المرحلة القادمة.. أهداف أمريكية وخيول عربية
لم يعد أصحاب الأقلام بحاجة إلى البحث بين الكلمات وخلف السطور للعثور على ما تعنيه التصريحات والمواقف الرسمية ذات العلاقة بقضايانا، وحاضرها ومستقبلها، وكيفية التعامل بين القوى الدولية والحكومات والشعوب في البلدان العربية والإسلامية، فما يُراد صنعه يُقال هكذا مباشرة بصريح العبارة، وما يستهدفه معلَن جهاراً نهاراً، إنّما لا هذه العلنية السافرة تغييب "غموض مقصود" في ميادين بعينها، حيثما يخدم الغموض ما يُعلن من تلك الأهداف. وهذا ما يسري على جولة الوزيرين الأمريكيين للخارجية والدفاع، (رايس) و(جيتس)، في المنطقة (مطلع آب/ أغسطس 2007م)، بما يجعلها مثالاً نموذجياً.
علنية الأهداف وغموض الوعود
نهج قديم متجدد
تلبية المطالب دون مقابل
ثوابت أمريكية لم تتبدّل
ـ علنيـة الأهداف وغموض الوعود
استخلاصاً مما قيل أمريكياً، تدور الأهداف الرسمية للجولة بإيجاز حول ثلاثة محاور:
ـ تسليح محور عربي بعد وقف مسيرة مزعومة لإصلاح سياسي، لمواجهة خطر إيراني وعربي، وهو أولاً وأخيراً خطر على المطامع الصهيونية والأمريكية وليس على أطراف عربية وإسلامية أخرى.
ـ ثمّ "التطبيع أولاً"، أي قبل إحلال "رؤية" سلام في الأرض الفلسطينية واتفاقات سلام في المنطقة.
ـ ثمّ تجذير عملية "التفتيت" إقليميا وداخل القطر الواحد، وفق أساليب التعامل المعتمدة غربياً والمدعومة إقليمياً، كما هو واضح للعيان في التعامل مع شطرين فلسطينيين، ومع سورية ولبنان، ومع السودان ودارفور، ومع المغرب والجزائر، كأمثلة.
أمّا "الغموض المقصود" فيظهر في القاسم المشترك للتصريحات والمواقف في مختلف محطات الجولة محيطاً بأغراض "مؤتمر السلام"، وهذا بالذات ما تطرحه الأطراف العربية في هذه الأثناء، وبدأت عمليات تسويقه، وكأنّه يُمثل "العطاء الأمريكي" الجديد المنتظر منذ زمن بعيد. صورة متطابقة مع ما جرى تصويره بصدد "مؤتمر مدريد" عندما طُرحت "رؤية" (بوش) الأب حوله أثناء الإعداد للحرب الأولى لتدمير العراق أو "حرب الخليج الثانية"، ثمّ انعقد المؤتمر وتمخّض عن المسيرة التي أوصلت في المرحلة التالية إلى احتلال العراق وتدميره، وإلى مزيد من الاغتصاب والتقتيل والتدمير في فلسطين أيضاً.
ـ نهج قديم متجدد
إنّ ما لا لبس فيه ولا غموض يتمثّل في الهدف الأهمّ في الجولة الوزارية الأمريكية، وفي المرحلة التالية للسياسة الأمريكية تجاه المنطقة، وهو تفتيتها، وتحويل محاور المواجهات السياسية فيها إلى محاور اقتتال عسكري، أو ـفي أدنى الاحتمالاتـ نشر أجواء التهديدات العسكرية، وممارسة سباق تسلّح محموم، يُغمض عيناً عمّا يصنعه بنو صهيون، ويُسلّط أضواء كاشفة على ما يصنعه ولا يصنعه، ويُريده ولا يُريده أطراف إقليميون آخرون، من الدول العربية والإسلامية، فضلاً عن المقاومة.
