الاضطرابات النفسية عند ديتلف ميليس(2)
اضطراب الشخصية العدوانية المنفعلة
السمة الرئيسة في هذا الاضطراب، هي نمط من المقاومة المنفعلة لمتطلبات الأداء المهني والاجتماعي الملائم، يسود حياة المصابين به، ويبدأ هذا الاضطراب في أوائل مرحلة البلوغ ويتظاهر في سياق العديد من التصرفات، ويستدل على اضطراب الشخصية هذا بتوفر خمسـة على الأقل مما يلي:
* يكثر المصاب من التسويف، أي نجده يؤجل الأعمال المتوجب عليه تأديتها، فلا يستطيع الوفاء بما عليه إنجازه في الوقت المحدد.
* سرعان ما يصبح المصاب عابساً أو متهيجاً أو كثير المحاولة حين يطلب منه فعل أمر لا يرغب بتأديته.
* يبدو أن المريض يتعمد الإبطاء في تأدية مهام لا يرغب بتأديتها بقصد تنفيذ عمل سيء.
* يحتج دون وجود ما يبرر ذلك فيدّعي أن الآخرين يطلبون منه طلبات غير منطقية.
* يتجنب الالتزامات بادعاءات عدة (مثلاً:مدّعياً بأنه قد نسيها).
* يعتقد بأنه يؤدي عملاً أفضل ممّا يظن البعض.
* يستاء من الاقتراحات المفيدة المقدمة من الآخرين والمتعلقة بالطرق التي يصبح بها أكثر إنتاجية.
* يعيق جهود الآخرين لجعل العمل يسير بشكل طبيعي.
* ينتقـد ويزدري من هم في مواقع السـلطة بشكل غير منطقـي (وان لم يظهر أو يعبر علناً على ذلك).
خلاصة:
يواجه أصحاب اضطراب الشخصية العدوانية السلبية (العدوانية المنفعلة) صعوبة في التعبير عن مشاعر الغضب والاستياء والعداء بشكل مفتوح، وهو ينكر في نفسه كما ينكر أمام الآخرين وجود مثل هذه المشاعر، فتجد هذه المشاعر تعبيراً لها في الأشكال السلبية وغير المباشرة للعداء أو يختفي غضب المريض ويستتر إذا عومل بطريقة صديقة، وقد يختبئ استياء المريض وراء ودّية كلمات الموافقـة والاحترام، وفي الحقيقة فإن مظاهر العداء قد تخفـى لدرجة يكون فيها من المستحيل للمتلقي أن يثبت أنه قد هوجم، وتتلاقى محاولات المواجهة مع طريقة تنازلية لرعب جارح في مثل هذا الاتهام غير العادل، مما يزيد من فشل وغيظ هؤلاء الذين عليهم أن يعيشوا أو يعملوا مع شـخصيات سلبية عدوانية، وقد يعـود الفشل لانفجار الغضب الذي يقـوي الدليل عند الشخص السلبي العدواني أنه ليس الشخص الغاضب، وإنما الشخص الآخر هو الغاضب، وعلى الرغم من أنهم قد لا يتمردون ضد الأشخاص في الحكومة بشكل علني، لكنهم قد يشجعون غيّهم بشكل هادئ ولكن فعّال على فعل ذلك ولهذا قد يعترضون في مجلس إذا علموا تمام العلم بوجود اعتراض قوي كامن فيه، وأكثر ما ترى المماطلة السلبية، العناد، والوقوف في سبيل التقدم obstructionism في علاقاتهم مع الأطباء، فالمريض السلبي العدواني يبدي ثقةً كبيرة بالطبيب، ولكنه ينسى المواعيد ولا يأخذ أي دواء رغم الوعود المتكـررة بأنـه سيفعـل هذا.
