هناك ما يسمى بالأمراض المهنية، تلك الأمراض التي يصاب بها أصحاب مهنة معينة نتيجة تعرضهم لمخاطر ممارسة هذه المهنة خاصة إذا مارسوها لفترات طويلة، فمثلا يصاب عمال المناجم والمحاجر بأمراض الصدر، ويصاب الفلاحون بالبلهارسيا ويصاب الجراحون بالالتهاب الكبدي..... وهكذا، وبناءا على هذا يبرز تساؤل: ما هي الأمراض التي يمكن أن تصيب أصحاب السلطة؟ وما هي تداعيات هذه الأمراض عليهم وعلى من هم تحت سلطتهم؟ وما هي وسائل الوقاية والعلاج من هذه الأمراض؟
أذكر زميلا قابلته حين كنت أعمل في السعودية وتزاورنا مرات عديدة وترسخت علاقتنا ثم كلل هذا بأن ذهبنا للحج سويا وقضينا يوما من أجمل أيام عمرنا على عرفات وكان طيبا وودودا، ومرت سنوات وافترقنا، ثم إذا بي ألتقي به في مصر فاندفعت نحوه بحرارة العلاقة السابقة ودفئها لأسلم عليه كما اعتدنا من قبل ولكنني فوجئت به يستقبلني ببرود ولمحت في عينيه تعاليا وسلم علي بأطراف أصابعه وتحدث من أنفه ولست أذكر من كلامه شيئا إلا قوله بأنه أصبح رئيسا للقسم في تخصصه، وكانت هذه –بحمد الله– آخر مرة ألقاه فيها.
شاب آخر عرفته منذ كان صغيرا وهو من أسرة طيبة وتربى على أخلاقيات عالية وعمل ضابط شرطة في أحد الأماكن، وجمعتني به الظروف في مكان عمله فلاحظت استخدامه لألفاظ نابية لم أعهدها فيه من قبل، وكأنه فهم ما يدور في ذهني فبادر بتبديد حيرتي قائلا: "ما علهش يا دكتور أصل دول عيال ولاد.... ما ينفعش التعامل معاهم بالذوق، الواحد فيهم أمه....... وييجي يعمل لنا فيها محترم، دول ما يجوش إلا بضرب الجزمة"، ففزعت من هذا التغيير، ولم أدر أأعذره أم ألومه، ولكن المؤكد أنني فضلت عدم اللقاء به بعد ذلك.
شغلني التغيير الذي لاحظته على هذين الشخصين وغيرهما من أصحاب السلطة في مستوياتها المختلفة، وفهمت عزوفي عن الاقتراب من أي صاحب سلطة حتى ولو كان من أعز أصدقائي، وحاولت أن أجد تفسيرا علميا لما يحدث للناس حين يصبحون في موقع سلطة، وكان أقرب شيء يعطيني تفسيرا سريعا هو نظرية المجال التي مفادها أن الإنسان يختلف باختلاف المجال الذي يتواجد فيه، وبما أن المجال السلطوي يحوي "فولتا" عاليا ومجالا مغناطيسيا هائلا، وهالة مبهرة لذلك نتوقع تغييرا في الشخصيات التي تتواجد داخله خاصة إذا كانت القيمة الحقيقية لهذه الشخصيات متدنية فهي في هذه الحالة تفقد ثباتها الضعيف من البداية، ولكي أقرب لك عزيزي القارئ هذه الفكرة تذكر أي يوم حاولت فيه الاقتراب من شخصية مهمة وتذكر كيف كنت تشعر بأن الجو مكهرب في الدائرة المحيطة بهذه الشخصية، تلك الدائرة التي يزداد اتساعها بقدر أهمية سلطته.