من العسير استيعاب ما يقول به وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط وهو ينكر أن يُسبّب توريد مزيد من السلاح الأمريكي إلى مصر انشقاقات إقليمية قائلاً "إنّ المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر قائمة منذ 25 عاماً"، وهذه مقولة تفقد مغزاها عندما نضع كلماتها مقابل كلمات الساسة الأمريكيين، ابتداء برئيسهم (بوش) الابن الذي علّل صفقات السلاح الجديدة بالقول: "إن تسـليح دول عربيـة معتدلـة يسـتهدف إيجاد ما يوازن ازدياد نفوذ إيران الإقليمي".
ثم كلمات وزيرة خارجيته (رايس) قبل بدء جولتها مباشرة، إنّ مشـاريع التسـلّح "موجّهـة ضدّ النفوذ السـلبي المتزايد للقاعدة وحزب الله وسـوريـة وإيران.. نُريد دعم القوى المعتدلـة ودعم اسـتراتيجيـة واسـعـة النطاق ضدّ القاعدة وحزب الله وسـورية وإيران". وقولها أيضاً: "إنّ لنا أهدافاً متماثلـة في المنطقـة، وينطوي ذلك على الاقتناع القوي بأنّ إيران تُمثّل التهديد الأكبر لمصالحنا المشـتركـة".
وقول وزير الدفاع (جيتس): "نريد أن نضمن أمن حلفائنا منذ سـنين عديدة في المنطقـة."
ولئن أرادت الأطراف العربية فهم شيء آخر أو أرادت تسويق شيء آخر على المستوى العربي، غير الأهداف المعلن عنها أمريكياً، فإنّ الغربيين يرونها كما هي، سواء كانوا ساسة أو خبراء، وكانوا أقرب إلى التنصّل من سياسات واشنطن، أو هم من حلفائها الأساسيين، ومثال على ذلك الساسة والخبراء في ألمانيا، فنجد وزير الخارجية الألماني الأسبق (هانس دييتريش جنشر) يتهم الولايات المتحدة الأمريكية بسياسة تسليح في المنطقة من شأنها أن "تزيد من صعوبـة التوصل إلى حل للمشـكلـة الأسـاسـيـة وهي مشكلـة الصراع الفلسـطيني ـ (الإسـرائيلي)"، بل رأى في الخطط الأمريكيـة ما "يوجد مزيداً من المشـكلات في العلاقـة عبر شـمال الأطلسـي".
حتى (كارتن فويجت)، الذي يحمل في الأصل مهمّة التنسيق لشؤون علاقات حكومة برلين مع واشنطن، كان عاجزاً عن مراعاة الاعتبارات الدبلوماسية وهو يقول إنّ "المنطقـة لا ينقصها السـلاح بل ينقصها الاسـتقرار" ثمّ يُضيف مؤكّدا وجود "تناقض بين الحديث الدعائي عن الحريات حتى الآن وبين الممارسـات الأمريكيـة الحاليـة".
ولئن كان الاتحاد المسيحي والديمقراطيون الأحرار هم الحلفاء لواشنطن أكثر من سواهم في ألمانيا، فعلاقـة التحالف لم تمنع من رؤيـة الأهداف الأمريكيـة وما تؤدّي إليـه في المنطقـة بوضوح، والتصريح بذلك علناً، على لسان رئيس لجنة الشؤون الخارجية في المجلس النيابي الاتحادي في برلين (روبريخت بولينس)، وهو من الحزب المسيحي الديمقراطي، إذ يقول "عندما يُلقي المرء بمواد قابلـة للاشتعال في منطقـة تغلي كبرميل البارود فهو يزيد من حجم الخطر فيها ولا يزيد من أمنها شـيئاً"، أو على لسان (فيرنر هوير) من حزب الديمقراطيين الأحرار وهو يصف الصيغة الأمريكية الجديدة بأنّها "صورة بدائيـة للسـياسـة الواقعيـة". وشبيه ذلك ما يقول به الخبير (فولكر بيرث)، مدير معهد العلوم والسياسة، الذي رأى في الخطوة الأمريكية الجديدة تحوّلاً من نهج يقول بنشر الديمقراطية من أجل السلام، إلى النهج التقليدي القديم لواشنطن.
