الاضطرابات النفسية عند ديتلف ميليس(4)
ثالثاً: لغة الجسد (علم حركة الجسد)
كلنا نعلم أن نظرة تختصر ببلاغة حديثاً بأكمله، وربما تكون ذات تأثير أقوى.. وكلنا عندما نشاهد شخص يتحدث لغة لا نعلمها نستطيع أن نفهم الكثير عن حالته من غضب أو فرح خوف أو...، من خلال إيماءاته، وكثيراً من الإيحاءات ضمن طيف من التنوع والاختلاف نستخدمها يومياً في كل حركة وهي تشكل أبجدية شديدة التنوع هائلة التعابير، وجميعنا نفهم الكثير من حركة ما..
من خلال ما ذكرت في خمسينات القرن الماضي ظهر نوع من العلوم سُمِّيَ (لغة الجسد) وأطلقت تسمية (علم الحركة) على كل من صيغته الكتابية والدراسة العلمية له، وكون هذا العلم جديد الاهتمام وحديث الولادة نسبياً فإنه اقتصر على عدد قليل جداً من المختصين يعدون بالعشرات على مستوى العالم إلى الآن، ومن بين الرواد الذين قاموا بدراسات وأبحاث عن لغة الجسد كلغة لا شعورية منتصف القرن الماضي الدكتور Edward. H. Hiss وأمام المؤتمر الطبي للتنويم المغناطيسي في جامعة American College تحدث عن إشارة حركية تم اكتشافها وهي التوسع اللا شعوري لبؤبؤ العين حين تنظر على شيء مريح.
ولغة الجسد تعتمد على المرسل والمتلقي.. وتعتمد على ثقافة وحضارة كل منهما أيضاً.. ويمكن القول أن جزءاً من لغة الجسد يكتسب من البيئة والثقافة فالحركات التعبيرية التي لها معنى وتدل على شيء في مجتمع ما.. وتعني أمراً آخر في مجتمع آخر، وقلما تكون رسائلنا تلك رسائل شعورية، إذ غالباً ما نعبر عما نحن فيه بالسلوك من خلال لغة الجسد، فنرفع أحد الحاجبين للتعبير عن عدم التصديق، ونفرك الأنف دليلاً على الدهشة أو الحيرة، ونضم ذراعينا لننسحب أو لنحمي أنفسنا، ونرفع الكتف للتعبير عن اللامبالاة، ونرف بإحدى العينين كتعبير عن الألفة، وننقر بأصابعنا دليلاً على القلق، ونلطم على الجبهة دلالة على النسيان.. والإيماءات كثيرة ومتنوعة، بعضها يكون مقصوداً وبعضها شبه مقصود، ودراسة لغة الجسد هي دراسة لمزيج من حركات الجسد ضمن مجال رحب يبدأ بالحركات المقصودة وينتهي باللاشعوري منها، ولفهم لغة الجسد يجب أن نأخذ بعين الاعتبار الفروق الثقافية والبيئية، رغم تجاوز حدود الثقافات لبعضها فأفلام (تشارلي شابلن) الصامتة مفهومة وتدخل البسمة والضحك والمرح لجميع الشعوب.
وتعبَّر الشخصية عن ذاتها في الكثير من حركات الجسد وإيماءاته، مما يعني أننا نستطيع قراءة الشخصية والوصول إلى مكنوناتها بفك رموز هذه الإيماءات، ولقد جد الدكتور "شيغلن" من خلال دراسته لجلسات العلاج النفسي أنه حين يقوم المعالج النفسي بشرح شيء ما للمريض فهو يستخدم وضعية رأس معينة تختلف عن تلك التي يستخدمها عندما يفسر ملاحظة محددة أو سلوكاً قد يستخدم وضعية ثالثة حين يقاطع المريض، وأخرى رابعة حين يستمع إليه، وضمن السياق نفسه يتخذ المريض وضعيات محدَّدة عند استماعه للمعالج، إذ لاحظ "شيغلن" في العديد من الحالات التي درسها أن المريض يميل برأسه إلى اليمين حين يتصرف بطريقة طفولية، ويبقيه منتصباً عندما يتكلم بطريقة عدوانية ناضجة.. والمرء يعيد الحركة نفسها مرة بعد أخرى، دُهش الدكتور "شيغلن" لأن حركات الرأس المتكررة خلال مقابلة استمرت نصف ساعة كانت نمطية ثابتة بشكل كبير، ومن هنا تكمن القيمة العظمى لفهم لغة الجسد وإدراجها ضمن مجال الطب النفسي والمعالجة النفسية.