وهناك دائماً أعذار ترضي المريض دون سواه "لقد أضعت الوصفة، ولم أكُ أبغي إزعاجك من أجل وصفة أخرى"، "ظننت أنه عليّ أخذ الدواء فقط عندما أشعر بالألم بعد مغادرة المشفى"، "شعرت بتحسن وظننت أنك لا تريدني أن آخذ كمية أكبر"، "لقد نسيت فقط ولم أك متأكداً فيما إذا أعطاني الصيدلاني الصنف الصحيح"، وهكذا تشكل كل الاضطرابات الشخصية مشاكل كامنة من أجل علاقة الطبيب بالمريض، ولكن المرضى السلبيين العدوانيين مع المازوخيين، هم الأصعب تعاملاً بالنسبة للعديد من الأطباء، ومثال على الشخصية السلبية العدوانية من الأدب شخصية تشيلينغورث في رواية الرسالة القرمزية للكاتب Nathaniel Hawthorne.
مظاهر هذا الاضطراب عند ميليس:
1- كان ميلس يقضي إجازة في جزيرة مايوكا الاسبانية عندما اتصل مكتب عنان به عن طريق النيابة العامة الألمانية في برلين للتوجه إلى نيويورك بعد أن تم اختياره لمهمة التحقيق في اغتيال الحريري، وكان عنان قد سبق وعرض رئاسة اللجنة على قاضيين أوربيين محايدين (لم يُذع اسميهما)، وبقي سبعة أسابيع قبل أن يستقر الخيار على ميليس؟.. وقال ميليس بعد تسلمه قرار تعيينه رئيساً للجنة التحقيق الدولية المستقلة (إن مهمتي هي بمثابة تحد) معرباً في الوقت نفسه عن قناعته بأن فترة الثلاثة أشهر ستكون كافية لحل لغز الجريمة، رغم كل مصاعب المهمة، وذكر قائلاً: (إن المحقق الذي لا يتمكن من الكشف عن القضية التي يحقق فيها خلال ثلاثة أشهر، ربما لن يتمكن من الكشف عنها على الإطلاق). وبالمقارنة بين تصريحاته هذه وسلوكه في العمل في قضية اغتيال الحريري خاصة بطريقة تعاطيه مع سوريا نلاحظ الإكثار من التسويف وتأجيل الأعمال المتوجب عليه تأديتها، وعدم استطاعته الوفاء بما عليه إنجازه في الوقت المحدد، واعتماده الإبطاء في تأدية مهام لا يرغب بتأديتها بقصد تنفيذ عمل سيء، وبتجنبه الالتزامات بادعاءات عدة.
2- تعرف ميليس على رفيق الحريري في أيار (مايو) عام 1991 في بيروت وذكرت مجلة (دير شبيغل) الألمانية وجود صور لميلس في بيروت في تلك الفترة وهو يضع نظارتين سوداوين للوقاية من الشمس وفي يده رشاش كلاشنكوف، كما أكدت المجلة أن الحريري استجاب لطلب ميليس وقدم له المساعدة المطلوبة، ليس فقط في إجراء تحقيق مع ياسر الشريدي (الفلسطيني الموجود في السجن لارتكابه بعض الجنايات، وأحد المتهمين الملاحقين في تفجير لابيل) بل وفي التوقيع على طلب تسليمه إلى القضاء الألماني، وياسر الشريدي (سائق في السفارة الليبية في برلين) واحد من بين خمسة متهمين.
ومن المعلوم وفق الوثائق والشهادات التي عرضها وبثها التلفاز الألماني CDF في برنامج عن منهجية وطريقة عمل ميليس أن القاضي الألماني المكلف بالحكم في قضية الشريدي هدد ميليس بالإفراج عن الشريدي ما لم يقدم أدلة كافية وأعطاه مهلة حتى الأول من تشرين الأول من نفس العام، وحينها طار المحقق ميليس إلى مالطا ليعقد صفقة مع عميل المخابرات الأمريكية CIA المدعو M.ETER بعد أن التقاه مرتين، والصفقة تقوم على أن يلغي ميليس أمر الاعتقال الصادر بحق العميل M.ETER (المتهم بجريمة قتل في بون، وثلاث جرائم في برلين، و 104 محاولات قتل متفرقة، ومطلوب توقيفه من قبل المدعي العام في بون، وأيضاً من قبل المحكمة في برلين) مقابل أن يقدم شهادته ضد الشريدي وبالفعل ينتقل العميل إلى ألمانيا، ويستأجر ميليس له فيلا ويلغي أوامر الاعتقال بحقه ويشهد ضد شريدي.
