الإمبراطور البيزنطي مانويل بإليولوغس والإسلام: جدل السياسة والدين
اعتمد الجزء الخاص بالإسلام في محاضرة البابا بندكت السادس عشر على التراث الجدلي بين المسيحية والإسلام في العصور الوسطى، وخاصة إبان فترة الدولة العثمانية. وسوف يحاول هذا المقال تلمس الأجواء السياسية والدينية التي اكتنفت العلاقة بين العثمانيين المسلمين الذين كانت لهم اليد العليا، والبيزنطيين الذين كانوا مجرد أتباع إقطاعيين.
اعتلى السلطان بايزيد الأول (1389-1402م) العرش العثماني، بعد وفاة والده مراد الأول، واستمر في متابعة السياسة العثمانية الرامية إلى التدخل في الصراعات العائلية بين أفراد أسرة بإليولوغس في القسطنطينية. كما مارس السلطان بايزيد علاقة التبعية بين العرشين العثماني والبيزنطي، فأصدر أوامره للإمبراطور يوحنا الخامس بأن يرسل إليه ابنه الأمير مانويل على رأس قوة تتألف من مائة مقاتل بيزنطي، ولم يكن أمام الإمبراطور الضعيف سوى تنفيذ تلك الأوامر، فأرسل ابنه مانويل الذي ساعد السلطان بايزيد في الاستيلاء على مدينة فيلادلفيا آخر معاقل البيزنطيين في آسيا الصغرى.
وفيما بعد استغل الإمبراطور يوحنا الخامس غياب السلطان بايزيد في آسيا الصغرى، وقام بإجراء بعض الإصلاحات والترميمات في أسوار القسطنطينية، الأمر الذي أثار غضب بايزيد، وهدد الإمبراطور البيزنطي بسمل عيني ابنه مانويل الموجود لديه، اذا لم يقم بهدم التحصينات والترميمات التي قام بها في أسوار المدينة.
وهكذا فلم يكن أمام يوحنا الخامس بد من هدم ما قام به من إصلاحات، ويبدو أن الإمبراطور البيزنطي لم يستطع تحمل كل تلك المهانات الموجهة من قبل السلطان العثماني فمات في أوائل العام 1391م. علم الأمير مانويل بوفاة والده، فتسلل هاربا من المعسكر العثماني، ووصل إلى القسطنطينية حيث اعتلى العرش البيزنطي (1391-1425م).
استمر السلطان بايزيد في ممارسة علاقة التبعية مع الإمبراطور الجديد مانويل، وأصدر إليه العديد من الأوامر، التي أبدى الأخير تذمره منها غير مرة، الأمر الذي جعل السلطان العثماني يوجه إليه رسالة ضمنها عبارته الشهيرة "إذا لم تكن راغباً في تنفيذ أوامري، فأغلق عليك أبواب مدينتك (القسطنطينية)، واحكم داخلها، فكل ما وراء الأسوار ملك لي".
غير أن تذمر الإمبراطور مانويل من العلاقة التي تضمن تبعيته للسلطان بايزيد، دفع السلطان العثماني إلى التوجه بقواته إلى إقليم تراقيا، ثم تقدم نحو القسطنطينية لمحاصرتها. ولم ينته الحصار إلا بعد رضوخ الإمبراطور البيزنطي مانويل لمطالب بايزيد، والتي كان من ضمنها ضرورة إنشاء مسجد جديد في القسطنطينية. وكذلك إقامة محكمة إسلامية يرأسها أحد القضاة العثمانيين للنظر في المنازعات بين التجار المسلمين، فضلاً عن تخصيص حي في القسطنطينية لإقامة السكان الأتراك المسلمين.
وعادت العلاقات الطبيعية بين مانويل والسلطان بايزيد، حيث قدم الأول على رأس قواته إلى آسيا1391م لمساعدة بايزيد في حروبه هناك، وأمر السلطان بايزيد بضرورة عقد اجتماع لكافة حكام المدن التابعين له، من أجل تكريس المزيد من تبعيتهم له، وتقديم المساعدة العسكرية بشكل دائم، وكان من بين هؤلاء الإمبراطور مانويل الثاني بإليولوغس الذي قرر التخلص من علاقة التبعية للسلطان بايزيد، فكان رد الأخير أن قام بحصار القسطنطينية 1394م، وبدأ في تنفيذ تهديده السابق لمانويل، إذ استولت قواته على جميع ممتلكات الإمبراطور خارج أسوار المدينة.
