على مدى سنوات رحت أتابع البرامج الدينية وبرامج الفتوى على الفضائيات العربية، وربما يرجع ذلك لعدة أسباب منها محبتي لتلك البرامج النابعة من محبتي للدين ورموزه، وفرحتي بأثر هذه البرامج في تعميق المعرفة الدينية والفهم الديني لدى الناس على يد مجموعة من الدعاة والداعيات منحهم الله القدرة والموهبة على مخاطبة عقول الناس وقلوبهم وأرواحهم، وقد تجلى هذا في السنوات الأخيرة حيث أقبل الناس على الدين وخاصة الشباب، وأخيرا شغفي المهني بأثر تلك البرامج على الناس خاصة وأننا كشعوب عربية وإسلامية يشكل الدين أحد أهم العوامل المؤثرة في سلوكنا الشخصي والعام . وشيئا فشيئا وجدت تحولا مزعجا في بعض البرامج استدعى الانتباه فالتحذير، كما استدعى كتابة هذه الدراسة، والتي سنقسمها إلى عدة أقسام هي:
1- السائل (المستفتي – بكسر التاء الأخيرة) 2- المسؤول (المستفتى – بفتح التاء الأخيرة) 3- موضوع السؤال (الفتوى) ، وأخيرا 4- تساؤلات ومقترحات
أولا: السائل، تنحصر أنواع السائلين طبقا لأسئلتهم كالتالي:
1- سائل يبغي الاسترشاد والمعرفة والفهم بصدق وإخلاص وتواضع.
2- سائل سفسطائي مجادل.
3- سائل متشكك ومثير للشبهات.
4- سائل مستهزئ معاند.
5- سائل يهدف إلى التعجيز والشماتة في المسئول حين يتحير أو يرتبك.
6 – سائل يهدف إلى التسلية والكلام والثرثرة لأطول فترة على التليفزيون.
7 – سائل متنطع متفيقه (مدّعي العلم ومتصنع المعرفة ومتحذلق)، وسؤاله يثير قضايا خلافية هامشية، والهدف هنا هو استعراض معرفة السائل بدقائق الأمور وخباياها وغرائبها ومشكلها
8- سائل وسواسي، وهو يتميز بالدخول في تفاصيل التفاصيل، ولا يقنع ولا يطمئن لإجابة، بل كل إجابة تفتح تساؤلات جديدة بلا نهاية.
9- سائل سلبي اعتمادي يسأل عن أي شيء وكل شيء ولا يريد أن يتحمل مسئوليته عن السؤال أو عن الجواب ولا يمحصه بعقلية نقدية ناضجة وواعية، فهو لا يحقق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك"، فهو لا يحب أن يتعب نفسه في شيء، بل يريد مفاهيم جاهزة ومريحة. وهذه الاعتمادية الطفلية مرتبطة بطبيعة الاستسهال لدى قطاع كبير من الجمهور العربي، ومرتبطة أيضا بطبيعة المجتمع الأبوي الذي يقسم الناس إلى آباء يعرفون كل شيء وأطفال جهّال لا يعرفون شيئا فيسألون الآباء (والأمهات) عن كل شيء وعن أي شيء. والشخص السلبي الاعتمادي يخاف من حريته الشخصية وما يترتب عليها من مسئوليات لذلك يلقي بالتبعة على كبير يسأله ويحمله مسئولية الإجابة وما يترتب عليها. وبما أننا أصحاب ثقافة شفاهية، لذلك يندر أن نرى أحدا يبحث عن إجابة لسؤاله بين صفحات الكتب أو على الإنترنت، وإنما نستسهل السؤال الشفاهي في الإذاعة أو التليفزيون.
