.. في تشخيصنا لظاهرة التكفير طرحتُ من قبل مصطلحا جديدا وهو (القابلية للانصياع)؛ يمكن أن ييسر فهمنا لبعض أبعادها ويعمق سبرنا لأسبابها المحورية، وتعكس (القابلية للانصياع) مستوى استعداد الإنسان لأن (ينقاد) للفكرة التكفيرية ويتأثر بها... وربما يؤمن بلوازمها المنحرفة من أعمال العنف وجرائمه المختلفة، هنالك أربعة أجزاء يمكن أن نفهم مبدئيا من خلالها كيف تتشكل (القابلية للانصياع) لدى هذا الإنسان أو ذاك، فالجزء الأول يعود إلى الإنسان المستهدف (الضحية المحتملة)، والثاني يعود إلى صاحب التكفير الناقل (الجاني المؤكد)، والثالث يعود للفكرة ذاتها وما ينطوي عليها من إشكاليات دينية وسياسية واجتماعية واقتصادية، والرابع يعود إلى الفضاء الثقافي والسياسي والاجتماعي والأوضاع الاقتصادية. هذه الأجزاء الأربعة تتفاعل فيما بينها بطريقة أو بأخرى لتنتج لدينا شرائح تحمل (قابلية للانصياع) للفكر التكفيري الخطير.
ولكي نستوعب بشكل أعمق الأجزاء السابقة لفكرة (القابلية للانصياع) أرى أن تدرس تلك الفكرة في ضوء ما أسميه بـ (التفكير الاستبصاري) الذي يشير إلى ذلك اللون من التفكير الذي يمتلك (قرون استشعار) ويتعامل بحساسية كبيرة تجاه القضايا محل التفكير من خلال معالجة أبعاد (المعادلة الحرجة)، أي أن التفكير الاستبصاري يتلمّس بحواس مرهفة وملاحظات تراكمية الأبعاد الحرجة (أي الأكثر أهميةً وتأثيراً ونتائجَ) عبر عمليات ذهنية تحليلية راقية ذات طبيعة فلسفية توصلنا إلى تحديد تلك العوامل الحرجة وهي: (المكون الحرج) أو (الفعل الحرج) أو (الزمن الحرج) أو (المكان الحرج) أو (الحدث الحرج).
دعونا نضرب لذلك عدة أمثلة ليتضح المقصود من التحليل السابق. والأمثلة نوردها على سبيل الإيضاح للفكرة أكثر من كونها تحليلا دقيقا لأبعادها وكشفا نهائيا عن العوامل المؤثرة فيها.
المثال الأول: من المؤكد أن ظاهرة التكفير والعنف معقدة ويدخل في تشكيلها العديد من المكونات المؤثرة: الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، غير أن (التفكير الاستبصاري) يدعونا لأن نستكشف (المكون الحرج) في زمان ما ومكان ما، إلا أنه يمكن القول: إن (المكون الحرج) لدى عموم أولئك التكفيريين هو (المكون الديني)، وهذا يعني أن (القابلية للانصياع) تتشكل بسبب ذلك المكون أكثر من أي شيء آخر، أكثر من تأثير المكون السياسي، مع أن بعضهم يحاول تضخيم تأثير المكون السياسي لأغراض سياسية في الأغلب، وهذا وذاك له دلالاته الكثيرة في التشخيص والعلاج على حد سواء، فأحد المتورطين بالتكفير والعنف في السعودية يقول:
(الشباب السعودي لا يؤثر عليه إلا من جانب الدين، الجانب الديني دائماً يؤثر عليهم) (المصدر لهذا النص وما يتبعه من نصوص: جريدة الوطن السعودية، 13-1-2004)، ويقول آخر: (فقلت للوالدة أحتاج مبلغ، وين يا وليدي توك جاي - أي للتو عدت - من الجهاد.. قلت أنا بروح للجهاد، أمي عجوزة كبيرة شوي، قالت يا وليدي خلك عندي... والشيخ يقول لي: لا، الجهاد فرض عين عليك، وأمك تأثم، وأنت تأثم بعد، كلكم تأثمون إذا ما رحت، لا والله ما آثم يمه، أجلسي، آسف الدين أولى)، كل ما سبق يأتي في سياق يمارس فيه أصحاب (التكفير الناقل) الترهيب النفسي، حيث يوظفون بشكل سيئ، وماكر بعض القواعد الدينية، كقاعدة:(أن من لم يكّفر أو شك في تكفير من يستحق التكفير فهو كافر)، فهم يتكئون بشكل (ثقيل) على بعض المفردات: (لم يكفر أو شك في تكفير) (فهو كافر) دون أن يتوقفوا كما يجب عند مفردة أساسية في تلك القاعدة وهي (يستحق التكفير)، فهي المحك الرئيسي الذي يمنح للإنسان الصوابية والمشروعية في إنزال حكم التكفير على إنسان أو جماعة معينة بضوابطها وشروطها الصارمة.