وبدا أن مسرح الأحداث قد أصبح مهيئاً لسقوط القسطنطينية في أيدي العثمانيين هذه المرة. ولم يكن أمام الإمبراطور البيزنطي إلا أن يتوجه نحو الغرب الأوربي، يناشده حماية القسطنطينية التي ظلت قروناً طويلة حصن الأمان الشرقي للعالم الأوربي المسيحي.لكن مناشدة الإمبراطور مانويل الثاني بإليولوغس لم تثر في الغرب سوى الشعور بالعطف، اذ ذهبت نداءاته للبابوية الكاثوليكية في روما أدراج الرياح، ولم تصله سوى تطمينات معنوية، ووعد –لم يتحقق أبدا- بالمساعدة.
وتقاعس البابا عن مساندته بسبب الشقاق المذهبي بين كنيستي روما والقسطنطينية. ومكث الإمبراطور في باريس ينتظر وصول خبر سقوط القسطنطينية، بين يوم وآخر، في الوقت الذي توجهت فيه سفارة من النبلاء البيزنطيين إلى آسيا الصغرى من أجل تسليم مفاتيح مدينة القسطنطينية للسلطان بايزيد الأول.
وهكذا كانت القسطنطينية على وشك السقوط النهائي في أيدي العثمانيين في بداية القرن الخامس عشر الميلادي، لولا تدخل القدر ليزيد من عمر بيزنطة نصف قرن جديد، بعد أن استطاع تيمورلنك هزيمة السلطان بايزيد الذي مات لديه في الأسر بعيد معركة أنقرة 1402م. على أية حال، انعكست آثار هزيمة العثمانيين في موقعة أنقرة على مسرح الأحداث داخل السلطنة العثمانية، وفي بيزنطة، فقد مكن الانتصار المغولي ،وزوال الخطر العثماني عن القسطنطينية، الإمبراطور مانويل من العودة إلى عرشه بالقسطنطينية، التي صمدت أمام العثمانيين لنصف قرن جديد.
وقبل التعرض بشكل عام للمساجلة التي حدثت بين الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني بإليولوغس، وأحد علماء الدين المسلمين، تلك التي اعتمدت عليها خطبة البابا آنفة الذكر، يجب التذكير بأن المساجلات الدينية بين العلماء العثمانيين والبيزنطيين إنما تعود إلى وقت طويل قبل زمن الإمبراطور مانويل، وعلى سبيل المثال كان الصوفي الكبير جلال الدين الرومي يقوم باستمرار بزيارة دير أفلاطون البيزنطي القريب من مدينة قونية لمناقشة بعض المسائل الدينية مع الرهبان في نهايات القرن الثالث عشر الميلادي.
وعلى أية حال، وحسب مصدر بيزنطي واحد، وهو الإمبراطور مانويل، إذ لم يرد ذلك في المصادر التاريخية أو الأدبية العثمانية، فقد دار جدال ديني بين الإمبراطور البيزنطي الذي كان قد توجه بقواته إلى أنقره لمساعدة السلطان بايزيد في حملته العسكرية ضد القاضي برهان الدين أمير منطقة سيواس، وبين أحد علماء الدين الفرس الذي نعته الإمبراطور بالمدرس Le Mudarris . وينبغي هنا التوضيح أولا بأن البابا بندكت السادس عشر وآخرين قد جانبهم الصواب فيما نرى، حيث لم يكن هذا العالم فارسياً بل كان تركياً عثمانياً تلقى علومه الدينية في القاهرة. وذلك لأن المصادر التاريخية البيزنطية ترى أن أصل العثمانيين إنما يعود إلى الفرس، وأن المصادر الأولى كانت تتعامل في بداية الأمر مع المسلمين باعتبارهم عرباً و فرساً قبل ظهور الأتراك على مسرح الأحداث.
ذكر مانويل أنه كان بالقرب من أنقرة للراحة والاستجمام، حيث نزل في منزل ذلك العالم التركي الذي لم يذكر اسمه، وأدار معه مساجلة فكرية بين المسيحية والإسلام استمرت لعشرين يوماً متتالية، أخذ الإمبراطور يشرح فيها باستفاضة للشيخ المسلم قناعاته وإيمانه الراسخ بأن الرب سوف يقوم في النهاية بمعاقبة الأشرار، واعتمد في ذلك على استشهادات وإشارات من الكتاب المقدس، كما أن مانويل توصل إلى فكرة ذات مدى أبعد، هي أن التعاليم الزائفة والشريرة للإسلام يجب أن يتم كشفها للمسلمين قبل يوم الحساب، حتى لا يحاسبوا عليها!!كما تناولت المساجلة أيضاً بين الإمبراطور مانويل والعالم العثماني المسلم موضوعات أخرى ذات أهمية كبيرة دارت حول اللاهوت والتصور الإسلامي للجنة، والأنبياء، والروح القدس، والثالوث المقدس،فضلاً عن طبيعة الإنسان والحيوان والنبات وغيرها.
