"في هذا الوقت الذي يضطرب فيه الفكر في مصر ويضطرم بحثا عن شخصيتها ودورها الإنساني والحضاري.... فإننا في حاجة إلى فهم كامل لوجهنا ووجهتنا, لكياننا ومكانتنا, لإمكانياتنا وملكاتنا... وأيضا لنقائصنا ونقائضنا, بلا تحرج ولا تحيز أو هروب" (جمال حمدان).
منهجية الدراسة:
للإحاطة بسمات الشخصية المصرية والوصول إلى مفاتيحها كان ثمة احتياج إلى منهجية شاملة ومحكمة للوصول إلى رؤية علمية بعيدة -قدر الإمكان- عن التحيزات العاطفية (الإيجابية أو السلبية) خاصة في موضوع يمس الذات الشخصية والوطنية, ويخضع للكثير من وجهات النظر المتباينة والممثلة لزوايا الرؤية أو اتجاهات المصالح أو نبضات المشاعر. وقد كانت الرؤى المطروحة نتاجا للعناصر التالية في البحث والدراسة:
1- الدراسات العلمية السابقة والحالية التي تعرضت للشخصية المصرية وما حدث فيها من تحولات.
2- ملاحظات وآراء المفكرين والعلماء.
3- الملاحظة المشاركة للباحث لكونه مواطنا مصريا يعيش الحياة اليومية المصرية ويرصد بعين المتخصص في العلوم النفسية السمات النفسية للمصريين. وقد ساعد على تحقيق هذا الهدف بشكل أدق كون الباحث قد عايش مجتمعات وشخصيات مختلفة إبان إقامته خارج مصر لمدة تصل إلى تسع سنوات يضاف إليها فترات إضافية أخرى متقطعة, وقد أعطاه هذا فرصة للمقارنة والرؤية من خارج, إضافة إلى رؤيته من الداخل, وهاتان الزاويتان للرؤية جعلا الفوارق تتضح وتغلب على ضياع المعالم الناتج عن الألفة والتعود لمن يعيش طول الوقت في المجتمع ولم يغادره إلى غيره.
والباحث بوصفه ملاحظا مشاركا لديه فرصة القراءة عن قرب من خلال عمله كطبيب نفسي (يرى الوجه الخفي للناس من خلف الدفاعات المعلنة والأقنعة الساترة والخادعة) وعضو هيئة تدريس في الجامعة (مما يعطيه فرصة للرؤية العامة والدراسة المنهجية الموضوعية بأقل قدر ممكن من التحيز).
4- الرؤية الحالية للشخصية المصرية تشكل أولوية بمعنى أننا في هذه الدراسة نهتم أكثر بما هو كائن وليس بما كان, ولو تكلمنا عن شيء في الماضي فإنما يكون بهدف شرح أو تفسير سمة قائمة وبيان جذورها وتطورها دون الغرق في سراديب الماضي.
5- الأمثال الشعبية والأقوال الدارجة على ألسنة رجل الشارع تمثل رصيدا معرفيا هاما نستطيع أن نتوصل من خلاله إلى فلسفة حياة البسطاء من الناس وعامتهم, لذلك تم رصدها وتحليلها في مواضعها لتأكيد الصورة وإيضاحها .
السمات التقليدية للشخصية المصرية:
تميزت الشخصية المصرية على مر عصور طويلة بسمات كانت أقرب إلى الثبات ولذلك يعتبرها العلماء سمات أصيلة وذلك لتمييزها عن سمات فرعية أو ثانوية قابلة للتحريك مع الظروف الطارئة. فالمصري تميز بكونه: ذكيا, متدينا, طيبا, فنانا, ساخرا, عاشقا للاستقرار (عزه عزت, 2000, التحولات في الشخصية المصرية, كتاب الهلال). وكان هذا يشكل الخريطة الأساسية للشخصية المصرية في وعى المصريين ووعى غيرهم, وقد أدى إلى الثبات النسبي لهذه السمات ارتباطها بعوامل جغرافية ومناخية مستقرة نسبيا.
