منذ ما يقرب من الأعوام الثلاثة تتزاحم في تطفل غريب علي مسامعي كلمات وقصص تدور حول شخصية بدأت أكون تجاهها كرها دفينا غير معلل تدعي "هاري بوتر"!
فأكره اهتمام الأشخاص الكبار به قبل الصغار وكنت أضع للأطفال أعذارهم حيث أسمع أنه شخصية خيالية تقوم بأفعال خارقه أو سحر من أجل أن يسود الحق والخير ولكن كنت دوما أتعجب لإعجاب وانتباه الكبار واضطررت أن أعطيهم عذرا بسيطا، وأقول لعل السياق جذاب، أو لعل الحبكة الأدبية فائقة التصور وفي النهاية هو عمل أدبي لمؤلفه من بلاد "الخواجات" فبالطبع سيكون مختلفا وله رونق.
إلا أن كلمات الإطراء وتزايد نسج أحلام اليقظة بين الأطفال في مصر حوله أصبح يزعجني بحق وكنت اسمع تطوراته وأن الجزء الخامس هو جزء فاصل وأن هناك منتديات تخص هاري بوتر بل وهناك من الأطفال من يفكر مع المؤلفة من أجل أن يتوقع معها ماذا سيحدث في الجزء القادم!
وازداد الطين بلة عندما عرفت أن القصة تصور كأجزاء سينمائية فازددت غضبا وغيظا لتلك الشخصية التي لا تريد لي أن أهنأ بعيدا عنها قليلا، حتى كانت الطامة الكبرى حين اكتشفت أن تلك الشخصية هي الشخصية المفضلة لابنتي وظللت أنظر لاهتمامها بها بانكسار ممزوج بحسرة أن حدث ذلك في عقر بيتي! فإذا تحملت ذلك ممن حولي كبارا كانوا أو صغارا فمن حقي ألا أراه من تحت وسادتي وكأنه يخرج لي لسانه قائلا لن أدعك في حالك فلقد وصلت إلى هنا فأرد عليه في نفسي قائلة "لقد ارتقيت مرتقىً صعبا أيها الوغد".
وكنت أمني نفسي طمعا أن تنساه ابنتي -بل في الحقيقة كل أبنائي- حتى قلت في نفسي لن أستسلم لهذا الهاري بوتر، وكدت أموت كمدا وحسرة عندما وجدت أبنائي يدخرون النقود من أجل الحصول على نفس الأجزاء ولكن باللغة الإنجليزية.
وحدث ما كنت أخشاه وتم شراؤها بمئات الجنيهات وأنا أجر أذيال الخيبة وأحمل في قلبي الحسرة على ما أصاب بيتي من وبااااء، حتى قررت كعادتي ألا أدع المشكلة تنال مني فأنا دوما أقوى أنا دوما صاحبة القرار الذي سينفذ شاء من شاء وأبى من أبى وبالذوق والاقتناع دون أن يشعر من أمامي أني أسلبه حقه في تقرير المصير وإن لوحت لهم بتعديلات دستورية عفوا أقصد تعديلات سلوكية مني، وقررت في يوم أن أذهب عامدة متعمدة إلى الجزء الأول من القصة حتى أضع يدي بدقة على نقاط الضعف لأسوغها للكبار قبل الصغار، وقمت بعمل كوب الشاي اللازم لتلك المهمة الصعبة وبدأت أقرأ عن كثب وترقب لاصطياد الزلات وكان عجبا....
لقد اندهشت من العقل البشري ليس لأنه يستطيع أن يتخيل ويحبك الدراما بفن وقدرة ولكن كان عجبي من أنه حين يشحذ زناد فكره ويعتصره الإبداع ويتكلف كل طاقاته لا يزداد إلا قربا من الواقع!!
فالمؤلفة فعلت كل هذا وكانت طريقتها للوصول لشخصية مثلى في الحق والخير والخلق أن تبدع شخصية قادرة علي مواجهة البشر -ممن أسمتهم العامة- الذين يريدون أن تظل الحياة بلا ضابط لها أو رابط بأن تجعله شخصا "مميزا" خلقا وجسدا وحياة يحياها فجعلت نسبه غير عادي، وعند ظهوره تغيرت ملامح رئيسية في الكون كاختفاء شخصية جبارة لها ثقلها في الحياة تحوم حولها شكوك موتها أو ضعف قوتها فقط لظهوره!!