3- قصة أخرى يرويها نفس البرنامج في التلفاز الألماني تتعلق بعميل الموساد العمايري الذي كان قد صدر بحقه أمر اعتقال، لكن ميليس لم يعتقله، ويقوم معد البرنامج بإجراء مقابلة مع العمايري ومحاميه النرويجي دير فليند في النرويج، حيث يؤكد محاميه أنه يقيم برعاية المخابرات الإسرائيلية (الموساد) وهو عميل لها، واعترف محاميه بأن الموساد التي ترعى موكله حصلت له من السلطات النرويجية على الإقامة. وحين تسأل السيدة هاينزي المحقق ميليس لماذا لم تقم باعتقال العمايري يجيب ميليس (مراعاة لمصالح ألمانيا الخارجية) لتضيف بعدها عبارة الصدمة من أسلوب عمل هذا المحقق ودوره في تضليل القضاء.
5- وفي نفس البرنامج تروى قصة أحمد الحازي التي تولى التحقيق فيها ميليس ويقول المؤلف والصحفي بيتر نيغل Peter Niggle الذي تابع القضية منذ بدايتها، زرت الحازي في سجنه بإذن من القاضي المختص ووجدت نفسي أمام رجل مختل عقلياً لا يتحدث إلاّ عن الخوف من القصف بالقنابل الذرية لأنهم زرعوا قاعدة صواريخ في رأسه، وبأنه يتلقى أوامره من الجن عبر الأثير، ومع ذلك أخذت إفادته التي قدمها ميلس بطريقة مسرحية، بأنه أخذ القنبلة التي كانت على طاولة المطبخ في السفارة السورية هناك، وقام العديد من الصحفيين بزيارة السفارة السورية ليكتشفوا أن كل ما قاله لا يمت للواقع بصلة فلا وجود لمطبخ في السفارة السورية عدا أن عنوان السفارة والوصف الذي أعطاه الحازي عنها وعن موقعها ووصفها كان مغايراً تماماً. ورغم ذلك لم يكلف أحد نفسه عناء الطلب بالكشف الطبي عليه لمعرفة مدى أهلية شهادته.
6- لم يأخذ بالاعترافات التي صدرت عن اسرائليين في قضية لابيل رغم أنها دامغة.
7- ويوضح نفس البرنامج أسلوب عمل ميليس الذي يعتمد على خلق جو من الإدانة المسبقة، وهي في غالبيتها ذات طابع سياسي، وانطلاقه من الأحكام المسبقة، وقناعته بالأدلة السياسية هي أكثر من رغبته في إيجاد الأدلة القانونية.
8- إيمان ميليس بالمخابرات واستخدام الصحافة وهو ما عرضه البرنامج المذكور إضافة إلى الوقائع في تعامله مع ملف اغتيال الحريري.
10- هذا عدا عن تسجيل الكثير من الألمان على ميليس قناعاته الدفينة ضد الحركات اليسارية، وميله إلى الأدوار (الغريبة) أثناء التحقيقات التي أجراها في جريمة (ملهى لابيل) لدرجة أن البعض اعتبر اختيار ميليس لمهمة التحقيق في اغتيال الحريري غير موفق لأنه معاد سلفاً لبعض الأنظمة والدول العربية وصديق للكثيرين في إسرائيل.
ما عرضته يوضح طريقة عمل ميليس واعتماده الإبطاء في تأدية مهام لا يرغب بتأديتها بقصد تنفيذ عمل سيء واعتقاده بأداء عملاً أفضل ممّا يظن البعض، واستياؤه من الاقتراحات المفيدة المقدمة من الآخرين والمتعلقة بالطرق التي يصبح بها أكثر إنتاجية ومهنية وإعاقة جهود الآخرين لجعل العمل يسير بشكل طبيعي، ويشير بشكل أو آخر إلى انتقاد ومحاولة النيل ممن هم في مواقع سـلطة لا تروق له بشكل غير مبرر أو منطقـي.
ويتبع >>>>>>>> : الاضطرابات النفسية عند ديتلف ميليس(4)
* نشرت على الشبكة العربية للعلوم النفسية