وقد حدثت تحولات نوعية في بعض السمات وتحولات نسبية في سمات أخرى, فمثلا استخدم البعض ذكاءه في الفهلوة, وتعددت صور التدين بعضها أصيل وبعضها غير ذلك, وقلت درجة الطيبة وحل محلها بعض الميول العنيفة أو العدوانية الظاهرة أو الخفية, وتأثر الجانب الفني في الشخصية تحت ضغط التلوث والعشوائيات, وزادت حدة السخرية وأصبحت لاذعة قاسية أكثر من ذي قبل وأحيانا متحدية فجة جارحة, أما عشق المصري للاستقرار فقد اهتز كثيرا بعدما أصبحت البيئة المصرية طاردة نحو الخارج بحيث أصبح حلم كثير من الشباب السفر إلى أي مكان لتحقيق أهدافه بعد أن أصبح متعذرا تحقيق الآمال والأحلام على أرض الوطن. ونستطيع أن نرصد عددا من العوامل الرئيسة التي أدت إلى تلك التغيرات في السمات الأصلية للشخصية المصرية ومنها:
1- ثورة يوليو وما صاحبها من تغييرات جذرية (بعضها إيجابي وهو ما يتصل بالتحرر الوطني وطرد المستعمر, وأكثرها سلبي وهو ما يتصل بالحكم الاستبدادي البوليسي) أدت إلى تغيرات في البناء السياسي والاجتماعي والاقتصادي, وهزت البنية القيمية حيث أشاعت قيما استبدادية قهرية, وأرست قواعد الاعتمادية على النظام, والسلبية, والفهلوة, وادعاءات البطولة الزائفة, والسير وراء الزعيم بأعين مغمضة وأصوات هاتفة وقلوب مليئة بالحماس الجارف بلا دليل. باختصار أحدثت الثورة ورجالها تناقضات هائلة في البنية النفسية للشخصية المصرية تحتاج لبحث منفصل لبيان مداها.
2- نكسة يونيو 1967, وقد كانت قمة التعبير عن خداع الذات والتسليم لزعامات كاريزمية بعيدة عن التخطيط السليم والموضوعية. حدث بعدها صدمة وتغيرات جذرية أخرى في الشخصية المصرية حيث راحت تبحث عن هوية دينية بعد فشل الهوية القومية الاشتراكية التي نادى بها زعماء الثورة ومنظروها, ومن هنا بدأت التيارات الدينية المعتدلة والمتطرفة في مصر وامتدت إلى العالم العربي والإسلامي تحت وطأة المواجهة البوليسية القاسية لتلك التيارات.
3- معاهدة السلام مع إسرائيل وما تبعها من تغيرات سريعة ومفاجئة لكثير من المفاهيم حول إسرائيل كعدو أساسي والارتماء بعد ذلك في الحضن الأمريكي وما تبعة من تغيرات ثقافية واجتماعية بناءا على التفاعل مع ثقافات غريبة تستقبلها الشخصية المصرية بمشاعر متناقضة وبشكل أسرع من طريقتها وطبيعتها في استيعاب وهضم وتمصير الثقافات الأخرى.
4- الانفتاح الاقتصادي المنفلت, وما تبعه من تنامي القيم الاستهلاكية, والرغبة في الثراء السريع دون جهد حقيقي, وشيوع قيم الخفة والفهلوة وانتهاز الفرص.
5- السفر إلى بلاد الخليج وغيرها من الدول العربية, وما تبع ذلك من تغير الأنماط الاستهلاكية والثقافية والدينية تبعا للنموذج الخليجي, مما أدى إلى تعتعة استقرار النماذج القائمة والمستقرة منذ قرون لصالح النموذج السلفي من ناحية أو النموذج المستغرب من ناحية أخرى.
6- العولمة وما أدت إليه من فتح السماوات للقنوات الفضائية والإنترنت, وفتح الأسواق لكل ما هو جديد, وفتح شهية المتلقي للمزيد من الجديد والغريب والمثير.
7- قانون الطوارئ الذي امتد العمل به لمدة 25 سنة (وما زال حتى كتابة هذه السطور عام 2005 م, 1425 هـ - ولا يدرى أحد متى يتوقف العمل به), بحيث أدى إلى شيوع حالة من القهر والخوف, وانعدام الثقة بين السلطة والشعب, وأطلق يد السلطة الأمنية في كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس (تعيينات الوظائف على كل المستويات, والترقيات, واختيار الوظائف القيادية, والانتخابات, والبعثات, وكل شيء), وأطفأ النبض الحقيقي على المستويات السياسية والفكرية والدينية والاجتماعية, وأتاح الفرصة لتغلغل الفساد المحتمى بالسلطة ووصول عناصر تفتقر إلى الكفاءة والضمير إلى مراكز عليا تحت سقف الطاعة والولاء, في نفس الوقت الذي ابتعدت فيه (أو استبعدت) العناصر الموهوبة والمتميزة عن مراكز التأثير والتوجيه, أما بقية الناس فقد تحولوا إلى أغلبية صامتة تسعى إلى أن تحصل على لقمة عيشها وعيش أبنائها, ولكي تتقى سطوة السلطة المطلقة تحت مظلة قانون الطوارئ لجأت إلى تعلم مهارات الفهلوة والتحايل والكذب والالتواء والتخفي والتنازل عن أشياء كان يعتز بها المصريون مثل الكرامة والضمير والصدق والشهامة, واستبدل كل هذا بحالة من الخنوع والخداع والنفاق والتحايل ومد اليد تسولا أو رشوة أو سرقة.