وهذا ما نلاحظه ونفهمه جميعاً من سلوك الطفل الذي يتلقى من والده ما يكفي من التقريع حيث يترافق قوله: "نعم.. نعم.. أعرف ذلك" مع استدارة جسدية ابتعاداً عنه مشيرة إلى أن "ذلك كاف، دعني أذهب".
وتكمن قيمة الحقيقية للغة الجسد ضمن مجال العلاج النفسي، ويتبين الدكتور "شيغلن" ضرورة استخدام المعالجين النفسيين للغة الجسد بشكل شعوري، واستخدم الدكتور "يوشهايمر" وغيره فهمهم للغة الجسد في مجالات مواجهة الذات، ويعتبر يقول الدكتور "فريتز بيرلز" عالم النفس الذي أرسى قاعد العلاج النفسي الغشتالي -وهو علاج نفسي يعتمد لغة الجسد كإحدى الأدوات الأساسية- ولا يقوم التكنيك الأساسي لهذه الطريقة على توضيح الأمور للمريض وإنما على تزويده بفرصة لفهم واكتشاف نفسه، ولكي يتم ذلك يحدث إغفال مضمون معظم ما يقوله المريض يكون التركيز بشكل كبير على المستوى غير اللفظي، باعتباره الجانب الوحيد الذي لا يخضع إلا قليلاً لخداع الذات، ويتجلى المستوى غير اللفظي بالطبع بلغة الجسد، اختراق الكثير من الحواجز الدفاعية التي تتمسك بها.
يعرف السياسيون بدقة أهمية لغة الجسد، فهم يستخدمونها لتأكيد ما في خطبهم إعطائها القالب المناسب وحتى للظهور بصورة أكثر قبولاً، وهذا ما تمتع به كل من "فرانكلين رزفلت" و"فيوريللوغارديا" وتمكنا منه بشكل واضح، فعلى الرغم من كونه معاقاً لم يُظهر "روزفلت" جسده في حالة تبدي ما فيه من نقص لقد كان قادراً على استخدام لغة الجسد للظهور بمظهر مفعم بالثقة بالنفس التحكم، كذلك تميز "جون كينيدي" بقدرته القيادية من خلال استخدام هذا العلم، إذ بغض النظر عما كان يقوله استأثر من خلال إيماءاته أو وضعيات جسده الصحيحة بمستمعيه.
وكان "روبرت كينيدي" ليس بالرجل الطويل أبداً، لكنه بدا طويلاً جداً من خلال استخدامه لوضعية معينة، ومن جهة أخرى لا يستطيع بعض الرجال التحكم بقواعد لغة جسدهم مهما حاولوا ذلك، ومنهم مثلاً "ليتدل جونسون" الذي بدت حركات ذراعيه متصنعة جداً بشكل دائم، فيها تقليد شديد كأنه ينفذ برنامجاً حفظه عن ظهر قلب، والاستخدام المبالَغ فيه لقدر محدود ومكرر من لغة الجسد جعل من "ريتشارد نيكسون" موضوعاً ظريفاً للمثلين الساخرين من أمثال "ديفيد فراي" الذي كان يكتفي باختيار مجرد إيماءة أو اثنتين من إيماءاته المميزة تضخيمها ثم خلق موقف مثير قائم على تقليده.
وهكذا فإن فهم لغة الجسد يجعلنا ندرك أن الطفل يمص إصبعه في أوقات الشدة طلباً للأمان وذلك في عودة رمزية إلى الأمان الذي كان ثدي أمه يوفره له، أما الرجل فقد استبدل تلك العادة بعادة قضم الأظافر والسلاميات الأكثر قبولاً اجتماعياً، والمرأة تبسط يدها على صدرها بطريقة دفاعية لتغطي المنطقة الأكثر عرضة انكشافاً وهي الصدر، والدراسات الأكثر جدية في مجال لغة الجسد بالانفعالات المعبَّر عنها بالحركة وليس بالطبيعة الغريزية للشخص الذي يرسلها وفي أحسن الأحوال تُستخدم الإشارة الجسدية المرسَلة لجهل الشخص فهم ذاته، أما عندما تستخدم لمحاولة تحديد الشخصية أو الشخص أكثر من السلوك فتبدو حافلة بالتناقضات.