وكان لابد أن تجعل له تميزا في شكله الخارجي فأفاضت في وصف وجهه وجسده وجعلت لديه ندبة في رأسه يراها كل من لديه عينان وأنه كان مقهورا لظروف خارجة عن إرادته فقيرا منذ صغره يتيما ليس له أب يركن إليه أو أم تحنو عليه وانتقل ليحيا في بيت خالته، وكان يتحمل بنبل أخلاق أقاربه الذين لم يستطيعوا أن يعطوه سوى خزانة صغيرة حقيرة يحيا بها رغم سعة منزلهم، وكان صبورا يتحمل الظروف الصعبة من حوله وكان أمينا رغم قدرته على التحايل من أجل الحصول على حقوقه الطبيعية في الحياة إلا أنه لم يفعل، وكان محل ثقة الآخرين رغم اختلاف أفكارهم وشخصياتهم وأعمارهم.
حتى وصل إلى عامه الحادي عشر بدأت الرسائل الغريبة ترسل إليه أينما هو حتى أخذته خالته لجزيرة بعيدة وسط الماء لا مكان فيها لصندوق بريد ولا قدرة لساعي بريد للوصول إليها! محاولة قطع التواصل الروحي معه، فكان هذا نتاج قراءة 65 ورقة فقط من الجزء الأول والذي بيع منه مليون نسخة في ثلاثة أيام!
فوجدت نفسي أصيح صيحة فرح وليست صيحة غضب إلا أن فرحتي كانت ممزوجة بألم كخنجر يقطع أوصالي مرددة سبحانك يا رب!
أعجز البشر أن يروا سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم شخصية رائعة توصف أخلاقها الحقيقية في الكتب الخيالية كمحاولات لجبر الكسر في صفاتنا فيتمموا بها نقصا مروعا في الواقع فنحياه خيالا؟
أما استطاع منا أديب أو قصصي للأطفال أن يتناول مولده وطفولته بالطريقة الجذابة التي نقرؤها في هاري بوتر فيتشبث بها أطفالنا المسلمون عن واقع لا عن خيال، ألهذه الدرجة يحصل الخيال على الشهرة والقدوة والانشغال والتحليل والتفسير وتترك الحقيقة نهبا للتراب والنسيان أو ممصمصة الشفاه عن عجز مخل؟
ألم نقرأ جميعا عن مولده والأحداث العجيبة التي صاحبت مولده في المشرق والمغرب ألم نعلم أن في ظهره كانت هناك شامة أو ما نعرفه بخاتم النبوة ألم نستطع أن نجسد يتمه وفقره ونبل أخلاقه بالصورة التي تبقى في الأذهان لتكون حقا قدوة، فتحصل شخصية خيالية على كل هذا البريق بل والتصديق والانبهار ويصبح قدوة للكثير من أبنائنا وهو محض خيال يشطح أحيانا كثيرة حين بصوره ساحرا قادرا على التغيير لمن حوله بتعاويذه- وحتى في مساحة السحر لنا فيها وقفة فحين عجز من حول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير أو محاربة نبوته وخلقه قالوا سااااحر!! وكانت هذه النقطة تحديدا هي ما ارتكزت عليه المؤلفة لتعطي لنبل أخلاقة وحربه المستمرة للشر والظلم قوة وتأثيرا!
ونحن نملك بالحق والصدق بيننا رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصيه حقيقية أراد الله لها أن تكون بشرا ليقول لنا أنه يمكن أن يغير بشرٌ بشرا حين يتحلى بصفات جليلة كالأمانة والصبر والصدق والتخطيط والإبداع والخلق الرفيع،حينها شعرت بالإهانة التي نلحقها نحن بحق رسول الله قبل غيرنا، وكم قصرنا في دراسة سيرته العطرة بحق حين لم نلفت إليها أو حتى حين التفتنا إليها بآليات لا تتناسب مع الزمن الذي نعيشه، فكم استفاد بشر عاديون في حياتهم اليومية من سيرته وكم من علماء أفاضل تعلموا منه في كل مجالات المعرفة العلمية والشرعية والنفسية والاجتماعية وما خفي كان أعظم.
مدينة أنا والكثير من البشر لك يا رسول الله باعتذار يتلمس طريقه خجلا وهو يتمتم بعبارات التأسف التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ومدينة لك أكثر بكل التحية والإعزاز والإكبار لشخصك الكريم، ولن أفقد الأمل أبدا أن يأتي يوما لتأخذ الحقائق فيه مكانها الطبيعي فهل من مشمر يخط بقلمه سيرة رسول الله بأدوات وتقنيات العصر الذي نحياه مطمئنا واثقا بنجاحه الباهر لأنه على أقل تقدير يتحدث عن حقيقة وليس خيالا؟!
واقرأ أيضاً:
تاراباتاتوووة(10) شائعات