قراءة في التراث المسيحي في العصور الوسطى
عرف السيد المسيح عليه السلام بتسامحه الشديد، وعرفت الأناجيل والديانة المسيحية بدعوتها المتكررة إلى التسامح ونبذ العنف وإراقة الدماء، "لأن كل الذين يأخذون السيف، بالسيف يهلكون"، كما دعت أيضاً إلى عدم ممارسة العنف والشر "لا تجاوزوا أحداً عن الشر بشر معتنين بأمور حسنة قدام جميع الناس لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء، بل أعطوا مكاناً للغضب، لا يغلبنك الشر، بل اغلب الشر بالخير"
كما لم يغب على الكنيسة والشعب المسيحي دعوة السيد المسيح "سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن، وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فأدر له الآخر أيضاً"، غير أن الأمر لم يكن بهذه البساطة، فقد انتشرت المسيحية في أوربا عبر مجتمع تشبع بالتراث اليوناني والروماني الكلاسيكي، وتمجيد فكرة الحرب خاصة وأن سكان الغرب الأوربي من الجرمان كانت الحرب عملاً عادياً في شريعتهم، حيث اعتمدت حياتهم على القتال من أجل الكلأ القليل في الشمال الجليدي للقارة الأوربية، وهذا ما حدا بمصادرهم التاريخية لأن تعترف أن أعمال الحرب والقتال لديهم كانت بمثابة "رياضة يومية"، وهكذا، فنتيجة لتزاوج المسيحية والجرمان في الغرب اللاتيني، نجح الأخيرون في نحت تعبير "الحرب المقدسة"، بعكس ما حدث في الشرق الأوربي البيزنطي إذ أن القديس باسل الكبادوكي – أعظم مشرعي الكنيسة البيزنطية – قد اعتبر أن الشهيد المسيحي هو من يموت متسلحاً بالإيمان، وليس الذي يقتل في الحرب بواسطة أعداء المسيحية.
ومن الواضح أن تعليمات باسل الكبادوكي كانت المعادل الموضوعي لجوهر المسيحية، ومبادئ السيد المسيح، لدرجة أنه ذكر أن على الجندي المسيحي الذي يقتل عدوه في الحرب أن يكفر عن ذنبه بالابتعاد عن الجماعة المقدسة لثلاث سنوات.
إن قيام الجندي البيزنطي المسيحي بالقتال ضد الفرس الوثنيين، وضد المسلمين لم يكن يجلب له مكانة مقدسة في المخيلة المسيحية البيزنطية، ولعل هذا هو ما جعل ستيفن رنسمان يفسر الطابع الدفاعي الغالب للحروب البيزنطية في بلاد الشام وفارس.
وعلى العكس من ذلك تماماً، ففي الغرب الأوربي، قام القديس أوغسطين (354 ـ 430 م) بتوفير الغطاء الكنسي لفكرة الحرب في المسيحية الكاثوليكية، إذ كان مقتنعاً بفكرة أن الرب هو الآمر بالحرب التي تشن بهدف فرض السلام! ولعل هذا ما دفع كل من جيمس برونداج (1969) وفريدريك راس (1973).
لقد تجاوز القديس أوغسطين فكرة الحرب العادلة لدى شيشرون التي كان يجب أن يكون لها سببها الأخلاقي، وشكلها الاحتفالي أيضاً، ليقرر أن الحرب التي تشن بناء على أمر مقدس هي حرب عادلة، لأن الرب بالضرورة هو الذي أمر بها، ولما كانت حروب الرب عادلة بالضرورة، فإنه يحق للحكام المسيحيين الأمر بسن الحرب دفاعاً عن الحق وبهذا تكون حربهم عادلة استناداً إلى ما قاله بولس الرسولي إلى أهل رومية (13 :1ـ 3) "لتخضع كل نفس للسلاطين الكائنة، لأنه ليس سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله، حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله".
وهكذا قدم القديس أوغسطين التبرير المسيحي الأول للحرب، وذكر أن الحرب العادلة يمكن أن تقوم المسيحية بشنها حين يتجاهل شعب ما أو مدينة ما حقوق الآخرين، كما يمكن أيضاً أن تشن لاستعادة ما أخذه شعب من شعب آخر بالقوة. غير أنه اشترط للحرب العادلة أن تشن بواسطة حاكم شرعي، وأن يكون لديها سبب عادل. وأن تكون الحرب هي الوسيلة الوحيدة لاستعادة الحقوق.
وكما يرى قاسم عبده قاسم (2003) فإن القديس أوغسطين قد عالج المفاهيم التي وردت في الكتاب المقدس عن الحرب بشكل سياسي، مما أدى إلى تغير الموقف الفكري للكنيسة الغربية من الحرب، إذ أنها قد صارت عملاً ضرورياً بعد أن كانت عملاً خاطئاً. وعلى هدي القديس أوغسطين، سار ايزيدور الأشبيلي (636 ـ 750 م) في كتابه الاشتقاقات بعدما ذكر أن "الحرب العادلة هي الحرب التي تشن بأمر لاستعادة الممتلكات أو لصد الهجوم".
كما أن البابا جريجوري الكبير (590 ـ 603 م) لعب أيضاً دوره الكبير في "عسكرة الكنيسة" فقد نزل إلى الميدان العسكري، وقام بالتنظير في كيفية الدفاع عن المدن وكيفية حصارها، وأخذ في التحريض على محاربة أعداء الكنيسة بوصفهم أعداء للرب.
