ما هو الحب؟
كلمة حب هي كلمة من حرفين سحريين هما الحاء والباء، وعلى الرغم من قلة مبناها إلا أن معانيها وما بني عليها من مشاعر وقصص وأحداث في التاريخ الإنساني يفوق ملايين الكلمات الأخرى في كل اللغات والثقافات، وبناءا على ذلك نجد الكثيرين من الضحايا سقطوا على طرقات الحياة وفى دهاليزها وفوق مرتفعاتها وهم يبحثون عن الحب بلا خريطة تهديهم أو بوصلة توجههم. ولكلمة الحب معان متباينة لدى الشعوب والأفراد، وفيما يلي نحاول ضبط معناه لغويا واصطلاحيا ثم معرفة مستوياته وأقسامه بغية الحصول على خريطته وبوصلته حتى لا نتوه بعيدا عنه فنلحق بملايين الضحايا الذين سبقونا.
فالحب هو ميل الطبع للشيء اللذيذ، وهو الوداد، وهو ميل إلى الأشخاص أو الأشياء العزيزة أو الجذّابة أو النافعة، وله أسماء وحالات ومستويات كثيرة تدور كلها حول المعاني التالية:
1 – الميل الوجداني للمحبوب
2 – الإحساس بالارتباط الشديد به
3 – الشوق والحنين إليه
4 – الرغبة في الاقتراب الأبدي منه
5 – الشعور بالعذاب والضياع في حالة البعد عنه
الحب والصراع:
أهم قانونين يحكمان الحياة وحركة البشر فيها هما قانون الحب وقانون الصراع، والحب ولد مبكرا بين آدم وحواء مع خلق الإنسان، ثم جاء الصراع لاحقا بين قابيل وهابيل، أي أن الحب أطول عمرا من الصراع، وهو بالإضافة لذلك أقوى تأثيرا في حياة الناس بدليل استمرار الحياة ونموها وتطورها على الرغم من الصراعات العديدة، فطالما أن الحياة تسير وتنمو وتتطور فهذا دليل على غلبة قانون الحب على قانون الصراع لأن قانون الحب يعنى البناء والنمو والجمال في حين أن قانون الصراع يتجه غالبا نحو التدمير والموت والفناء.
وكل شخص يتكون لديه قانونه الخاص الذي يحكم سلوكه، فإما قانون الحب (إذا كانت البيئة الأسرية راعية ومطمئنة) أو قانون الصراع (إذا كانت البيئة الأسرية ناقدة ومهددة وقاسية)، وقد تتكون درجات بينية بين هذا وذاك طبثقا لتباينات الطبيعة الوالدية، وهذا القانون يتشكل –طبقا لرؤية العالم النفسي إريك إريكسون– في السنة الأولى من العمر ولهذا أطلق إريكسون على هذه المرحلة العمرية المبكرة وصف "الثقة مقابل عدم الثقة".
الحب والجنس:
كان الإغريق القدماء لا يعترفون إلا بالحب الجنسي، لكن أفلاطون جعل للحب معنى متساميا وجعل له درجات متصاعدة سنذكرها فيما بعد، وسمى هذا النوع من الحب المتسامي "الحب الأفلاطوني". ثم عاد فرويد مرة أخرى للمفهوم الإغريقي وقال بأن الحب ما هو إلا مظهر لغرائز الجنس، ويختلف التعبير عنه بحسب تطور الليبيدو (الطاقة الجنسية) عند الشخص ابتداء بالطفولة وانتهاء بالكهولة، وقد يحدث نكوص (عودة إلى أنماط بدائية للحب كانت سائدة في المراحل المبكرة) أو تثبيت (توقف عند نمط أو أنماط معينة للحب رغم تغير مراحل العمر)، وقد يحدث تسامى (أن يعبر الإنسان عن حبه في صور ذات قيمة اجتماعية عالية كالفنون أو الآداب أو السلوكيات الاجتماعية الراقية كالإيثار ورعاية الأطفال والمسنين والضعفاء).
