مقدّمة
تعتبر منطقة الهلال الخصيب (العراق، سوريا، مصر) بداية لأولى الثقافات والحضارات المتكاملة، والتي شهدت أنظمة سياسيّة عديدة أهمها النموذج الديني السياسي الذي يبدو واضحا بمصر الفرعونيّة. ذلك أن السلطة الدينيّة، عادة ما تنصّب الملك ربا أو وكيلا للرب على العباد، فهو الذي يحمل أدوات المشرّع والمنفّذ والقاضي. ولعل بساطة الحياة أسهمت كثيرا بتسهيل دور "ظل الله" على الأرض، فلا توجد خطط اقتصادية أو سياسات معقدة ولا قرارات وتطلعات محسوبة بدقة. كل ما كان هو التشريع والعيش ضمن التشريع من رعي الموارد الشبه بدائية من تجارة أو فلاحة.
ولعل النظام الخلافي الإسلامي كان جزءً من هذا الموروث الحضاري العام، مع التأكيد على ضرورة دور الخلافة السيادي بعد وفاة رسول الله مُحَمّدْ (صلى الله عليه وسلم) وضرورة الدين الإسلامي لقادة سياسيون ودينيون بصفات محنكة تؤهلهم لرعاية الدولة الإسلاميّة الحديثة. وتمّ هذا المُرام في فترة شملت حكم أربعة من الخلفاء، وامتدت لما يقارب سبعة وعشرين سنة، إذ توطدت الحضارة الإسلاميّة. إلا أنها خسرت الميّزة الشوريّة من جهة أخرى بعد تولي الأمويون السلطة وتحويل منصب "خليفة" لأيقونة سياسية وراثية.
وتلت الحكومة الأموية الدولة العباسيّة، حيث تعتبر أطول الإمبراطوريات عهدا في تأريخنا العربي والإسلامي، التي أسهمت أيضا بتسييس الدين لصالح الحاكم الذي يسعى للحفاظ على عرشه قبل أي مصلحة عامة. أدت هذه السياسة لتوليد أنماط كثيرة من المذاهب والحركات الإسلاميّة، بالإضافة للموروث السياسي العام (المتبع حتى اليوم) بالوصول للسلطة عبر الدين والدعاية الدينية.
واستمرت السيطرة الدينيّة المسيحية حتى العهد العثماني، الذي انهار بعد تحرر أغلب دولنا العربية من سلطته بعام 1916، إلا أن النموذج استمر بعض المناطق التي ستلعب دورا كبيرا بمحاولة إعادة هذا النموذج لواقعنا الشامل، الأمر الذي سيشهد صراعات وحروب كثيرة خلال القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، لاسيما بعد أن تحول هذا الصراع لسمة عالميّة.
وبعد هذا المقدمة التاريخية التي أراها ضروريّة، سأتحدث عن العَلمانيّة ومنشأها وأسبابها، ودورها بمجتمعنا والحاجة لتبنيها والانتقادات بحقها. بالإضافة لتسليطي الأضواء على القوى الفاعلة لإرساء العلمانية والقوى الرافضة والمحاربة لها.
تعتبر العلمانية فكرة أوربيّة المنشأ رغم أنها وردت بالفلسفة الهنديّة القديمة بنحو جوهري، إذ تبلورت في عهد التنوير الأوربي، وكان للفيلسوف الإنجليزي جون لوك دورا بارزا بالتأثير على عقول كثير من الأوربيين لتقبل فكرة العلمانية. العَلمانية عنت "الحكم الدنيوي" غربيّا، وأوردتها الترجمة العربي بالحكم العَلماني، أي ذاك الذي يعني بأمور هذا العالم لا العالم الآخر حيث الجنة والنار. وأعتقد، شخصيّا، بأن الترجمة حرفية جدا ولا تخدم رؤيتنا للعَلمانيّة حقا، لاسيما وأن حرفية الترجمة قد جرّت النقمة العربيّة (شعبيّا) على العلمانية ككل.
عندما أسميت العلمانية بتسميتها أوروبيّا، فإنها عنت أن تشمل قيما لا دينيّة (دنيويّة) وسلطة لا دينيّة أيضا، من منطلق أن لوك قد حاور بأن البشر يولدون سواسية بالحق في الكرامة والمساواة والحرية، وأنهم قادرين على إدارة أنفسهم بالقوانين التي تناسبهم، ووفق نظام سياسي يفصل بين السلطات الكثيرة التي قد تؤدي للاستبداد. انتقلت العلمانية تدريجيا للعالم العربي بعد اكتشاف التراجع الحضاري الإسلامي، الذي عانى نكسة الخمول العثماني ونكسات الهجمات الصليبية والمغوليّة والعثمانيّة والاستعمارية لاحقا.
كانت; المفاجأة مؤلمة للمثقفين العرب، بعد أن اكتشفوا أنه لم يعد هناك ترابط بين عرب العهد العباسي ومسلميه وبين عرب تنتشر بينهم الأميّة والتخلف والتقديس القبائلي لتقاليد قد تكون صحيحة أو لا، وغالبا ما لا تستند أو تعير أدنى أهمية للمنطق. كان التغيير ضروريا، وهكذا بزغ قادة ومثقفين عربا لخدمة هذا الواقع المتحلل ولبث العصريّة والحداثة الإيجابية في المجتمع العربي، الذي انتكس فتحول من مجتمع رائد إلى مجتمع هامشي.