أما البابا ليو الرابع (847 ـ 855 م) فقد ربط بين الحرب العادلة ضد المسلمين ومفهوم الخلاص، عندما حض على مهاجمة المسلمين الذين هاجموا مدينة روما، كما أنه وعد من يموت من الجنود المسيحيين في خضم القتال بمكافأة سماوية.
وفيما بعد، طلب البابا يوحنا الثامن (872 ـ 882 م) مساعدة شارل الأصلع ضد المسلمين، واعداً الجنود المسيحيين الذين يموتون دفاعاً عن الكنيسة بالخلود الأبدي، غير أن البابا ليو الحادي عشر (1049 ـ 1054 م) قرر اتخاذ خطوة أكثر جرأة نحو عسكرة الكنيسة والمسيحية بأن قاد بنفسه فرقة عسكرية لمحاربة النورمان الذين نجحوا في هزيمته بل وأسره عام 4053 م. وبعد ذلك، وفي خطوة لافتة، قام البابا إسكندر الثاني (1061 ـ 1073 م) باستثناء ذبح المسلمين من التحريم الكنسي العام للقتل، ودعى المسيحيين الأسبان إلى قتال المسلمين، وقام بتشجيع ما اصطلح هناك على تسميته بحروب الاسترداد الأسبانية، واعداً المحاربين الأسبان بالتكفير عن الخطايا، باعتبارهم يخوضون حرباً عادلة.
على أن أكثر البابوات الكاثوليك ميلاً إلى الحرب والقتال كان جريجوري السابع (1073 ـ 1085 م)، والذي كرس فكرة الحرب العادلة الهجومية ضد أعداء الكنيسة، سواء كانوا مسيحيين علمانيين مثل الإمبراطور الألماني هنري الرابع. أو ضد المسلمين في الأندلس، فقد كانت فكرته تقوم على تبرير الحرب الهجومية من أجل توسيع رقعة العالم المسيحي، والدليل على ذلك استخدامه عبارة حرب المسيح Militia Christi كثيراً، تلك التي جاءت على لسان بولس الرسول، على حين أنه كان يقصد بها حرب المسيحي النقي والمتسامح ضد الشر والإغواء، بحيث يتسلح المسيحي بروح النسك كما هو الحال لدى الشهداء الرهبان والنساك، أما جريجوري السابع فقام بتفسير كلمات بولس لتعني الحرب المادية ضد أعداء المسيحية كما تراهم النظرة البابوية.
وهكذا عبدت تعاليم جريجوري السابع الطريق أمام البابا أربان الثاني (1088 ـ 1099 م) للدعوة للحروب الصليبية ضد المسلمين في مجمع كليرمون بفرنسا 1095 م. إذ صارت الحرب العادلة والمقدسة هي السائدة في السياسة البابوية في الغرب الأوربي، وبالتالي فقد صار أمر مهاجمة المسلمين في بلاد الشام ممكناً ومبرراً بعد أن غير جريجوري السابع الموقف الرسمي للكنيسة من الحرب، بعد أن جعل الكنيسة المسيحية الكاثوليكية تعترف بالحرب، ليس بوصفها ممارسة مشروعة فقط، بل بوصفها خطوة لازمة في سبيل الخلاص، بعد أن تم الربط بين الغفران المسيحي والحرب ضد المسلمين.
وهو ما جعل المصادر التاريخية المعاصرة للحروب الصليبية في الشرق العربي (1097 ـ 1291 م) تصف الجنود المسيحيين الذين هبوا لقتال المسلمين بأنهم "جيش المسيح" والشعب المقدس و"فرسان المسيح" وبنفس الطريقة السابقة، تم اعتساف آيات الكتاب المقدس من أجل تسويغ المشروع الصليبي، فجرت تفسيرات ملتوية لآيات على شاكلة".......إن أرد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه، ويحمل صليبه ويتبعني. (متى:16 :24 ).
وهكذا لعب مفكروا الكنيسة وباباواتها بدءاً من القديس أوغسطين ذي الأصل الجزائري، دورهم الكبير في تسويغ فكرة الحرب العادلة التي اتخذت بعداً هجومياً من أجل المساهمة في نشر الدين المسيحي على حساب أديان ومذاهب أخرى مناهضة. وهو ما تجلى في نهاية القرن الحادي عشر، حين امتطى الفكر الصليبي صهوة عسكرة الكنيسة من أجل تسويغ عملية إهراق دماء المسلمين في مدينة القدس 1099 م حيث تبارت المصادر الصليبية المعاصرة لهذا الحدث الأليم – بفخر كبير يتعارض مع مبادئ التسامح المسيحية وإنسانيتها – في شرح كيف نجح جنود المسيح في إزهاق أرواح الآلاف من سكان القدس المسلمين والمسيحيين المدنيين، دون تمييز، وكيف ارتكبوا عدة مذابح مروعة بالمدينة، بحثاً عن مكافأة سماوية بالتكفير عن الآثام والخطايا التي ارتكبوها سابقاً، باعتبارهم يشنون حرباً عادلة ضد أعداء الرب.
* هذا مقال أخذ عن جريدة الحياة، بقلم الأستاذ الدكتور حاتم الطحاوي (كلية الآداب – جامعة الزقازيق - مصر)
واقرأ أيضا:
أوربا والإسلام في العصور الوسطى / جدل السياسة والدين