ثانيا: المسئول، على الرغم من صعود نجم عدد غير قليل من الدعاة (رجالا ونساءا) ذوي العلم الراسخ والجاذبية الاجتماعية الهائلة وذوي التأثير الروحي الواضح يشع نور الإيمان من وجوههم حين يظهرون على الشاشة وقد ساهموا في إنارة عقول المشاهدين على مستوى العالم، إلا أن الأمر لم يسلم من صعود نجم دعاة آخرين ركبوا الموجة وتملقوا الجماهير بحركات بهلوانية وتعبيرات مسرحية لا تليق بوقار العلماء واحترامهم لأنفسهم واحترام الناس لهم، وأحدثوا إشكالات والتباسات عديدة نذكر منها:
* الخلط بين الداعية والمفتي، فالداعية يمكن أن يكون شخصا لديه قدرة على ترقيق القلوب وتحريك المشاعر نحو الدين ولكنه ليس بالضرورة من العلماء المنهجيين الراسخين في العلم (بالطبع هناك دعاة من العلماء الراسخين في العلم)، وبعض هؤلاء الدعاة لديهم كاريزما شخصية ربما تجعل قبولهم عند الناس هائلا خاصة الشباب الذين يبهرهم مظهر الداعية و"روشنته" وطريقة كلامه واستخدامه لمفردات لغة العصر أو لغة الشارع. أما من يتصدر للفتوى فيجب أن يكون عالما راسخا منهجيا يتسم بالرزانة والتعقل ولا يسعى لإعجاب الجماهير أو إبهارهم.
* هناك بعض الدعاة الساعين للشهرة من خلال تملق الجماهير وتحسس مواطن إعجابهم فهم يبالغون في المظهر والكلام بما يرضي ذوق الجماهير، وقد يضطرون للإتيان بغرائب الكلام أو غرائب الفتوى بهدف جذب الانتباه. وهذا الداعية الساعي للشهرة يسعد جدا بالجدل الذي تحدثه آراؤه وفتاواه على الفضائيات وفي الصحف ويسعد بنشر صوره تحت فتاواه المثيرة للجدل.
* وهناك من يسمون "دعاة البيزنس" وهم يأخذون الموضوع تجارة وتكسبا ويستغلون محبة الناس للدين فيبيعون لهم المواعظ المحركة للمشاعر في شكل برامج فضائية أو أشرطة كاسيت، وهذا النوع من الدعاة يضع نصب عينه راحة الزبون وانبساطه وانسجامه فيقدم له الدين في الثوب الذي يريحه وعلى المقاس الذي يناسبه، ويداعب ذوقه بالنكتة والطرفة، والحكاية المسلية أو المؤثرة، ويبعد عنه كل مالا يعجبه أو يظن أنه يعكر صفوه. وهؤلاء الدعاة نجدهم هذه الأيام طوّافون على الفضائيات وفي المساجد الراقية (فقط) وفي شركات رجال الأعمال، وفي صالونات علية القوم، وفي منتديات الأندية الرياضية المتميزة وفي صالات الفنادق الفخمة، وأحيان يطلق عليهم الدعاة السوبر، فهم حلال على الأغنياء حرام على الفقراء.
ثالثا: موضوع السؤال (الفتوى): لا شك أن هناك أسئلة تلقي الضوء على مسائل هامة تفيد الناس في حياتهم وأخراهم، ولكن هناك عل الجانب الآخر أسئلة وموضوعات للفتوى تتسم بالتالي:
1- هامشية الموضوعات بحيث تمس فروعا لا أهمية لمعرفتها ولا ضرر من الجهل بها.
2- عشوائية الموضوعات وتناثرها وتناقضها أحيانا وذلك بسبب كثرة الفضائيات وعدم وجود أي تنسيق بينها.
3- الإباحية واستخدام بعض الألفاظ والتعبيرات التي لا يصح استخدامها داخل البيوت وأمام الأطفال أو الفتيات الصغار في البيوت المحترمة.
4- تآكل منطقة المباح التي جعلها الله فسحة للناس ورحمة.
5- غرابة الموضوعات ، ونعطي لذلك بعض الأمثلة:
* مسألة رضاعة الخدم الرجال من صاحبة البيت حتى تصبح أمهم في الرضاعة فيستطيعون الدخول عليها دون حرج.
* مسألة التدخين في نهار رمضان وأنه لا يفطر.
* البحث عن أسماء أصحاب الكهف وجنس النملة التي كلمت سيدنا سليمان وجنس كلب أهل الكهف واسم أخت سيدنا موسى عليه السلام واسم فرعون موسى.