إنّ النهج التقليدي القديم هو من قبيل ما كان مع تسليح إيران الشاه، لتكون منطقة الخليج مرتبطة بالسياسة الأمريكية دعماً لأحد الأطراف، ثمّ تصوير المصير الأمني للأطراف الأخرى معلقاً بمدى ارتباطها بالإرادة العسكرية والسياسية الأمريكية، وهو أيضاً من قبيل ما كان من تسليح العراق في حرب دامت 8 أعوام ضد إيران بعد ثورتها، لتنقلب السياسة الأمريكية والغربية ضدّ العراق وتجرّ معها دول المنطقة، إلى المشاركة المباشرة وغير المباشرة في الحرب والتدمير.
ـ تلبيـة المطالب دون مقابل
النهج التقليدي القديم هو أيضاً نهج المحاور المتصارعة من عهد "حلف بغداد"، أو "الحلف المركزي" لاحقاً، لمواجهة النفوذ القومي العربي في مصر وسورية آنذاك، بينما أصبحت مصر اليوم مستهدفة عبر ما يُصنع ويُراد صنعه في السودان والصومال، وفي الوقت نفسه الدولة التي يأتي تسليحها مقترناً بالإعلان عن هدف مواجهة "محور" آخر في المنطقة يضمّ سورية.
إنّ من ضرورات سياسة الهيمنة ألا تنقطع المحاولات بعد إخفاق بعضها من قبل، ولكن ليس من ضرورات الدول المستهدفة بتلك الهيمنة أن تعود إلى نهج قديم ولا أن تمضي مع نهج جديد، إذا استهدف إحداها فسوف يستهدف الأخرى لاحقاً، فذاك ما يعني الوقوع في الجحر الأمريكي مرة بعد مرة بعد مرة.
وممّا يُضاعف درجة الاستغراب من مثل تلك السياسة، إن صحّ وصفها بالسياسة، أنّ ما يجري تصويره بأنّه ثمن تدفعه واشنطن في فلسطين، لقاء فتح جبهة ما ضدّ أطراف عربية وإسلامية أخرى، سبق تصوير مثيله في حالات سابقة مراراً، وتبيّن فيه حجم الخداع السياسي إلى درجة لا تُخفى على أحد، من العامّة والخاصّة، في عالم السياسة وخارجه.
إنّ كلّ عبارة صدرت في أي تصريح رسمي قبل الجولة وأثناءها تتعلّق بالقضية المركزية المحورية في المنطقة، وتستهدف إعطاء شكل ما من الأشكال المجدية لـ "مؤتمر السلام" الذي أعلن هدفاً جديداً، وكلّ موقف رسمي في واشنطن نفسها وفي محطات الجولة الإقليمية، لم يكن يتعدّى في أي جانب من الجوانب الضبابية التي أحاطت برؤية الدولة الفلسطينية على لسان (بوش) قبل سنوات مع حرب احتلال العراق.
(رايـس)، التي اسـتقبلها من اسـتقبلها من الزعماء العرب على مختلف المسـتويات، لم تذكر كلمـة واحدة عن انسـحاب عسـكري للكيان الصهيوني، أو وقف للعدوان الصهيوني، أو حدود دوليـة ما، حتى بمفهوم قرارات جائرة سـابقـة، ناهيك عن ذكر مدينة القدس، أو اللاجئين، أو حتى المسـتوطنات، بل كانت تصريحاتها حافلـة بعبارات وألفاظ مائعـة فضفاضـة، من قبيل "ضرورة التوصل إلى شـيء ملموس"، وضرورة "التفاوض" على مبادئ لتأسـيـس الدولـة، ولم تكن فضفاضـة في بيان ما تُريده من أن يكون "التطبيع أولا"، وهي تكّد مرة بعد أخرى مع الصهاينـة وتجاه الأطراف العربيـة، ضرورة حضور "المعتدلين" للمؤتمر، وإقصاء كلّ من لا يكون "معتدلا"، أي لا يكون النهج الأمريكي في صلب سـياسـتـه، ليـس عن المؤتمر، فهم لا يطلبونـه أصلاً، بل عن مجرد التواصل معهم.