وإذا كانت كافة التصورات الإسلامية للكون، والأنبياء، والآخرة لم تكن لتجذب اهتمام الإمبراطور مانويل الثاني بإليولوغس، فإن فكرة الجهاد في الإسلام –حسب المساجلة السابقة – كان لابد لها من الاستحواذ على اهتمامه، ويتجلى ذلك ببساطة في كونه حاكماً مسيحياً للإمبراطورية البيزنطية، دولة الروم بحسب المصادر الإسلامية، التي نجحت فكرة الجهاد، وحركة الفتوحات الإسلامية في تخليص ولايات الشام ومصر وشمال أفريقيا من قبضتها، فضلاً عن توغل المسلمين من الأمويين والعباسيين والأتراك السلاجقة في الممتلكات البيزنطية في آسياالصغرى. وها هو وضع دولة الروم يأخذ في التقلص بحيث أصبح إمبراطورها مانويل الثاني بإليولوغس مجرد تابع للسلطان العثماني المسلم، ولا يستطيع أن يحكم أو يمارس سلطته إلا داخل أسوار مدينة القسطنطينية فقط .لهذا كله كان مانويل يحاول نقض فكرة الجهاد في الإسلام، وآية سورة البقرة "لا إكراه في الدين" زاعماً انتشار الإسلام بالسيف، منطلقاً من موقفه ووضعه السيئ أمام العثمانيين، كل ذلك بفضل فكرة الجهاد في الإسلام.
ولقد قام البروفسور عادل ثيودور خورى بنشر المساجلة باليونانية القديمة وترجمتها الفرنسية مع مقدمة وملاحظات ودراسة نقدية لها. عن ذلك انظر:Khoury،Th ، Manuel II Paleologue Entretiens avec un Musulman،7e controverse،paris،1966 ، أما سطور الحوار التي استشهد بها البابا في خطبته فتقع في الصفحات 144-145 من الكتاب. وهكذا كان من الطبيعي أن يرتدى مانويل إبان تلك المساجلة ثوب المسيحي المتعصب لدينه، والمهاجم لتعاليم الإسلام، ويمكن فهم ذلك إذا ما رجعنا إلى المناخ السياسي السائد آنذاك، الذى كرس تبعية الإمبراطور البيزنطي المسيحي للسلطان العثماني المسلم، حيث بدأ مانويل الثاني بإليولوغس يرى بعينيه المد الإسلامي الذي اجتاح الممتلكات البيزنطية في آسيا الصغرى، ويحاصر القسطنطينية، عاصمة المسيحية الأرثوذكسية، على أن الذي غاب عن البابا بندكت السادس عشر، وعن كثيرين آخرين، هي سماحة الإسلام في عهد العثمانيين الأوائل إذ كيف سمحت السلطات العثمانية بإقامة مساجلة دينية لعشرين يوماً متتالية، قال فيها الإمبراطور البيزنطي المسيحي الخاضع للسلطان العثماني، كلاما يهاجم فيه تعاليم الإسلام، وأن يأمن عاقبة ذلك، كل ذلك بفضل مناخ احترم المسيحيين واحترم عقيدتهم، واضعا نصب عينيه أن للمساجلات الدينية أحكامها. وهذه مسألة كان يجب على البابا أن يذكّر به، وألا يقوم بنزع كلمات الإمبراطور مانويل من سياقها التاريخي الذي يشهد بتفوق وتسامح الإسلام.
..... وتتبقى كلمة أخيرة، لقد عادت البابوية الكاثوليكية طوال العصور الوسطى الإسلام والمسلمين بشكل يفيض بالتعصب المقيت، كما أنها عادت –وفي نفس الوقت– الكنيسة البيزنطية الأرثوذكسية، وأباطرتها ،متهمة إياها بالهرطقة والمروق عن المذهب العالمي الكاثوليكي، وأبسط دليل على ذلك هو أنها لم تمد أبداً يد العون للإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني بإليولوغس نفسه عندما رحل إلى مدينة روما يلتمس المساعدة من البابا الكاثوليكي ضد العثمانيين المسلمين.
ويبرز هنا تساؤل ساذج، لماذا اعتمد بابا الكاثوليك بندكت السادس عشر على عبارات –إن صدقت لأنه لا دليل آخر على صدقها لدى المسلمين– وردت على لسان الإمبراطور البيزنطي المارق عن السلطة البابوية الكاثوليكية في روما آنذاك؟؟ إلا إذا كان ذلك يوافق هوى البابا الكاثوليكي الجديد القابع في الفاتيكان، الذي يبدو أنه يدشن بمحاضرته الأخيرة عنواناً لحقبة جديدة من التعصب المسيحي (الرسمي جداً هذه المرة) ضد الإسلام والمسلمين.
هذا مقال أخذ عن جريدة الحياة، بقلم الأستاذ الدكتور حاتم الطحاوي ( كلية الآداب – جامعة الزقازيق - مصر).