المصريون والجن(2)
الدوافع النفسية وثقافة الجن:
قد أدت الاكتشافات الطبية الكبيرة في مجال أمراض المخ والأعصاب والأمراض النفسية (تلك الاكتشافات القائمة على دقة الملاحظة والجهد والمثابرة) إلى كشف الكثير من الغموض المحيط بظواهر بالغ في تفسيرها كثير من الناس على أنها سيطرة للجن على بني البشر، وكان من أكثر الحالات إثارة للجدل حالات الهستيريا وهي الحالات المسئولة عن هذا التشوش فقد استغلها المعالجون الشعبيون لإثبات صحة عملهم وفاعليته، وهذه الحالات تصيب الشخصيات غير الناضجة انفعالياً والقابلة للإيحاء في نفس الوقت (وما أكثرها في ظروف مجتمع يعطل النضج ويزيف الوعي ويعاني القهر والمذلة من الخارج والداخل).
فيحدث أنه في مواجهة ضغوط معينة كعدم قدرة الطالب أو عدم رغبته في إكمال الدراسة أو عدم تكيف زوجة مع زوجها مع ضغط أهلها لاستمرارها بأي شكل، أو عدم قدرة موظف على تحمل ضغوط العمل أو ظروف الفقر أو ضغط رؤسائه وقهرهم، في مثل هذه الظروف يحدث انشقاق في أحد مستويات الوعي فيتكلم الشخص كلاماً غريباً عما ألفناه منه ويتصرف تصرفات غريبة عليه وعلينا، أو يحدث تحول لمعاناته النفسية أو الاجتماعية في صورة إغماء أو فقد للوعي وهي محاولة للهرب من واقع ضاغط لا يستطيع صاحب الشخصية الهشة أو غير الناضجة احتماله أو مواجهته أو تغييره .
فالعرض الانشقاقي هنا يجعل الشخص يتحدث بما لا يستطيع أن ينطق به وهو في كامل وعيه والعرض التحولي يسمح للشخص بالهروب من الواقع الضاغط بأكمله، وفي الحالتين يحدث نوع من التعمية على المشكلات الحقيقية للشخص فلا يراها – أو لا يريد أن يراها – ولا يراها الآخرون (أو لا يريدون أن يروها)، وتأتي محاولات العلاج الشعبية أو شبه الدينية لتضع غطاءاً آخر من التعمية على الموضوع فتهرب من الرؤية الواقعية لمشكلات الشخص وصعوباته وظروفه وتلجأ إلى تفسيرات غيبية وتعزو الأمر لقوى الجن والشياطين وتستخدم وسائل لا تحتاج لمواجهة أو تغيير سواء من المعالج (بكسر اللام) أو المعالج (بفتح اللام).
وفي هذه الممارسات الشعبية تسود الإيحاءات من جانب المعالج ويتفاعل معها المريض أو الشخص "الملبوس" أو "المركوب" بالجني وتحدث دراما تكون أحياناً مبهرة للعامة حيث يرون معركة مقدسة تدور بين شيخ يقرأ متفرقات من نصوص مقدسة ومعه عصا يواجه بها جني كافر يقهر شخصاً ضعيفاً، وبالطبع لابد أن تنتهي هذه الدراما بانتصار الشيخ (أو القس) على الكفار حتى ولو أدى ذلك إلى موت المريض تحت وطأة الضرب.
وأحياناً يفيق الشخص "المركوب" أو "الملبوس" من انشقاقه الهروبي بسرعة تبهر الناس وتزيد من ثقتهم بهذا المعالج "الفحل"، ولكن الأعراض ما تلبث أن تعود عند أول ضغط نفسي أو اجتماعي لأن المعالج لم يبحث عن الأسباب وإنما عالج العرض الموجود فقط في جو من الغموض، وأحياناً يحدث أن يتمادى المريض في أعراضه ويطورها بعدما سمع ورأى من إيحاءات عن تلبس الجن له وتزداد الأمور تعقيداً، وهنا يعود أهل المريض إلى المعالج الذي يبتزهم تحت وهم تأثير الجن.
