الإهمال في تشخيص الثقافة وبغض النظر عن أسبابه يتراكم بشكل مخيف، ويكبر كما تكبر كرة الثلج المتدحرجة، فينمو الإهمال كما تنمو الثقافة ذاتها، ويكبران معاً... ليعبرا عن حكاية جسد وفيروس، يتعايشان ويتصارعان في طرف أو آخر من الجسد... والنتيجة المتوقعة: ألم أو تشوّه أو بتر أو تعطيل لجهاز في ذلك الجسد، وكلما زاد التأخر في التشخيص زادت احتمالات أن يعرض الجسد المتوعك على (أقرب) طبيب حتى لو لم يكن ماهراً، وماذا عساه أن يفعل الطبيب حتى الماهر في جسد تغلغل المرض فيه وتمكَّن... حيرة وارتباك وسرعة في اتخاذ (القرار التشخيصي) ومن ثم التخبط في العمل العلاجي أو حتى الجراحي...
ولو استحضرنا هذا المشهد الرمزي واستعرنا تلك الصورة المجازية بدلالاتها وإيحاءاتها، ونحن نسلِّط الضوء على الممارسات التشخيصية بعد الأحداث الكبيرة التي تجتازها الثقافية العربية المعاصرة كحرب 67 وانهيار الاتحاد السوفيتي وذوبان الأيديولوجية الماركسية وانزواء التيارات اليسارية وبروز التيارات الإسلامية والليبرالية وأحداث سبتمبر ونحوها، فإنه قد يكون بمقدورنا أن نجد تفسيراً لبعض أسباب التخبط التشخيصي للثقافة العربية الإسلامية، سواء من جهة المنطقات والأصول أو من جهة التطبيقات العملية، التي وقع فيها عدد غير قليل من المثقفين العرب... حيث نجد في بعض تلك الممارسات أن الذاتي التبس بالموضوعي، وتصارعا في حلبة غير منهجية يروم كل منهما نفي الآخر وتشويهه، وقُدّم السياسي على الثقافي، والبرغماتي على المثالي، والسريع على المتأني، والسطحي على العميق، والمتشائم على المتفائل، والقلق على الواثق... وهذا لا ينفي ولا يتنكر لبعض المحاولات التشخيصية المنهجية العميقة والإسهامات الناضجة المتوازنة...
إذا يمكننا القول بأن الثقافة -أي ثقافة- تحتاج إلى أن تخضع لعملية تشخيص منهجية دورية دقيقة في كل وقت وحين، ويمكن القول أيضاً بأن الحاجة إلى ذلك تصبح أكثر إلحاحاً في بعض الأوقات التي تتأزم فيها الأوضاع الفكرية وتختل فيها البنية الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية، فوقتئذ تخرج الثقافة من حيث المضمون أو الوظيفة عن نطاق الأوضاع الاعتيادية إلى أوضاع استثنائية أو شبه استثنائية من جراء تغيّرات ديناميكية سريعة، مما يتطلب مراجعة لمستويات نجاح الثقافة في أداء وظائفها في تلك السياقات الصعبة مع المحافظة على القدر الواجب من مضمونها وثوابتها...
كما أن التشخيص الذكي في بعض الأزمات قد يفلح في هز الكينونة الحضارية لدى بعض الفئات نظراً للاستعداد الفكري النفسي في أجواء الأزمات، وهز تلك الكينونة يعني أن: (المركب الحضاري لدى الإنسان آخذ في الانتقال من اللا شعور إلى الشعور؛ مما يجعل الإنسان أكثر وعياً به وأكثر قدرة على تفعيله في محيط التفكير والسلوك، فيتشكّل بذلك التفكير والسلوك الحضاريان اللذان يمثَّلان مفردات المشروع الحضاري العربي الإسلامي ويلتزمان بمبادئه وأخلاقياته)... وهذا يتطلَّب من المثقف المفكر أن يمارس قدراً كبيراً من المنهجية والنقدية والشفافية والابتكارية في تصنيع أدوات جديدة للتشخيص الثقافي، على نحو يمكِّن من تشريح القضايا وتحليلها وطرحها بأساليب وقوالب يفهمها ويتفاعل معها النخب والعامة على حد سواء.