هنا نحن بحاجة لتقسيم النهضة العربية لتيارين هما:
التيار الليبرالي المادي:
"وهذا التيار الذي حاول دفع المجتمع العربي نحو الحداثة الأوربيّة بكامل معاييرها، دون الاهتمام للخصوصية الاجتماعية العربية ومدى تقبلها لهذا اللون الثقافي. ومن أبرز هؤلاء المفكرين هو طه حسين بالإضافة لقاسم أمين ومعروف الرصافي. كانت تطلعاتهم غير مرغوب بها لكونها إلحادية أو مناوئة للمجتمع، وهو الأمر الذي سيضر بسمعة العلمانية لاحقا".
التيار العربي النهضوي:
"هو التيار الذي قرر أن يتعامل مع الحضارة الأوربية بانتقائية تلائم الوضع التاريخي العربي وتخدم مصالح الأمّة العربيّة. أبرز هؤلاء كانوا نخبة من الأدباء والشعراء، ‘انطلاقا من الكاتب مصطفى لطفي المنفلوطي إلى الشاعر محمد مهدي الجواهري ومرورا بمفكرين سياسيين كصلاح البياطر أو ميشيل عفلق. ربما كان هذا التيار سبب الكثير من الوعي العربي والنهضة المحدودة التي أسفرت عن وحدة قصيرة بين سوريا ومصر، إلا أنه تيار تداعى بسنوات لاحقة تحت ضربات العدو الخارجي وتنامي التيار الشيوعي وضده التيار الإسلامي الأصول".
كانت الشيوعية قد انتشرت في المجتمعات العربية، ولصدها فإن الكثير من التيارات الأصولية التكفيرية قد دعمت سعوديا وأمريكيا بغاية القضاء على الفكر الشيوعي، خصوصا وأن شيوعيو ذاك اليوم كانوا ليبراليي الأمس الماديين أو أبنائهم. لقد شمل التكفير كل أنواع العلمنة، واعتبرت الحكومات السعودية المتعاقبة فكرة العلمنة خطرا يهدد مملكتها القائمة مصالحها على النفوذ الديني السياسي، وهكذا بدأت رحلة تدمير وتشويه تعسفي ظالم للفكر العلماني، مؤاخذين كل العلمانيين بأخطاء وتطرف الشيوعيين، الأمر الذي أدى لضياع الفكر العلماني الحق بعد أن تحولت صورة العلماني لذاك الذي يمقت الدين و يعمل على زواله. والواقع، فإن العلمانية لم تُنقل على أيدي; لماديين والملحدين فحسب، بل انتقلت على أيادي كثيرين من الإصلاحيين الذين لم يرفضوا الدين وإنما رفضوا ممارسات لا تمت له بصلة قد ألصقت فيه بسبب التخلف والأميّة.
لا يفوتنا بأن العلمانية الأتاتوركيّة التعسفيّة قد أسهمت كثيرا بتأصيل فكرة خطأ العلمانية في المجتمع العربي، أو ربط العلمانية بالتحلل والإباحة كما يتصور البعض. ليس الأمر هذا أو ذاك، فالعلمانية التي نطالب بها (أو لأقل أطالب بها أنا وحدي إن لم يناصرني أحد) هي تلك العلمانية التي تعنى بالقضايا السياسية أولا. أي يمنع تأسيس أي حزب سياسي ديني أو طائفي، ولكن رجل الدين قادر على الدخول بعالم السياسة تحت اسم حزب قومي أو أيدلوجي ما لم يكن دينيا أو طائفيا. والسبب هو كي يبقى الدين بعيدا عن توجيه الاتهامات ضده بحال حدوث خطأ سياسي ما.
لكن، يمكن للدولة العلمانية أن تستند على الدين بعض قوانينها الاجتماعية والأسريّة، كإسناد الزواج بعقد شرعي يوقع عليه المتزوجان بالمحكمة أو معاينة المستجدات القانونية والدستورية بشيء من الاهتمام للرأي الديني. أي، التواجد الديني مقبول في الأوساط التشريعية لما له من علاقة وثيقة بالمجتمع، ولكنه مرفوض عند الوصول للسلطة التنفيذية أو القضائيّة.
بالجانب الآخر، يحق للأديان أن تؤسس منظمات وروابط وإذاعات للوعظ الديني أو النشاطات الاجتماعية، فهذه الحقوق لا يجب أن تتنافى أو تتضارب مع علمانيّة الدولة السياسية، التي من ورائها يحمى الدين ولكنه لا يُمات. بالتأكيد، هناك علمانيين يطالبون بعزل الدين ومحاربته بكل الأشكال، إلا أن التأريخ علمنا أن الآراء الوسطية هي التي يتقبلها الناس، وأن التطرف لا يجدي فتيلا على المدى الطويل.
واقرأ أيضاً:
نقد الخرافة .. أسطورة الحقبة الأمومية / زواج المتعة.. بين التحريم والتنوير / لم أشتم الدكتور وائل مشاركة / وضع شبابي أن تكون شابا عام 2005