وقد أراد بعضهم أن يوسع تأثيره على الناس فسجل أشرطة تبين كيف يخرج الجن من المرضى، وانتشرت هذه الأشرطة وسببت فزعاً لكن من سمعها، وجاءوا للعلاج من تأثيرها، وقد قدر لي-كما ذكرت- أن أسمع عدداً من هذه الأشرطة وأن أحضر جلسات لإخراج الجن بالقراءة فما وجدت غير حالات هستيرية كالتي سبق وصفها تتحدث وتتصرف تحت تأثير إيحاءات المعالج الشعبي أو المعالج شبه الديني.
قد يقول قائل: ولماذا لا يذهب الناس إلى الأطباء والمعالجين النفسيين المتخصصين، والجواب أن هناك ثلاث مشكلات تعوق هذا التوجه: المشكلة الأولى تخص تركيبة الناس النفسية والاجتماعية، تلك التركيبة التي لا تقبل ولا تتحمل منهجية العلاج النفسي الحديث الساعية والداعية إلى إيقاظ الوعي والإرادة وتحمل المسئولية الشخصية عما يحدث وتبني المواقف الإيجابية تجاه أحوال الشخص وأحوال المجتمع والسعي نحو تغيير الظروف للأفضل بالسعي والعمل والمثابرة، والسعي نحو المعرفة والنمو والتطور واكتساب المهارات الحياتية ومهارات التكيف مع الناس وإيقاظ ملكات الإبداع.... إلخ.
هذه القيم لا يتحملها وعي كثير من طالبي العلاج في المجتمع المصري والعربي أو حتى أقاربهم والمحيطين بهم وهم يفضلون عليها طريقة العلاج بالقراءة أو العلاج بإخراج الجن أو فك السحر حيث لا تتطلب منهم هذه الوسائل أي شيء يقومون به. والمشكلة الثانية: وهي تخص الأطباء والمعالجين النفسيين، وهي ميل بعضهم إلى العلاج الكيميائي في كل الأوقات والحالات وإهمال العلاج النفسي، أو محاولات العلاج النفسي بمفاهيم غريبة على الثقافة الأصلية للناس، وهذا يجعل المعالج غريباً على من يعالجه ويجعل وسائله وتدخلاته العلاجية أشد غرابة.
وهذا يستدعي من الطبيب النفسي والمعالج النفسي محاولة الاقتراب من ثقافة المجتمع وتركيبته النفسية وتطويع الوسائل العلاجية التي تم تطبيقها وتطويرها في مجتمعات مختلفة لكي تناسب البيئة التي يعيش فيها دون إخلال بقيمتها العلمية والعلاجية، وعلى سبيل المثال نجد كثير من التقنيات العلاجية النفسية الشائعة في المجتمعات الغربية تقوم أساساً على المنطق العقلي الصرف وعلى اعتبار معطيات الحياة الدنيا دون غيرها، وهذا يصطدم كثيراً مع التركيبة النفسية العربية والإسلامية والتي تولي أمورها الروحية وأمور الآخرة أهمية كبيرة ولا يمكن علاجها بعيداً عنها وعن تأثيراتها في تصوراتها ومشاعرها وسلوكياتها. المشكلة الثالثة: وهي الوصمة المحيطة بالمرض النفسي والعلاج النفسي، تلك الوصمة التي تجعل الناس تفضل المعالج الشعبي أو الديني على الطبيب النفسي.
إذن فنحن أمام أعداد كبية من المكبوتين والمحبطين والمهزومين والمقهورين والمرضى النفسيين تتجسد مشكلاتهم النفسية والاجتماعية في صورة أعراض تعويضية تعوضهم الكبت أو الحرمان أو الفشل وتأخذ شكل قصص درامية عن الجن والعفاريت، فالطالب الذي فشل في إكمال دراسته الطبية يمرض نفسيا ويتبنى ضلالات تعويضية تجعله طبيبا مشهورا تلقى العلم على يد العفاريت الزرق، والمرأة التي غاب عنها زوجها طيلة حياتها وهجرها أبناؤها تعوض وحدتها وحرمانها وكبتها بجن يؤنسون وحدتها ويلبون احتياجاتها الغريزية دون حرج شرعي، والشاب الذي عجز عن الزواج لفترة طويلة جسد اشتياقه في جنيّة ترافقه وتعود على العلاقة بها لكي يفشل عند زواجه بإنسية، أو هو اختلق تلك الحكاية ليبرر بها عجزه عن أداء مهمته.
