كتب طه حسين في جريدة الجمهورية في 6 يونيو عام 1955 مقالا يعد من أواخر ما كتب وكان بعنوان "حق الخطأ". جاء فيه: "ويل لأمة يعاقب فيها الناس علي الخطأ، فتلك أمة لا تعرف الحرية، ولا تقدرها، ولا تقيم أمرها علي القصد والاعتدال، وإنما تقيمه علي الفتنة، والغرور، وأي فتنة أشد من معاقبة الناس علي أنهم رأوا رأيا لا يعجب الرؤساء".
وترجع ملابسات كلمات طه حسين إلي أنه خلال شهر رمضان كتب د. عبد الحميد بخيت وهو من علماء الأزهر مقالا بجريدة الجمهورية أباح فيه للمسلمين الإفطار إذا كان الصيام يعطلهم عن العمل. وهاجت الدنيا عليه، وهاجمته جريدة الجمهورية نفسها، ووصل الأمر إلي حد الاعتداء على الشيخ داخل الجريدة ضربا بالحذاء. وقد ثار رجال الأزهر علي الشيخ بخيت وطالبوا بمحاكمته، واعتذر شيخ الأزهر آنذاك عن رئاسة لجنة التأديب التي قضت بفصله من الأزهر، وظل مفصولا إلي أن أعاده مجلس الدولة، ثم أمضي بقية حياته منزويا حتى توفي عام 1978، وما أحوجنا لاستخلاص الدروس مما جري في ظل ما نشهده من اختلاط الحدود بين الخطأ والخطيئة.
الخطأ الفكري خطأ في قراءة الواقع أو تفسيره، ولما كان التفسير في النهاية وجهة نظر فإنه يحتمل الخطأ والصواب، ولعلنا لا نبالغ إذا اعتبرنا أن هذا النوع من الخطأ يعد بالفعل سنة من سنن الكون وأن الخلاف في الرأي حيث يتبادل الطرفان أو الأطراف تخطئة وجهات نظر بعضهم البعض من خلال الحوار، يعد دليلا علي حيوية المجتمع وبشيرا بتقدمه خاصة في مجالات السياسة والدين والعلم، حيث يحترم كل الآخر وينصت إلي رأيه ويجادله، فإذا ما تبين لأحد الأطراف خطأ استدلاله لم يجد حرجا في الاعتذار، وإذا أصر كل علي رأيه لم يفقد أيهما احترامه للآخر.
ويبدأ تحول خطأ الفكر إلي خطيئة الفعل عبر منطقة رمادية يبلغ عندها الاقتناع بالفكرة درجة اليقين المطلق ومن ثم النظر إلي من يختلف معها باعتباره مختلا أو مغرضا وأنه لا سبيل ولا جدوى من محاورته، ومن ثم يتحول يقين المرء بصواب فكرته ووضوحها إلي اعتبار الاختلاف معها تحديا له وإهانة لشخصه واستفزازا لمشاعره واحتقارا لأفكاره. وعندها يتحول من الفكر إلي الفعل.
وإذا كان العلاج الناجع الوحيد لأخطاء الفكر هو الحوار وتفنيد الأفكار، فكيف تكون المواجهة مع خطيئة الفعل؟ إننا كثيرا ما نقع في منزلق مؤداه أنه ما دام الآخر يري نفسه محتكرا للحقيقة مبادرا للعنف والعدوان فليس أمامنا سوي التوقف فورا عن الحوار والرد علي العنف بعنف أشد لتبدأ دائرة مفتوحة من العنف المتبادل في دوامة لا تنتهي حتى لو انتصر أحد الأطراف بحكم موازين القوي، فالنصر في هذه الحالة لا يعدو أن يكون نصرا مؤقتا، حيث أن ذلك العنف المضاد يقف علي نفس الأرضية الفكرية إذ يتطلب بدوره يقينا مطلقا بتجريم الآخر وبعدم جدوى الحوار معه.
إن عقاب أصحاب خطيئة الفعل أمر طبيعي وصحي، ولكن دون أن يتوقف الحوار الفكري قط، وبكل شروطه بما فيها شرط الاحترام، وبحيث يقتصر العقاب علي من أجرم وأن يشمل الحوار الجميع بمن فيهم أولئك الذين أجرموا.
خطأ الفكر يقف عند حدود الاجتهاد في التفسير، أما إذا ما تحول إلي خطيئة الفعل، فإن التفسير يصبح تبريرا، والفارق بينهما غني عن البيان. التفسير يهدف إلي الفهم وتقصي الأسباب، وعلاج الجذور، أما التبرير فيهدف إلي التماس الأعذار لمرتكب الجريمة ليفلت من العقاب.
لقد انزلق الكثير من المفكرين إلي تبرير التعذيب وترويع الآمنين وارتكاب جرائم الإرهاب والاغتصاب وغيرها بدعوي أن من يقدمون علي ذلك إنما يضطرون إليه بحكم ظروف لا يستطيعون لها دفعا. إن النظر مثلا إلي التعرض للإغراء باعتباره ضمن مسببات ارتكاب جريمة الاغتصاب، أو النظر إلي تعسف السلطة باعتباره ضمن دوافع الإقدام علي بعض جرائم الإرهاب، أو النظر إلي الإرهاب باعتباره ضمن العوامل التي تشجع علي ارتكاب جرائم التعذيب؛ كل ذلك قد يكون مقبولا إذا ما وقف الأمر عند حدود التفسيرات القابلة للنقاش، ولكن شيئا من ذلك لا يجوز الاستناد إليه لتبرير ارتكاب الجرائم. فلا يجوز تبرئة المغتصب بدعوي تعرضه لغواية الإغراء، كما أنه ليس مقبولا تبرير التعذيب أو الإرهاب بدعوي حماية الأمن القومي أو إعلاء راية الدين.
خلاصة القول: من حقنا جميعا أن نحاول وأن نخطئ؛ ومن واجبنا أن نتمسك بذلك الحق دون خوف أو وجل، وأن نميز بين العقاب العقلاني والانتقام الانفعالي متمسكين بإصرار بمبدأ عقلانية العقاب حيث تنصرف الإدانة إلي تجريم الفعل دون أن تنسحب إلي استئصال الفاعل، وأيضا دون أن تنكمش بحيث يصبح كل شيء مبررا.
نقلاً عن: الأهرام 22 فبراير 2007
واقرأ أيضاً:
صناعة الحرب وثقافة السلام[1]