حتى الإجراءات ذات الطابع العملي، اتخذت صيغة تعميق الشرخ الفلسطيني الذي صنعته سياسات وإجراءات سابقة، فكان الإعلان عن تقديم 80 مليون دولار لدعم تطوير الأجهزة الأمنية التابعة للرئيس محمود عباس في الضفة الغربية، وكأنّ تشكيلها ثم دعمها ثم ممارساتها طوال سنوات أوسلو قرّبت مشروع الدولة خطوة واحدة، أو أوصلت إلى مجرّد استثنائها هي من حملات التقتيل والتدمير الهمجية الصهيونية طوال تلك السنوات.
ـ ثوابت أمريكيـة لم تتبدّل
من العبث البحث في تفاصيل ما أُعلن قبل الجولة وبعدها، لطرح السؤال عمّا يُمكن الحصول عليه مقابل تجنيد عدد من الدول العربية لتشكيل محورٍ جديدٍ يحصل على أسلحة أمريكية لا يجوز استخدامها ضدّ العدو الصهيوني، مع مدّه بمزيد من السلاح الأمريكي، بما يبلغ مائة وخمسين في المائة بالمقارنة مع ما تحصل عليه 8 دول عربية "معتدلة" معاً، هذا إذا حصلت على ذلك فعلاً، وهو سؤال غير مطروح بشأن حصول الصهاينة على ما يوعدون به.
والاستغراق في التفاصيل من شأنه أن يكشف عن جانب من جوانب الخطط الأمريكية للمرحلة القادمة، ولكن لا يحتاج الأمر إلى بحث في التفاصيل إذا أراد تثبيت معالم الصورة ليصل إلى النتيجة نفسها، فالسـياسـات الأمريكيـة لا تقوم على ردود أفعال وقتيـة، ولا على إحداث تغيير آني الآن، يليـه آخر لاحقاً، بل تقوم على صيغـة اسـتراتيجيـة طويلـة الأمد، تتبدّل الحكومات ولا تتبدّل، ولئن دخلت عليها تعديلات ما فهي ممّا لا يقع إلا مع تطوّرات عالميـة كبرى، مثل نهاية الحرب الباردة، ومنذ ذك الحين تسري على المنطقة العربية والإسلامية صيغة أمريكية ثابتة، من محاورها ذاك الذي يظهر للعيان فيما طرحته الجولة الأخيرة.
إنّ الارتباط الاندماجي الصهيوأمريكي هو من ثوابت الاسـتراتيجيات الأمريكيـة في الماضي والحاضر، وفي المسـتقبل المنظور، وهو ارتباط يُترجمـه بذل كلّ ما يُمكن بذلـه من أجل الحفاظ على هوّةٍ عسـكريـة عميقـة مع الأطراف العربيـة الإقليميـة منفردة ومجتمعـة، كما أنّه ارتباط تُترجمه ممارسـات مباشـرة، مثل الإنفراد بطرف عربي بعد آخر، وتهويد الأرض الفلسـطينيـة قطعـة بعد قطعـة، وتفتيت الشـعب الفلسـطيني ما بين مشـرّد ومقاوم ومعتقل ومحاصر. ومن العبث تصوّر صدور دعوة عن الطرف الأمريكي إلى أي مؤتمر، أو تصدر خطوة من خطوات "التعاون" الثنائيـة أو الجماعيـة مع أطراف عربيـة، وفيها تناقض ما مع ذلك الثابت الاسـتراتيجي في السـياسـات الأمريكيـة.
إن أي وهم يُنشر تحت عنوان "مؤتمر سلام" جديد لا يختلف عن أوهام سابقة، ولا تختلف نتائجه المدمرة عمّا سبق أيضاً. وإنّ حصيلة كلّ محور وخطوة عداء جديدة يجري ترسيخه أو ممارستها ما بين الدول العربية والإسلامية، تُضاف إلى ما سبقها وتزيد أسباب الفرقة والتخلّف والعجز.
وليس من مخرج من هذه الدوامة بحلقاتها المتتابعة سوى طريق الصمود والمقاومة، وقد بدأت مع احتضانها شعبياً تطرح معالم البديل المطلوب والممكن، في التعامل مع مختلف المخططات العدوانية تجاه المنطقة.
موقع: مداد القلم