ورغم التحولات الحادثة في السمات الست للشخصية المصرية إلا أن الشخصية المصرية تعتبر نسبيا أكثر ثباتا خاصة في مواجهة تغيرات العولمة4, حيث نجد أن مجتمعات عربية أخرى قد ذابت تماما أو تكاد في النظام العالمي الجديد بكل سلبياته وإيجابياته, وربما يعود ذلك الثبات النسبي للشخصية المصرية إلى تراكم سماتها في طبقات حضارية عبر عصور طويلة وتأكد هذه السمات مع الزمن رغم التغيرات الطارئة, كما أن المصري لديه ميل قوى للإبقاء على الأوضاع القائمة يعود لتأثره بالطبيعة الجغرافية والمناخية التي يعيشها كما سنذكر ذلك لاحقا.
الطبيعة والشخصية المصرية:
للطبيعة أثر كبير على الشخصية لدرجة أن علماء النفس والاجتماع استطاعوا أن يضعوا صفات مميزة لسكان المناطق الريفية تميزهم عن سكان سواحل البحار, وتميز هؤلاء وهؤلاء عن سكان الجبال والصحارى.
يقول جوستاف لوبون في كتابه "الحضارة المصرية القديمة" : "إذا كان المصري قد شعر بالسأم من سهوله الوضاءة المشرقة, فإنه قد جهل الآلام المفزعة والتي تنشأ على شواطئ البحار الموحشة, وفى خلال الشفق الأحمر تحت السماء المتقلبة الغادرة".
فإذا نظرنا إلى الطبيعة المصرية وجدنا النيل يتمايل في هدوء بين جنبات الوادي السهل المنبسط, ووجدنا سجادة من الخضرة الجميلة والمريحة منبسطة على ضفتيه تدعو للراحة والاسترخاء, وخرير المياه في القنوات والترع, وأنين السواقي وهى تروى عطش الأرض, ووفرة الغذاء الناتج عن الأرض الخصبة المعطاءة, والسماء الصافية معظم فصول السنة, والشمس المشرقة على مدار العام, والمناخ المعتدل صيفا وشتاءا والذي يخلو من التقلبات الحادة والعنيفة والمهددة.
هذه هي الطبيعة التقليدية التي عاش فيها المصري على ضفتي النيل وتركت بصماتها على شخصيته في صورة ميل إلى الوداعة والطمأنينة والهدوء وطول البال والدعابة والمرح والتفاؤل والوسطية وحب الحياة. هذه السمات لإدراكها بوضوح إلا إذا قارناها بسمات من يعيشون في بيئات مهددة مليئة بالعواصف والنوّات على سواحل البحار والمحيطات الهائجة, أو من يعيشون في بيئة صحراوية أو جبلية شديدة القسوة والفقر والجفاف, أو من يعيشون في غابات مليئة بالحيوانات المفترسة يتوقعون الخطر في كل لحظة, أو من يعيشون في القطبين تحت العواصف الثلجية ويلبسون ثيابا ثقيلة تحد من حركتهم وتلقائيتهم وتخنقهم تحت ثقلها.
وإذا كانت الطبيعة السمحة البسيطة المعطاءة قد أعطت صفات إيجابية فإن لها أيضا جانبا سلبيا, حيث منحت المصري شعورا زائدا بالطمأنينة والسكينة وصل به في بعض الأحيان إلى حالة من الكسل والتواكل والسلبية والتسليم للأمر الواقع والميل إلى الاستقرار الذي يصل أحيانا إلى حالة من الجمود. فالشخصية المصرية مثل الطبيعة المصرية لا تتغير بسهولة ولا تتغير بسرعة, بل تميل إلى الاستقرار والوداعة والمهادنة وتثبيت الوضع القائم كلما أمكن والتصادق معه وقبوله.
