الحياة العامة في مصر، والسياسية خاصة، أقل ما يقال فيها أنها مثيرة للملل، وأحياناً للغثيان!!
والمشهد الاجتماعي مثير للشفقة، والفوضى هي الحاكمة بشهادة أحد أهم أعمدة النظام الذي قال تحت قبة البرلمان مؤخراً أن البلد "سداح مداح"!!
الكثير من الضجيج والصراخ، والعويل والنواح، والحالة "تضرب تقلب" كما نقول، ووسط هذا كله تبدو الدولة قد تخلت عن كل أدوارها سوى الإمساك بالعصا للتهويش، مثل بلطجي طاعن في السن، ولكنه ما زال مصراً على الاحتفاظ بسطوته، والظروف داخلياً وإقليمياً ودولياً تساعد حين تتفاعل الفوضى في الداخل مع إجراءات الفوضى الخلاقة في الخارج!!
الخطط المستهدف تحقيقها فينا انتقلت من الأوراق والاجتماعات والتقارير والملفات محدودة التداول إلى التنفيذ في الهواء الطلق، "وعلى عينك يا تاجر"، بحيث أصبحنا نرى بأم عيوننا كيف يتم تفريغ كل بارقة أمل من مضمونها، والنكوص عن خطوة تخطوها الشعوب، بحيث تتحول فرص الإنجاز إلى بؤر صراع وصداع!!
عندي مثالان على ما أقول، الأول: انتخابات مجلس الشعب في العام 2005 "تذكرونها؟!"، وقتها شهدت مصر ملحمة شاهدها العالم، وإن تغافلت عنها النخب المصرية!!
نزل هذا الشعب المنكوب في حكومته، وفي نخبته، المخذول ممن يتحدثون باسمه كما من من يتاجرون بدمائه ومعاناته، بل وكل وجوده، نزل هذا الشعب الذي يحتقره مماليكه كما أفندية المعارضة فيه، نزل ليمارس ألف باء السياسة والديمقراطية، وليقول كلمته لمن يريد أن يعرفها، وعبر آلاف القصص البطولية ـوأنا أعني الكلمةـ تحايل المصريون على كل العقبات، وعبروا الموانع المادية والمعنوية، وتحدى الجمهور البطش والمماطلة ورذالة الأمن وهراواته، وتسلل من كل شق وثقب، وجاء من كل فج عميق ليقول: لا... واضحة صريحة قاطعة ونهائية.
ماذا كانت النتيجة؟!
سخطت عليه الحكومة، وشعرت بالحسرة والخزي كل أجهزة السلطة، ووصلت الصفعة إلى كل وجه صفيق من محاسيب النظام، وكهنة الوضع القائم وعبيده، وجيوش خدمه. ما يسمى بأحزاب المعارضة تأكدت من وزنها الحقيقي في الشارع، والإخوان اعتبروه انتصاراً لهم، رغم أنه كان واضحاً مثل الشمس أنه انتصار للناس، وإرادة الناس، ورغبة الناس، وحركة الناس!!
لم يتوقف أحد ليقول للمواطنين: شكراً، ولم يحترم أحد هذا المشهد، ويحرص على تسجيل وتوثيق وإذاعة كل تفاصيله وحكاياته بوصفه فعلاً مدنياً متحضراً من شعب معروف عنه ذلك السلوك تاريخياً، ولكن الأيام جارت عليه!!
وطالما أطراف الحدث لم يهتموا ولم يعتبروه إنجازاً يستحق الدراسة أو الوقفة للتقدير، وللبناء عليه، فكان من الطبيعي أن نكون جاهزين للسخف والتهريج والتبديد والمسخرة، وضع ما شئت من الكلمات لوصف ما يجري الآن!!
ينحسر الستار كل ليلة عن دراما البطش والإفساد المجرم، وكأن شيئاً لم يكن، وكأن الشعب لم ينزل، ولم ينتخب، ولم يتحرك، ولم يستنكر، وعندنا السياسة على طريقة "حكومة/إخوان"، وهي الطريقة المفضلة لهم فيما يبدو، ورغم ملل المشاهدين حتى الاختناق، صارت هي المسلسل المستمرة حلقاته، كلما حاولنا نسيانه أو تناسيه عاد إلى الشاشة بقوة، ولو بعد استبدال آثار الحكيم بإلهام شاهين كما في "ليالي الحلمية"، واستبدال بعض الوجوه لا يعني تغيير المسلسل؟!
المثال الثاني الذي أقصده هو حرب يوليو في "لبنان"، هذه الحرب التي كانت هامة بكل المقاييس، وبرزنا فيها كطرف عربي وإسلامي بأداء يستحق الدراسة، وهزمنا إسرائيل بثمن باهظ من طرفنا، ولكنها كانت هزيمة للغطرسة والاستكبار الصهيوني والأمريكي دون شك. لكن الطابور الخامس من العملاء والأغبياء وأعداء الأمة من المنتسبين إليها كانوا جاهزين كالمعتاد للتبديد والتشكيك، والكذب والتشويه، والتلاعب بعقول الجمهور.
واكتملت المعادلة ببلاهة الكتل الجماهيرية التي تغلب عليها العاطفة، ثم تتوه وتتخبط حين يبدأ صراع العقول، أو تندلع معارك الوعي!!
والنتيجة أن أعلام النصر قد طويت، ودخلنا في ألعاب وتقسيمات أخرى، فمن مخازي القتل الطائفي في العراق، إلى الصراع السياسي الداخلي في فلسطين، إلى المظاهرات والمظاهرات المضادة في لبنان، هذا علاوة على الجدول المعتاد للمباريات السياسية، والمسلسلات المشابهة المملة في تونس والجزائر وليبيا وسوريا وغيرها.
معنى ما تقدم أن المعركة ليست سهلة أبداً، وليست مسألة يوم وليلة، وأن النجاح في موقعة يحتاج إلى المواصلة لأنه ليس نهاية الحرب. وأيضاً فإننا نحتاج إلى قيادات جديدة، وطبقة إدارة اجتماعية، وتحريك ثقافي وسياسي جديد، كما نحتاج إلى حركات جديدة وأفكار جديدة تبدو ملامحها واضحة في ضوء ما جرى وما يجري.
نحتاج إلى مبادرات تنبع من اليومي والشعبي والأهلي والاجتماعي. نحتاج إلى أصوات من بين الناس لتخاطب الناس، وتتحاور وتوقظ الوعي، وتستثمر الطاقات التي ظهر أنها ليست هينة!!
إن واقعنا في مصر ليس خالياً من الإيجابيات بل هي كثيرة، لكن من الخيبة أنها مهدرة وسط الفوضى حيث تتحول الفرص والإنجازات إلى مجرد ومضات سرية يعود بعدها الظلام.
اقرأ أيضا:
أحمد زكي.. كادر مختلف/ نحو حركة اجتماعية جديدة/ في الحياة الزوجية..هكذا يخطئ الرجال/ عمرو خالد: على خطى الحبيب/ دافوس ببساطة/ قضية ساخنة للحوار على مجانين