كان فرويد يرى أنه لاشى اسمه الحب وإنما هو الجنس، وبالتالي حاول أن يمسح من تاريخ البشرية شيئاً اسمه الحب على اعتبار أنه وهم أو هو وسيلة فقط للوصول إلى الجنس وأن كل الغزل والأشعار والفنون ما هي إلا مقدمات للجنس، أي أن الجنس هو الأصل والحب هو الفرع. وقد كان وراء هذا الرأي وغيره موجات من الانفجار والانحلال الجنسي بكل أنواعه، فهل يا ترى كان هذا الكلام صحيحاً، وما مدى صحته بشكل خاص في العلاقة الزوجية؟
دون الدخول في تنظيرات معقدة أو محاولات فلسفية نحاول أن نرى مساحة كل من الحب والجنس في الوعي الإنساني وارتباطات كل منهما.
الجنس (في حالة انفصاله عن الحب) فعل جسدي محدود زماناًًًً ومكاناً ولذة، أما الحب فهو أحساس شامل ممتد في النفس بكل أبعادها وفى الجسد بكل أجزائه، وهو لا يتوقف عند حدود النفس والجسد بل يسرى في الكون فيشيع نوراً عظيماً.
الجنس حالة مؤقتة تنتهي بمجرد إفراغ الشهوة، أما الحب فهو حالة دائمة تبدأ قبل إفراغ الشهوة وتستمر بعدها، فالشهوة تعيش عدة دقائق والحب يعيش للأبد. والرغبة الجنسية قد تذبل أو تموت في حالة المرض أو الشيخوخة، ولكن الحب لا يتأثر كثيراً بتلك العوارض في حالة كونه حباً أصيلاً.
الحب غاية والجنس وسيلة.
الحب شعور مقدس، والجنس (في حالة انفصاله عن الحب) ليس مقدساً.
الحب يخلق الرغبة في الاقتراب الجميل والتلامس الرقيق والتلاقي المشروع تحت مظلة السماء ويأتي الجنس كتعبير عن أقصى درجات القرب.
المحبون ليسوا متعجلين على الجنس كهدف... وإنما يصلون إليه كتطور طبيعي لمشاعرهم الفياضة وبالتالي حين يصلون إليه يمارسونه بكل خلجات أجسادهم وبكل جنبات أرواحهم، وحين تحدث الشهوة يهتز لها الجسد كما تهتز لها الروح.
الجنس في كنف الحب له طعم آخر مختلف تراه في نظرة الرغبة الودودة قبله وأثناءه وتراه في نظرة الشكر والامتنان ولمسات الود من بعده.
الحب هو التقاء إنسان (بكل أبعاده) بإنسان آخر (بكل أبعاده)...... رحلة من ذات لذات.. عبور للحواجز التي تفصل بين البشر.. أما الجنس (المجرد من الحب) فهو التقاء جسد محدود بجسد محدود، وأحيانا لا يكون التقاء جسد بجسد بل التقاء عضو جسدي بعضو جسدي أخر.
وفى ظل الحب يتجاوز الجنس كثيراً من التفاصيل فتصبح وسامة الرجل أو فحولته غير ذات أهمية، ويصبح جمال وجه المرأة أو نضارة جسدها شيئا ثانويا.. الأهم هنا هو الرغبة في الاقتراب والالتقاء والذوبان.
حين يلتقي اثنان في علاقة غير مشروعة ومنزوعة الحب فإنهما يكرهان بعضهما، وربما يكرهان أنفسهما بعد الانتهاء من هذه العلاقة الآثمة ويحاول كل منهما الابتعاد عن الآخر والتخلص منه كأنه وصمة... أما في حالة اللقاء المشروع في كنف الحب فإن مشاعر المودة والرضا والامتنان تسرى في المكان وتحيط الطرفين بجو من البهجة السامية.