وفي هذا السياق يلزمنا التأكيد على قضية بالغة الخطورة، وهي أن الإهمال الشديد في تشخيص الثقافة ولفترات زمنية متطاولة من جراء الخوف من ملامسة بعض (التابوات) أو الموضوعات الإشكالية يكسب الثقافة (حساسية) مفرطة ضد الممارسات النقدية لبعض مفرداتها أو مسائلها أو مؤسساتها أو رموزها، كما هو واقع البعض في تحرجهم الشديد وتقاعسهم الكبير في نقد التاريخ العربي الإسلامي، لدرجة أوصلتهم -شعروا أو لم يشعروا- إلى تقديسه، الأمر الذي أفضى إلى نتائج خطيرة عند فئة (المقدسة للتاريخ)، فاستحال التقديس إلى نوع من الارتهان الفكري والوجداني والسلوكي للماضي، فتعطّلت (مكنة التفكير الإستراتيجي) لدى شرائح عريضة في مجتمعاتنا المعاصرة -سيأتي بيان ذلك لاحقاً مع البرهنة-، كما أدى المسلك التقديسي لحدوث ردة فعل عنيفة ولّدت فئات خاصة من المثقفين والمفكرين العرب، فئات متمردة على التاريخ العربي؛ متجاهلة إضاءته وعظاته، ناسفة لبنيته بديناميت عاطفي أو أيديولوجي بغيض، قاطعة للوشائج الفكرية والوجدانية الفطرية بين الأمة العربية الإسلامية وتاريخها بمنجزاته وإخفاقاته الحضارية والمدنية!...
إن التقاعس في تشخيص التاريخ وتشريحه يملأ فضاءنا الثقافي بنهج فكري حدي ثنائي دوغمائي تسطيحي متطرف، حيث يرى بعضهم أن التاريخ العربي سجل مكتنز بالخير والتقدم والعظمة والمجد، في حين لا يبصر نظراؤهم إلا الدموية والتخلّف والاستبداد والهمجية في ذلك التاريخ، مما يجعلنا نشدّد على وجوب أن يكون النقد التاريخي، وهو ضرب للتشخيص الثقافي، محكوماً بمنهجية علمية دقيقة.
ولعلنا نورد بعض الأمثلة على خطورة الإهمال في التشخيص الثقافي في واقعنا المعاش؛ ذلك الإهمال الذي يولِّد قدراً من الحساسية المعيقة للنقد والإصلاح. دعونا نضرب على ذلك مثالين مباشرين، لكل منهما سياقاته ودلالاته الخاصة:
المثال الأول: ثمة حساسية لدى المجتمع العربي تجاه الممارسات النقدية الجادة، فالمجتمع السعودي -مثلاً- ظل يعيش حالة متطرفة من المثالية الطوباوية التي لا تكاد تعترف بخطأ أو نقيصة أو تقصير، والعجيب أن الفعل الثقافي لم يطق تحقيق نتائج كبيرة وبالذات في بعض المجالات ذات الحساسية، في حين أن الفعل السياسي أفلح في تحقيق نتائج مبهرة وفي وقت قياسي، وذلك لطبيعة الفعل السياسي وقوته وإمكانياته وتأثيره، ومن ذلك المشروع الإصلاحي الذي يتبناه الملك عبد الله بن عبد العزيز -حفظه الله- والذي يقوم على خطاب شفيف لامس بعض المسائل التي أفلحت في (إنزال) المجتمع السعودي من (الحالة الملائكية) إلى (الحالة البشرية).
فالملك لم يركّز حديثه على مفردة الإصلاح فحسب، كما يفعل البعض، بل راح يقلب ظهر المعادلة الإصلاحية ليبيِّن لنا أن ثمة وجهاً آخر لها؛ متمثلاً في: (محاربة الفساد) و(مناهضة الفقر)؛ إذن الفساد والفقر موجودان في المجتمع السعودي؛ لأنه في الحقيقة مجتمع بشري لا ملائكي، وبهذا يمنح ذلك الخطاب للمثقفين والباحثين (مشروعية) للحديث عن الفساد والفقر، ويفتح آفاقاً جديدة للبحث والتقصي في الأسباب والبواعث والمظاهر والآثار القريبة والبعيدة والبدائل والحلول التقليدية والمبتكرة، وهذا منعطف تاريخي وقفزة نوعية تحسب لذلك المشروع الإصلاحي الكبير، إذ أنه أذاب قدراً لا بأس به من (الحساسية) التي تتملك البعض -لا سيما بعض المسؤولين- حين نتحدث عن فساد أو فقر هنا أو هناك، نظراً لأن الرجل الأول باشر عملية الاعتراف الواعي ببشرية المجتمع السعودي ونزع عنه لباساً ليس له ولا لغيره من بقية المجتمعات البشرية.
مع التأكيد على أهمية تفعيل الحراك الثقافي بكافة أدواته وأساليبه وطاقاته لإذابة ما تبقى من تلك الحساسية غير المشروعة، وبهذا نسدل ستار نهاية مرحلة (ملكنة) البشر، فالبشر بشر والملائكة ملائكة، كما تقول الحقيقة العنيدة دائماً! وربما يكون ملائماً لو أرجأنا استعراضنا للمثال الثاني ليكون في مقال قادم، وهو مثال في السياق الثقافي وله آثار ملموسة لا تنكر!
اقرأ أيضاً:
توثيق ما لا يطيق التوثيق / لغتنا الجميلة / يوميات مجانين: عربية المصريين