع، ونسأل الله السلامة، ألا هل بلغت اللهم فاشهد.
مراجع الدراسة:
1 – أبو حامد الغزالي. الشيعة: عجم ملحدون؟ أم عرب موحدون؟. تقديم وتعليق إيهاب كمال، 2006 ، الحرية للنشر والتوزيع ، القاهرة
2 – كمال أبو المجد. السنة والشيعة والحاجة إلى حوار جديد ( فى كتاب : حوار لا مواجهة) ، مهرجان القراءة للجميع، مكتبة الأسرة 2002 القاهرة
3- محمد إسماعيل المقدم . محاضرات مسجلة عن بطلان وفشل محاولات التقريب بين السنة والشيعة 2006 (اتصال شخصي)
4 – محمد الحسين آل كاشف الغطاء. عقائد الشيعة. الطبعة الأولى 2006 ، مكتبة النافذة ، القاهرة
5 – يوليوس فلهوزن. الخوارج والشيعة: المعارضة السياسية الدينية. الطبعة الخامسة 1998 ، دار الجليل للكتب والنشر، القاهرة
اقرأ أيضاً:
الشائعات في عصر المعلومات / عمارة يعقوبيان.. بصقة على الذات / أمراض السلطة(1)