في وجود الحب الحقيقي وفى ظل العلاقة الزوجية المشروعة لا يصبح لعدد مرات الجماع أو أو أوضاعه أو طول مدته أو جمال المرأة أو قدرة الرجل، لا يصبح لهذه الأشياء الأهمية القصوى، فهي أشياء ثانوية في هذه الحالة، أما حين يغيب الحب تبرز هذه الأشياء كمشكلات ملحة يشكو منها الطرفان مر الشكوى، أو يتفنن فيها ممارسي الجنس للجنس فيقرؤون الكتب الجنسية، ويتصفحون المجلات، ويشاهدون المواقع الجنسية بحثاً عن اللذة الجسدية الخالصة، ومع ذلك فهم لا يرتوون ولا يشعرون بالرضا أو السعادة، لأن هذه المشاعر من صفات الروح، وهم قد جردوا الجنس من روحه.. وروح الجنس هو الحب المقدس السامي.. فالباحثين عن الجنس للجنس أشبه بمن يشرب من ماء البحر.
وفى وجود الحب يسعى كل طرف لإرضاء الآخر بجانب إرضاء نفسه أثناء العلاقة الجنسية، بل إن رضا أحد الطرفين أحيانا يأتي من رضا الطرف الأخر وسعادته، فبعض النساء مثلاً لا يصلن للنشوة الجنسية (الرعشة أو الإرجاز) ولكن الزوجة في هذه الحالة تسعد برؤية زوجها وقد وصل إلى هذه الحالة وتكتفي بذلك وكأنها تشعر بالفخر والثقة أنها أوصلته إلى هذه الحالة كما تشعر بالسعادة والرضا أنها أسعدته وأرضته ويشعر هو أيضاً بذلك.. أما في غياب الحب فتتحول العلاقة الجنسية إلى استعراض جنسي بين الطرفين فتتزين المرأة وتتفنن في إظهار مفاتنها لتسعد هي بذلك وترى قدرتها على سلب عقل الرجل وربما لا تشعر هي بأي مشاعر جنسية أو عاطفية فهي تقوم بدور الإغراء والغواية فقط... وأيضاً الرجل نجده يهتم باستعراض قدرته فقط أمام المرأة، وإذا لم تسعفه قدرته الذاتية استعان بالمنشطات لكي يرفع رأسه فخراً ويعلن تفوقه الذكوري دونما اهتمام إذا ما كانت هذه الأشياء مطلباً للمرأة أو إسعاداً لها أم لا، المهم أن يشعر هو بذاته.
في وجود الحب لا يؤثر شيب الشعر ولا تجاعيد الوجه ولا ترهلات الجسم، فلقد رأيت من خلال مهنة العلاج النفسي أزواجا في الثمانينات من عمرهم يشعرون بإشباع عاطفي وجنسي في علاقتهما حتى ولو فشلا في إقامة علاقة كاملة، في حين أن هناك فتيات في ريعان الشباب يتمتعن بجمال صارخ ولكنهن يعجزن عن الإشباع الجنسي لهن أو لغيرهن على الرغم من علاقاتهن المتعددة، لأن تلك العلاقات تخلو من الحب الحقيقي والعميق اللازم للإشباع. فالجنس لدى المحبين نوع من التواصل الوجداني والجسدي، وبالتالي فهو يحدث بصور كثيرة ويؤدى إلى حالة من الإشباع والرضا، فقد حكي لي أحد المسنين (حوالي 80 سنة) بأن متعته الجسدية والعاطفية تتحقق حين ينام في السرير بجوار زوجته (75سنة) فتلمس ساقه ساقها لا أكثر، فالإشباع هنا ليس إشباعا فسيولوجياً فقط وإنما هو نوع من الارتواء النفسي يتبعه إشباع فسيولوجي أو حتى لا يتبعه في بعض الأحيان فيكون الارتواء النفسي كافياً خاصة حين يتعذر الإشباع الفسيولوجي بسبب السن أو المرض.