وهذا يدفع إلى التساؤل بل والتباحث عن مدى ملائمة أساليب العلماء الشرعيين ومستوى كفاية جهودهم في معالجة هذه القضية من الناحية العلمية بالشرح الكافي والإيضاح التام لضوابطها وشروطها وأنواعها وحالاتها ونحو ذلك، ومن الناحية التربوية أيضاً بالتربية العملية من خلال إيجاد الأساليب والمحاضن التربوية التي تبعد طلاب العلم الصغار عن مواطن التكفير، وتعظم هذه المسألة في نفوسهم، لدرجة توصلهم إلى الامتناع التام عن التكفير للمعينين، مهما بدت لهم الأمور، فهو ليس من شؤونهم، هذا ما يجب أن نسمعه من علمائنا الأجلاء جميعهم، دون مواربة ولا تأخير.
ويدخل في ذلك إعداد أبحاث علمية عن أدبيات الفتوى وصناعتها، فلا يسوغ أن تكون الفتوى بعيدة عن البحث العلمي الجاد بحجة ورودها من العلماء الشرعيين، بل يجب أن تخضع لعملية مراجعة وتقييم مستمرة، سواء في أسلوبها وأحكامها وكيفية تعاطيها مع المصطلحات والقضايا المستجدة وتتبع آثارها وانعكاساتها الفكرية والسلوكية على الفئات المختلفة من المتلقين لها، فضلاً عن مراعاة أسلوب السؤال وما يحيط به من حيثيات وملابسات تختص بالسؤال ومكانه وزمانه وملقيه، ويمكن الإفادة من المنهجية التجريبية في دراسة فتوى واحدة على أكثر من مجموعة أو دراسة أكثر من فتوى على نفس المجموعة.
وهنا أشير إلى الفتوى الأخيرة والمثيرة لفضيلة الشيخ صالح الفوزان، حيث إنها في رأيي لم تعالج القضية محل الفتوى وهي (الليبرالية) بشكل دقيق ومنهجية محكمة، فقد رتبت حكماً دينيا خطيراً (التكفير) على مجرد (توصيف) من المستفتي، فالسؤال يقول -بالنص- (ما قول فضيلتكم في الدعوة إلى الفكر الليبرالي في البلاد الإسلامية؟ وهو الفكر الذي يدعو إلى الحرية التي لا ضابط لها إلا القانون الوضعي، فيساوي بين المسلم والكافر بدعوى التعددية، ويجعل لكل فرد حريته الشخصية التي لا تخضع لقيود الشريعة كما زعموا، ويحاد بعض الأحكام الشرعية التي تناقضه....)، وجاءت الإجابة كما يلي: (فإن المسلم هو المستسلم لله بالتوحيد، المنقاد له بالطاعة، البريء من الشرك وأهله، فالذي يريد الحرية التي لا ضابط لها إلا القانون الوضعي؛ هذا متمرد على شرع الله، يريد حكم الجاهلية، وحكم الطاغوت، فلا يكون مسلمًا، والذي يُنكر ما علم من الدين بالضرورة؛ من الفرق بين المسلم والكافر، ويريد الحرية التي لا تخضع لقيود الشريعة، ويُنكر الأحكام الشرعية؛ من الأحكام الشرعية الخاصة بالمرأة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومشروعية الجهاد في سبيل الله، هذا قد ارتكب عدة نواقض من نواقض الإسلام، نسأل الله العافية. والذي يقول: إنه مسلم ليبرالي متناقض إذا أريد بالليبرالية ما ذُكر، فعليه أن يتوب إلى الله من هذه الأفكار؛ ليكون مسلمًا حقًا).