ولما كانت ثمة علاقة تاريخية بين الظلام وحركة الجن والشياطين فإن حياة الشعوب حين تفتقد إلى المصداقية والشفافية تفتقد إلى النور وتصبح حياتها مسكونة بالمخاوف والتخيلات المرعبة والتي تتجسد في النهاية في صورة جني أو شيطان يتربص بنا، والظلام هنا يعني الظلمة المعروفة في الليل والأماكن المغلقة المعتمة، ويعني أيضا ظلمة العقل بانعدام أو نقص المعرفة الحقيقية، ولهذا نجد أن ثمة تناسب طردي بين الظلام بمعنييه السابقين وبين كثرة الحديث عن الجن والعفاريت، وبما أن الظلمة بعناها الأول قد تقلصت كثيرا بعد انتشار الكهرباء في كل مكان، إذن يبقى لدينا ظلمة العقل لنقص العلم فيه أو انعدام الشفافية في الحياة الخاصة والعامة.
والخوف المبالغ فيه من الجن لدى المصريين ربما يعكس حالة من الخوف العام المخبوء في الطبقات الأعمق من الوعي وهو خوف متعدد الأسباب ربما يكون خوفا من الظلم أو من القهر أو من الحاكم المستبد أو من الموت أو من الفشل أو من الضياع، وفي النهاية يتجسد هذا الخوف ويتوجه ناحية رمز متجذر في الثقافة الشعبية أو الدينية في صورة "الغولة" أو "الجن".
وفي تصور الجن والشياطين (وهم مردة الجن) فرصة لدى الناس لإزاحة كل شرورهم على كائن خارجي مستتر، أو إسقاط تلك الشرور عليه واتهامه بكل الصفات السيئة التي تثقل نفوس البشر، وبهذا تستريح تلك النفوس بعد أن ألقت بكل أدرانها على هذا الكيان "الآخر الشيطاني"، فالشيطان هنا يستخدم كمستودع لكل خبائث وفواحش البشر وشرورهم يسقطونها أو يزيحونها من أنفسهم إليه، وهذا يفسر اهتمام الناس بالجن والشياطين حين تفسد أحوالهم وذممهم وضمائرهم.
وحين يشعر المصريون بكثرة الفساد وتغلغله وتوحشه، وانتصار قوى الشر على المستوى الدولي والمحلي، فإنهم يستدعون من اللاوعي الجمعي رموز الشر الممثلة في الشياطين ويتخيلونها تملأ عليهم حياتهم وتهدد وجودهم فينشغلون بها انشغالا وسواسيا، ويجدون في الثقافة الشعبية والروايات الدينية الضعيفة أو المحرفة رصيدا هائلا يمدهم بتصورات عن هذه المخلوقات الشريرة الخبيثة التي تختبئ في جوانب حياتهم وتهدد أمنهم واستقرارهم.
وربما يفسر لنا هذا ندرة الكلام عن الجن والشياطين في المجتمعات المتطورة والمستقرة والتي تمتعت بالشفافية والعدل والأمن، مقارنة بالمجتمعات التي مازالت تعيش في ظلمات الجهل والقهر والفساد والاستبداد.
وفكرة الجن وتأثيرهم علينا تقدم لنا تبريرات لمشاكلنا ومصائبنا ومعاناتنا وفشلنا وتبعدنا عن التفكير الجاد في كل ذلك وتعفينا من مواجهة حقيقتنا التي لا تسر وحياتنا المليئة بالمتناقضات، وتأتي العلاجات السحرية بالقراءة أو بالأحجبة أو غيرها لتكمل وتؤكد هذه الصورة البائسة، ولهذا تعودت العقول على الاستسهال والتعلق بالحلول السحرية الكاذبة والخادعة وتعودت اللجوء إلى العالمين ببواطن الأمور لإلقاء الأحمال والمشاكل والهموم بين أيديهم وانتظار الفرج يأتي من عندهم، وهكذا تفتك ثقافة الجن وثقافة الاستسهال وثقافة الاعتماد السلبي بكل ما تبقى لدينا من مقومات الحياة الشريفة الصادقة.
ويتبع >>>>>: المصريون والجن(4)
اقرأ أيضا:
بين الإبداع والابتداع / قانون منع التمييز العنصري / طريق يشوع: من غزة إلى بيروت / لماذا غابت البهجة عن حياتنا ؟