وهذا المستوى من الوعي الإنساني والوجداني ومن الثراء في وسائل التواصل والتعبير يحمى الرجل والمرأة من مخاوف الكبر والشيخوخة لأنه يعطى الفرصة للاستمرار حتى اللحظات الأخيرة من العمر في حالة التواصل الودود المحب، بل ربما لا نبالغ إذا قلنا أن الزوجين المحبين ذوى الوعي الممتد يشعران بأن علاقتهما ممتدة حتى بعد الموت فهما سيلتقيان حتماً في العالم الآخر ليواصلا ما بدآه في الدنيا من علاقة حميمة في جنة الله في الآخرة، وهذا هو أرقى مستويات الوعي الإنساني وأرقى مستويات العلاقة الحميمة التي يتزاوج فيها الحب والجنس.
بين الصداقة والحب:
حدث خلط كبير بين الصداقة والحب خاصة في العصر الحديث الذي حدث فيه اختلاط شديد وذابت الكثير من الحدود بين الرجال والنساء نظرا للحضور القوى للمرأة في كل مكان وتفاعلها مع الرجال لفترات طويلة وعلى مستويات متعددة في أماكن العمل والترفيه وغيرها. وقد دفع هذا عالم النفس "دافيس" لأن يفرق بين الصداقة والحب حتى يكون الناس على وعى بحدود كل منهما، فالصداقة عنده تشمل: الاستماع والمساعدة والاحترام والتلقائية والتقبل والثقة والفهم والإفصاح عن الذات.
أما الحب فهو يشمل كل هذه العناصر المتضمنة في الصداقة ولكن يضاف إليها عنصرين أساسيين لا يكون الحب إلا بهما وهما:
* الشغف: وهو يتضمن:
1 – الافتتان: وهى حالة من المشاعر الطاغية تجاه المحبوب. والمحب يرى كل الصفات الجميلة في محبوبة ولا يرى فيه عيبا، بل إن ما يراه الناس عيبا في محبوبة يراه هو ميزة كبيرة، وإذا حدث ورأى عيبا فإنه مستعد للتغاضي عنه وغفرانه بسرعة وسهولة، لأنه يرى محبوبة أجمل الناس وأفضل الناس، والافتتان يتجاوز كل اعتبارات العقل والمنطق والحسابات.
2 - التفرد: وهو الرغبة في الإنفراد بالمحبوب بعيدا عن كل الناس، ومحاولة الاستئثار به.
3- الرغبة في الاقتراب الحسي: بالتلامس والتعانق وغيرها.
* العناية: وهى تتضمن:
1 – تقديم أقصى ما يمكن للمحبوب: والمحب يكون على استعداد لبذل وقته وجهده وماله وربما نفسه في سبيل محبوبة، ويجد سعادة كبيرة في ذلك.
2 – الدفاع والمناصرة: فالمحب يسخر نفسه للدفاع عن محبوبة ومناصرته في كل المواقف حتى ولو كان مخطئا، بل إنه يراه محقا دائما ولذلك يدافع عنه وبنصره في كل المواقف.
إذن فالحب = صداقة + شغف (افتتان وتفرد ورغبة في الاقتراب الحسي) + عناية (تقديم أقصى ما يمكن والدفاع والمناصرة)
والبعض يتساءل: هل يمكن أن تكون هناك صداقة بين رجل وامرأة؟... والإجابة هي أن الصداقة بين الرجل والمرأة ستشكل قاعدة يمكن أن يقوم عليها الحب في أي لحظة، لهذا إذا كان قيام الحب سيشكل مشكلة قيمية أو اجتماعية أو دينية فإن الصداقة هنا ستحمل مخاطر التحول إلى حب، وهذا التحول ربما يحدث تدريجيا دون وعى أو سيطرة من الطرفين أو أحدهما، خاصة إذا كانت هناك فرصا كثيرة للالتقاء والتحاور والاقتراب. وقد تكون لنا سيطرة عند مستوى الصداقة ولكن هذه السيطرة نفقدها كليا أو جزئيا عن مستوى الحب، ولهذا وجب التنويه.
وللحديث بقية>>>>>>: خريطة الحب: بين الحب والافتتان
واقرأ أيضًا:
حاؤه ..وباؤهُ ..../ نفسي عاطفي: حب Love / نفسي عاطفي: حب إليكتروني Electronic Love / صوتُ الإقلاعِ إلى النتِّ