* هل أسلم فرعون قبل وفاته أم لا؟
* هل خلقت حواء من الضلع الأيمن لآدم أم من الضلع الأيسر ، وهل خلقت وهو نائم أم كان مستيقظا؟
6 – خطورة الموضوعات، ونضرب لها مثلا بالفتوى التي صدرت أيام الحرب على لبنان وتحت تأثير الغضب مما يحدث أفتى أحد الشيوخ بوجوب قتل أي إسرائيلي مدنيا كان أو عسكريا في أي مكان يوجد فيه، وصرح من قدم هذه الفتوى بأنه شخصيا لو وجد سائحا إسرائيليا في شوارع القاهرة أو في أي مكان من العالم لقام بقتله.
7 – اختلاط مفسري الأحلام بالدعاة وعلماء الدين، فهناك الآن 14 مفسر أحلام على الفضائيات العربية كلهم يلبس رداء علماء الدين ويعلنون انتسابهم للأزهر (بحق أو بغير حق)، وهؤلاء يمارسون نوعا من التدليس والتضليل ويوهمون العامة وبعض أنصاف المثقفين بأن هذه التفسيرات أشياء يقينية تنتسب للدين، والدين منها براء، بل هي آراء واجتهادات وتهويمات شخصية وخزعبلات ليس لها أي قواعد أو أصول تجعلها ضمن العلوم اليقينية.
وقد حذر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين من هذا المنزلق في قوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ" ( المائدة 101 ). يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: "أي ما لم يذكره في كتابه فهو مما عفا عنه فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها".
وورد أن هذه الآية نزلت في معرض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في الناس فقال: "يا قوم كتب عليكم الحج" فقام رجل من بني أسد فقال: يا رسول الله أفي كل عام، فأغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا فقال: "والذي نفسي بيده لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم وإذا لكفرتم فاتركوني ما تركتكم وإذا أمرتكم بشيء فافعلوا وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه".
ومن الأمثلة المشهورة في القرآن قصة بني إسرائيل حين أمرهم نبيهم موسى أن يذبحوا بقرة امتثالا لأمر الله فكانت أسئلتهم واستفساراتهم الكثيرة سببا في التشديد عليهم. وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم". وفي الحديث الصحيح أيضا: "إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرّم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها".
وكثرة الأسئلة تؤدي إلى تآكل مساحة المباح (المسكوت عنه) وإلى التضييق والبلبلة وأحيانا الفتنة في الدين، فتأمل مثلا لو أن المسلمين الأوائل أصروا على معرفة تفسير الآيات الكونية قبل أن يتقدم العلم ويكشف الكثير من أسرارها ويصبح العقل قادرا على فهمها واستيعابها.
رابعا: تساؤلات ومقترحات، وبما أننا شعوب متدينة، ويشكل الدين أحد أهم روافد ثقافتنا وسلوكنا، وننظر إلى الرموز الدينية بتقدير واحترام، إذن فيجب أن يتم تنظيم موضوع الفتاوى الدينية على الهواء بما يحقق الغرض المطلوب، فليس الغرض تحقيق نجومية لبعض الدعاة أو تحقيق نجاح إعلامي للقناة، وإنما الغرض من هذه البرامج الدينية بالذات هو توصيل كلمة الله إلى الناس في أنقى صورة وأوضح بيان.
فهل من الممكن أن توضع معايير لمن يقومون بالفتوى تلتزم بها القنوات الفضائية ووسائل الإعلام عموما؟.. وهل من الممكن إنشاء هيئة تابعة للأزهر تقوم بمتابعة برامج الفتاوى على الفضائيات وتصويبها حين يستدعي الأمر، بحيث تعتبر هذه الهيئة مرجعية يعود الناس إليها في حالة الاختلاف أو البلبلة؟؟... وهل من المفيد أن تكون القنوات الفضائية ملزمة –وفق ميثاق شرف مهني– بإذاعة تصويب الفتوى في أقرب حلقة تالية من البرنامج؟؟... وهل يمكن أن نفعل كل هذا دون الافتئات على حرية التعبير في الفضائيات؟؟... وهل وضع المعايير المنظمة يكون أشبه ببرامج منع تسلل الفيروسات إلى برامج الكومبيوتر أو منع دخول الأطعمة الفاسدة عبر الموانئ والمطارات أو منع تداولها في الأسواق ضمن برامج حماية المستهلك؟؟
اقرأ أيضاً:
سيكولوجية الشيعة وإمكانات التعايش2 / الآلة والإنسان في عمارة يعقوبيان(5) / المصريون والجن(3)