وتعتبر العين مرآة للحالة الشعورية للشخص فكثيراً ما نتلقى عبارة ما من نظرة ذات مغزى، وبدورنا نستخدم عيوننا لبث ما نريد دونما حاجة للنطق به، فهي تعبِّر بشكل لا شعوري عما يكنه المرء من مشاعر وعما يعيشه من حالات فهي بالنسبة للشعراء القصيدة والوحي الذي يلهم الملاحم الشعرية ليست جمالاً مجرَّداً إنما معبِّرة باعظم مما ينطقه اللسان فهي تفصح عما يخفيه المرء وغير قادرة على الكذب أو الخداع، وكثيراً ما توصف العينان في الأعمال الأدبية بالفولاذية، الذكية، الساخرة، المتوهجة، الباردة، الطيبة،...الخ
ومن المسلّم به أن الاعتراف بالعين كأداة اتصال ليس بالشيء الجديد فقد كانت النظرة دائماً تحمل مشاعر قوية مرتبطة بها، ويأتي التأثير الانفعالي للعينين نتيجة استعمالها مع الوجه المحيط بهما، فطول النظرة وتوسيع الفرجة الجفنية أو تضييقها بالإضافة إلى أشكال أخرى من التحكم بالجلد والعينين يجعل من الممكن التعبير عن معنى محدد، لقد نبه "أورتيغا" كغيره من الباحثين في مجال لغة الجسد إلى أن النظرة المجردة بذاتها لا تقدم لنا كل شيء على الرغم مما لها من معنى، فمعنى الكلمة يرتبط بالجملة، كذلك بالنسبة للنظرة فهي تعطي مغزاها الكلي من خلال الموقف الإجمالي فقط، وتبيّن له أن الناس الذي يبدؤون الكلام يبعدون نظرهم عن المخاطَب في البداية هناك تنسيق بين الكلام والاستماع والنظر بعيداً، فمعظم الناس ينظرون بعيداً مباشرة قبل أو بعد بداية كل حديث من بين أربعة أحاديث يجرونها بالمقابل قلة من الناس ينظرون بعيداً مع بداية نصف أحاديثهم، ونصفهم ينظرون إلى المخاطب مع انتهاء كلامهم.
يعتبر إبعاد النظرة عن محدّثك طريقة في التستر أيضاً، فإذا نظرت بعيداً أثناء كلامه فأنت تعني: "لا أريدك أن تعرف ما أشعر به"، وهذا صحيح بشكلٍ خاص حين يكن الطرف الآخر انتقادياً أو كثير الجرأة، وهذا سب رفض الطفل النظر إليك وأنت توبخه، والحقيقة أن التعقيدات هي أكثر من مجرَّد مواجهة العين أو التحديقة، قد يكون النظر بعيداً خلال الحديث وسيلةً لإخفاء شيء ما، ولذلك حين ينظر شخص ما بعيداً قد يفكر بأنه يخفي شيئاً ما، وبالإضافة إلى طول النظرة هناك قدر كبير من الإشارات في عملية إطباق الجفن، بينما استطاع الرجال في دراسة أخرى تقديم عشر وضعيات على الأقل وبعضهم قدَّم خمس عشرة وضعية مختلفة، ينتج لدينا عدد أكبر من الإشارات حين تُضاف حركة الحاجبين إلى حركة الجفنين، لقد وَجد بعض العلماء بحدود أربعين وضعية للحاجبين وحدهما مع أن غالبيتهم تقر بأن نصف هذه الوضعيات فقط يحمل دلالة، وحين نضيف حركات الحاجب الجفن ذات الدلالة مع تغضنات الجبهة نحصل على مركبات ونتائج لا نهائية.
لغة الجسد عند ميليس:
من خلال ما عرضت عن لغة الجسد وعلم حركته ومن خلال متابعة تلفزيونية للكثير من مؤتمرات القاضي ميليس الصحفية التي أجراها ومشاهدته أثناء إلقاء كلمته أمام مجلس الأمن ومشاهدة طريقة سلامه على الدكتور الداوودي في دمشق ولقاءاته مع المسئولين اللبنانيين ومع الأمين العام للأمم المتحدة يمكنني إيجاز أهم إيماءات لغة الجسد عنده بالنقاط التالية:
1- الارتباك والتوتر واضح رغم محاولاته عدم إظهار ذلك وكان أشد وضوحاً في مؤتمره في الأمم المتحدة بعد تسريب تقريره.