وقد دافع بعضهم عن هذه الفتوى بعدة حجج، منها أن الشيخ الفوزان استخدم عبارة: (إذا أريد بالليبرالية ما ُذُكر)، وهي عبارة تضبط - في نظرهم - (إنزال الحكم) الوارد في الفتوى، غير أن هذا لا يكفي منهجيا البتة، حيث كان من المفترض أن ينأى بالفتوي الدينية عن (توصيفات شخصية) قد تكون دقيقة، وقد لا تكون لمصطلحات بالغة الإشكالية والتعقيد، وهي مصطلحات يتبناها بعض المسلمين بمعان متعددة، كل ذلك ليربط الأحكام الدينية بحقائق ثابتة لا بمجرد توصيفات أو مقاربات أو حتى مناوشات (إيدولوجية)، خاصة أن مثل تلك الفتاوى يتلقفها العامة ومنهم من يقصر إدراكه عن استيعاب تلك الإشكاليات والتعقيدات، فيحصل اللبس والتخبط، ويضاف إلى ذلك أن عقول بعضهم - ممن يحملون (التكفير الخامل) - تتلبس بقدر كبير من (التحيز) فلا تلتقط عقولهم من السمات والعوامل والأحكام إلا ما يدعم ميولهم واتجاهاتهم المتشددة.
ومما يؤيد التحليل السابق أن فضيلة الشيخ الفوزان اضطر لأن يصدر (بيانا إلحاقيا) حول الفتوى، ومما جاء في البيان ما نصه (وأما العلماني والليبرالي وما أشبههما فهي أسماء جديدة ولكن ليست العبرة بألفاظها وإنما العبرة بمعانيها وما تعبر عنه، فما كان منها يتضمن ما تضمنته الأسماء الشرعية المذكورة فإنه يعطي حكمه الشرعي ومنه الكفر، والكفر قد يكون بالاعتقاد أو القول أو الفعل أو الشك. كما ذكر ذلك أهل العلم في نواقض الإسلام وفي باب حكم المرتد من كتب الفقه. وهناك فرق بين الحكم على الأقوال والأفعال والاعتقادات بصفة عامة، فيقال: من اعتقد أو قال أو فعل كذا وكذا فهو كافر. وبين الحكم على الأشخاص، فما كل من قال أو فعل الكفر فهو كافر حتى تتحقق في حقه شروط وتنتفي موانع) ( جريدة الجزيرة 26-6-2007).
والحقيقة أن الكثير من المعاني التي وردت في هذا البيان (الإلحاقي) كان يتوجب أن تكون منطلقا في صناعة الفتوى الأصلية، فالمتشددون والمتطرفون سيحتفظون بالفتوى وينشرونها ويغيبون البيانات الإلحاقية، لأنها قد تضعف الجرعة التكفيرية التي يرومونها، وهنا تكمن الخطورة ولاسيما مع التأثير الكبير لمثل تلك الفتاوى على الكثير من الشرائح، وتتأكد أهمية مراجعة مدى ملائمة الفتاوى الفردية في قضايا شائكة كهذه، وأخيرا نقرر بأن الفتاوى التي ننشدها يجب أن تسهم في نزع خمائر (القابلية للانصياع) للفكر التكفيري؛ المدمر للحرث الفكري والمدني، والنسل الإنساني!
واقرأ أيضًا:
سخاء على اللهو وبخل على البحث/ مرحلة جديدة في غزو العقل العربي/ لماذا لا نريد أن نفهم؟! / أخطاء منطقية نقع فيها