وقد انشغل عالمان كبيران بدراسة هذا الأمر فحاول نيقولا مكيافيلي تصور سيكولوجية السلطة من خلال كتابه "أمير"، وحاول جوستاف لوبون تصور سيكولوجية الجماهير (الخاضعة للسلطة) من خلال كتاب "سيكولوجية الجماهير"، وقد صدم العالمان الوعي الإنساني العام بما كتباه، حيث صور مكيافيلي سلطة الأمير منقطعة الصلة عن أي قواعد أخلاقية وأطلق مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" ورأى أن السلطة دائما قاسية وغاشمة وظالمة ومستغلة وأن هذا من حقها ولو لم تفعل ذلك لاستضعفتها الجماهير وسحقتها، وصور جوستاف لوبون الجماهير على أنها كائن غير منطقي يميل للاستهواء والاستلاب وتتحكم فيه عواطفه واحتياجاته البدائية وأن هذا الكائن الجماهيري حين يثور يصبح أكثر عدوانا وطغيانا من الفرد. ولكي نفهم أمراض السلطة سنضطر للعودة قليلا للوراء لكي نفهم خصائص السلطة وأنماطها.
الخصائص النفسية للسلطة:
هناك خصائص نفسية مشتركة لا تكاد تخلو منها أي سلطة نذكر منها:
1- الرغبة في الاستقرار والاستمرار.
2 – الرغبة في خضوع الآخرين وكسب ولائهم.
3- الهاجس الأمني الذي يجعل السلطة في حالة خوف وحذر واستنفار.
4- الضيق بالمعارضين ومحاولة دفعهم بعيدا عن دائرة النفوذ والتأثير.
5- العناد والكبر.
6- الميل للانتقام ممن يهدد أو يظن أنه يهدد استقرار أو استمرار أو هيبة السلطة.
7 – الازدواجية (الانفصام) : بمعنى أن السلطة تعلن مبادئ معينة تبدو براقة ومثالية وعادلة وفي ذات الوقت تخفي أنانيتها وحرصها الشديد على مصالحها الذاتية، وهو ما يعرف بالفجوة بين الأيديولوجية والسيكولوجية، فالسلطة تصدر للجماهير شيئا وتحتفظ لنفسها بشيء آخر، وبمعنى آخر فإن السلطة رسميا مع الأيديولوجية المثالية المعلنة ونفسيا مع مصالحها الذاتية.
كيفيات ممارسة السلطة:
ذكر جون كينيث في كتابه "تشريح السلطة" أن هناك ثلاث كيفيات لممارسة السلطة هي باختصار:
1- الكيفية القسرية: وهي تقوم على العنف والقهر والترويع للرعية حتى تحكم السلطة قبضتها عليها دون أي احترام أو تقدير لإرادة هذه الرعية، بل على العكس تنظر السلطة إلى الرعية باحتقار واستخفاف وتجاهل. وهذه السلطة تميل إلى استخدام قوانين الطوارئ وإلى تقوية أجهزة الشرطة والجيش وإلى استعراض القوة في كل مناسبة وحتى بغير مناسبة، ويصبح الجهاز الأمني هو صمام الأمان ومبرر الوجود لهذه السلطة، وبالتالي لا تهتم بالحوار مع الجماهير أو محاولات إقناعهم أو استمالتهم أو إرضائهم بالوسائل السياسية أو غيرها، وإنما هي دائما تستخدم الحل الأمني بشكل مفرط. وهذا هو أكثر أشكال السلطة بدائية ووحشية وغباء، وهذا النمط منتشر بكثرة في دول العالم الثالث المتخلفة.
2- الكيفية التعويضية: هذه السلطة تنال رضا شعبها عن طريق المكافآت المادية وفرص الرفاهية والاستهلاك وبعض الحرية الفردية، فكأنها تشتري ولاء الشعب برشوته ببعض التعويضات المادية، وتنتشر هذه الكيفية في الأنظمة الرأسمالية الليبرالية. وهذه السلطة تشتري إرادة شعبها ولكن بصورة أكثر قبولا حيث تخلو من العنف والازدراء.
3- الكيفية التلاؤمية: وهي تعني تبادل الرأي واحترام كل طرف للآخر واللجوء للتثقيف والإقناع والحوار الحقيقي ، ووجود حالة من الشفافية والتعددية الحقيقية، والتوازن بين السلطة والشعب .