2- كافة حركات جسده نأتي منسجمة مع علم الشكل والملامح عنده، ومع الاضطرابات التي أشرت إليها في شخصيته.
3- الطريقة الاستعراضية الواضحة في أسلوب سلامه على الدكتور الداوودي أمام مبنى وزارة الخارجية السورية.
4- بمراقبة الحدقة عند ميليس بواسطة الحاسب، في مؤتمراته الصحفية أظهر الحاسب الانقباض في حدقته بنسبة 73% من زمن حديثه، وهذه نسبة عالية جداّ وهذا دليل لا يرقى معه الشك بأنه يتعمد الكذب وعدم المصداقية في أغلب كلمات حديثه.
5- وبدراسة الحدقة في كلمته أمام مجلس الأمن أظهر الحاسب الانقباض في حدقته بنسبة تصل إلى 69% وأيضاً هذه نسبة عالية وتشير إلى عدم اقتناعه هو بما يقول.
6- حركة اليدين المضمومتين إلى صدره على الطاولة في مجلس الأمن وفي المؤتمرات الصحفية تشير إلى تطويره لإيماءات الساعدين والذراعين للاختباء كحاجز وراءهما إضافة إلى حالة من موقف عدائي وتوتر ودفاع وكأنه محاصر.
7- حركة اليدين والجسد مع القدمين في لقاءه مع رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة بعد ظهور الشاهد هشام هشام في دمشق تشير إلى الإحباط والسلبية.
8- حركة الرأس يميناً وشمالاً في مجلس الأمن ومؤتمراته الصحفية تشير إلى عدم الاقتناع والمعارضة، إضافة إلى المراوغة.
9- حركة يده لحك انفه في أكثر من مؤتمر صحفي وكذلك كررت في مجلس الأمن أثناء قراءة تقريره تشير إلى الكذب إذ أن النهايات العصبية الدقيقة في الأنف تستشعر وخزاً خفيفاً، إضافة إلى الحيرة أو المفاجأة.
10- رفع النظارة والحك أسفل العين والذي تكرر عند ميليس أكثر من مرة وحتى في مجلس الأمن هي محاولة من دماغه لأن يسد الخداع أو الكذب والنفاق.
11- مجموعة إيماءات الفم بابتسامة زائفة والتي استخدمها مراراً في مؤتمراته الصحفية وفي مجلس الأمن تشير إلى ما يدعى الكذب من خلال الأسنان، وهي إيماءة تستخدم من قبل نجوم السينما لتصوير عدم الإخلاص.
12- تقطيب الجبهة عند ميليس أثناء كلمة المندوب السوري في الأمم المتحدة، وتكرارها في أكثر من مؤتمر صحفي تشير إلى تدل على التوتر والانزعاج ومحاولة إخفاء القلق.
خاتمة
بعد هذه القراءة التحليلية النفسية الموجزة عن ميليس أترك استخلاص النتيجة ومدى مصداقية ونزاهة هذا المحقق للقارئ، فهل تم اختياره بنزاهة ومصداقية وهل هو موضع ثقة ليضطلع بقضية مؤثرة على سياسة دول ومستقبل علاقاتها؟!. أم تم اختياره بعناية ودقة لهدف محدد من التحقيقات التي يجريها بحيث توجه وتخدم كحلقة في مسلسل الانقلابات الأميركية المخملية في لبنان والمنطقة، ولتحقق التغييرات المبرمجة أميركياً عن طريق ممارسة الضغوط مرفقة بالتهديدات بكافة أشكالها وأنواعها بما فيها استخدام القوة (هذه التهديدات -مع الأسف- نقرأها ونشاهدها يومياً في الكثير من وسائل الإعلام الذي غدا متأمركاً ويتميز بالابتعاد عن أدنى مفاهيم الأدب والأخلاق العربية من حياء وخجل واعتماد مبدأ الكذب) كإشعال الحرب الأهلية في لبنان وسوريا والعراق، أو بتغيير النظام في سوريا، أو بتكليف إسرائيل مهاماً عسكرية في لبنان وسوريا وإيران... وغيرها... وغيرها من التهديدات. فميلس ومن منطلق نفسي بحت لم يعد هو الشخص المناسب (بعد سقوط تقريره بظهور هشام طاهر هشام) في تنفيذ الفخ المعد لتقع فيه سوريا ولبنان بتخطيط إسرائيلي وإشراف أميركي.
* نشرت على الشبكة العربية للعلوم النفسية