وهذه الصفات قد خدمت إلى حد كبير كل من حكموا مصر على مدار التاريخ حيث كان ميل المصري للوداعة والطمأنينة والاستقرار يفوق ميله للثورة والتغيير, وربما يكمن هذا العامل وراء الحالة المزمنة من الحكم الاستبدادي على مدار التاريخ المصري, فقد كان الحاكم يبدأ بسيطا متواضعا ثم بطول المدة واستقرار الأوضاع تتمدد ذاته على أرض الوادي الخصيب وسط أناس طيبين مسالمين وادعين, وشيئا فشيئا تتوحش هذه الذات الحاكمة وتحكم قبضتها على رقاب الشعب, والحاكم يعرف دائما أن الشعب المصري لا يميل إلى الثورة خاصة في أشكالها العنيفة. فخلو الطبيعة المصرية -نسبيا- من الزلازل والبراكين والنوّات والأعاصير الجارفة يقابله ميل شعبي لاستمرار الاستقرار واستقرار الاستمرار, وهذا شعار يرفعه كل حاكم استبد بحكم مصر واستغل هذه الرغبة الدفينة لدى المصريين في الاستقرار والوداعة وراحة البال. وذكر ابن خلدون في مقدمته: " أن أهل مصر يميلون إلى الفرح والمرح, والخفة, والغفلة عن العواقب ".
وربما يفسر هذا كون المصريين كانوا يحكمون بواسطة حكام أجانب معظم مراحل تاريخهم, وكانوا يقبلون ذلك سماحة أو طيبة أو غفلة أو تهاونا أو رغبة في الراحة والاستقرار. وحين كانت تشتد بهم الخطوب نتيجة تعسف الحاكم الأجنبي المستبد والمستغل كانوا يستعينون بالنكات اللاذعة والسخرية لتخفيف إحساسهم بالمرارة مما يعانون, وكان سلاح السخرية يؤجل الثورة وربما يجهضها لأنه يعمل على تنفيث الغضب الكامن
والمصري يتحرك ويثور في حالات قليلة ومحددة وهى:
1- حين تنتهك قدسية عقيدته الدينية المتراكمة عبر عصور طويلة.
2- حين تجرح كرامته الوطنية بشكل مهين.
3- حين تهدد لقمة عيشه بشكل خطر.
والطغاة والمستبدون كانوا يعرفون حدود هذه الأشياء فيحفظون له الحد الأدنى منها حتى يضمنوا استمرار ولائه, أو يحاولون خداعه حتى لا يصل إلى حالة الشعور بالمهانة أو العوز المحرض على الثورة.
ولا شك أنه قد حدثت تغيرات شملت الطبيعة المصرية وامتد تأثيرها إلى الشخصية المصرية, فقد أدى الزحام الشديد في المدن والقرى إلى الإحساس بالضيق والاختناق والحرارة الزائدة خاصة في الصيف, إضافة إلى ارتفاع معدلات التلوث السمعي والبصري, كل ذلك أدى إلى تنامي حالة من العصبية وسرعة الاستثارة والعدوان لدى المصريين بشكل لم يكن معهودا من قبل. وعرف المصريون الزلازل في السنوات الأخيرة فاهتز الإحساس بالاستقرار بعض الشيء. ولم تعد خيرات الأرض تكفى المصري أو تطمئنه لذلك لم يعد مطمئنا كما كان واضطر للسفر إلى شرق الأرض وغربها باحثا عن لقمة العيش له ولأسرته, ثم عاد بعد سنوات وهو يحمل أفكارا وتوجهات تنتمى إلى بيئات وثقافات أخرى, وضعف لديه الانتماء بدرجات متفاوتة عن ذي قبل لأن البيئة المصرية لم تعد معطاءة كما كانت ولم تعد مستقرة كعهده بها ولم تعد وديعة مطمئنة كما عرفها. وقد أدى هذا إلى بعض التغيرات نذكر منها:
1- توجهات دينية استقطابية لا تعترف بالآخر المختلف وتميل إلى تكفيره أو استبعاده.
2- جماعات تميل إلى التعامل بعنف مع السلطة والمجتمع, ولكن هذه الجماعات لا تشكل حتى الآن تيارا عاما, حيث بقى عموم الناس متأثرين بالطبيعة القديمة للشخصية المصرية نوعا ما, وإن كان هذا قابل للتغير في السنوات القليلة القادمة في حالة استمرار الضغوط السياسية والاجتماعية والاقتصادية القائمة.
3- رغبة في الهجرة إلى أي مكان في الأرض بعيدا عن الأحوال المعيشية الصعبة التي تخلو من الأمل والحلم خاصة للشباب.
4- حالة عامة من الإحباط والقلق والضيق, ولكنها لا تتشكل -حتى الآن- في صورة فعل يهدف إلى التغيير.
5- شراهة استهلاكية لدى الجميع -رغم الفقر- وخاصة الفئات التي أثرت ثراءا طفيليا سريعا.
إذن فقد تغيرت الطبيعة في بعض جوانبها وتغيرت تبعا لذلك الشخصية المصرية في بعض سماتها.
ويتبع >>>>> : الشخصية المصرية: تعددية أم تناقض
اقرأ أيضاً:
تأملات في فتاوى الهواء / المصريون والجن(3) / بثينه ومنى... حدوتة مصرية