أنواع الأنظمة السياسية:
يمكن تقسيم الأنظمة السياسية إلى نوعين رئيسين:
1- أنظمة الطفرة: وهي أنظمة تتشكل في ظروف غير طبيعية (كانقلابات عسكرية أو تعيين أو توريث) وكأنها تأتي بالمصادفة، وهذه الأنظمة تكون غير منطقية وتصرفاتها غامضة وفجائية وغير مفهومة، فهي تخضع لمزاج فرد على رأس السلطة، ولا يمكن التنبؤ باتجاهاتها أو قراراتها، وهي دائما في حالة تخبط واضطراب وتنتقل من فشل إلى فشل حتى تصل إلى الانهيار. والسلطة في هذه الأنظمة هي سلطة الفرد أو سلطة السلطة أو سلطة الطغيان والاستبداد.
2- أنظمة الاستقرار: وهي أنظمة قامت على قواعد ديمقراطية سليمة حيث تم انتخابها بشكل طبيعي من الشعب، وهي تعمل طبقا لدستور حقيقي تحترمه (ولا تغيره حسب رغبتها واحتياجاتها) ، كما أنها تستند إلى مؤسسات حقيقية تضمن ثباتها برغم تغير الأشخاص، وهذه الأنظمة تقوم عل الإرادة الجماعية للشعب ومؤسساته وتضمن تداول السلطة بشكل سلمي لذلك تتجدد دماؤها من وقت لآخر بشكل صحي بعيدا عن المغامرات والمهاترات. ويستطيع المراقب لهذه الأنظمة أن يفهم كيف تسير ويتوقع خطواتها واتجاهاتها لأنها سلطة منطقية شفافة وشريفة ومتناسقة مع أهدافها وغاياتها ومع مصالح شعوبها .والسلطة في هذه الأنظمة هي سلطة الإدارة القائمة على الدستور والقانون.
أنماط السلطة:
ويمكن تصور أنماط السلطة بطريقة أخرى كالتالي:
1- السلطة المنطقية: وهى قائمة –كما ذكرنا– على أسس واضحة ومفهومة.
2- السلطة غير المنطقية: وهى تتسم بالغموض والعشوائية وعدم الاتساق.
3- السلطة الأبوية: وفيها يعتبر صاحب السلطة نفسه أبا للرعية وفى نفس الوقت ينظر لرعيته على أنهم أطفال قاصرين لا يعرفون مصلحتهم، ولذلك لا يتورع عن إلغاء إرادتهم (من خلال حكم مستبد) أو تزييف إرادتهم (من خلال انتخابات وهمية تحقق لصاحب السلطة أهدافه باسم الشعب ومن خلال إجراءات شبه ديمقراطية مزيفة).
4- السلطة الفرعونية: وفيها يشعر الحاكم بملكية الوطن وملكية الشعب والأحقية المطلقة في التوجيه والتصرف، وهذه السلطة يصورها فرعون بقوله: " أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي"... وقوله "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد "وقوله "ما علمت لكم من إله غيري".
5- سلطة السلطة: وهي تقوم على شرعية القوة الشرطية والعسكرية.
6 – سلطة الفرد: وفيها يتحكم فرد في كل شيء ويمسك بكل الخيوط، ويلعب بقية الناس أدوار الكومبارس أو السكرتارية أو العبيد.
6- سلطة الإدارة: وهي تقوم على مؤسسات حقيقية معبرة عن إرادة الجماهير، وتوجد آليات حقيقية لمراقبتها ومحاسبتها وتعديل مسارها وتجديدها من وقت لآخر بطرق سلمية.
ويتبع >>>>> : أمراض السلطة(2)
اقرأ أيضاً:
سيكولوجية الشيعة وإمكانات التعايش2 / الآلة والإنسان في عمارة يعقوبيان(5) / تأملات في فتاوى الهواء