قليلا ما يفكر أحد في الفلاح المصري وماذا جرى له من تحولات بسبب الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ربما لأن من يكتبون أغلبهم يعيشون في المدينة، وحتى لو كانت أصولهم قروية إلا أن علاقتهم بالقرية وبأهلها اقتصرت على زيارات عارضة أو موسمية لحضور فرح أو عزاء أو عيد، وسرعان ما يعودون إلى مدينتهم وهم يحمدون الله على النعمة التي هم فيها وينسون الموضوع برمته بقصد أو بغير قصد. وحتى في الأعمال الدرامية لا يظهر الفلاح الحقيقي غالبا وإنما يظهر فلاح تخيلي ذو صورة نمطية يعيش في رأس المؤلف وتفصله مسافات شاسعة عن الفلاح الحقيقي.
ويخطئ من يظن أنك لكي ترى الفلاح فلابد أن تذهب إلى القرية، فالقرية وإن كانت هي الموطن الأصلي للفلاح إلا أنها أصبحت بيئة طاردة له إلى المدينة في داخل مصر وخارجها، فأصبح الفلاح يظهر في كل مكان وبكثافة يحمل معه كل موروثه القروي بعدما أضيف إليه من تعديلات أو تشوهات، وهذه الصورة لا تغري أحدا بتأمله وإنما يكتفي بتسخيره (أو استخدامه) لأداء بعض المهام المطلوبة لساكني المدن.
والفلاح المصري ليست له إرادة سياسية تغري أصحاب القرار بالاقتراب منه ودراسة أحواله ورصد تغيراته، وليس له ثقل اجتماعي يغري الباحثين بالتعمق في أحواله وتحليل جوانب حياته، ولهذا بقي هو وبقيت القرية المصرية منطقة غائمة في الوعي العام.
وهناك مثل شعبي شديد القسوة يصور هذا الموقف بقوله: "الفلاح ريحته زفره". وقديما كان الباشا التركي المتعالي والمتغطرس يصف المصري عموما بأنه "فلاح خرسيس"، حتى ولو كان ذلك المصري زعيما شعبيا بحجم أحمد عرابي. وليس فقط الباشا التركي هو الذي يستخدم لفظ الفلاح بهذا الشكل السلبي وإنما اعتاد المصريون أنفسهم أن يستخدموه كأداة سب وتحقير في حوارهم اليومي. ولم يظهر الفلاح في صورة إيجابية حقيقية إلا فترة قصيرة في بدايات ثورة يوليو وهو يسلم على الزعيم عبد الناصر ويتسلم منه عقد ملكية الأرض الجديدة التي اقتطعتها الثورة ممن أسمتهم إقطاعيين في ذلك الوقت.
العلاقة بالأرض:
كانت هناك أورجوزة في التراث الشعبي وردت في أوبريت غنائي إذاعي شهير هو "عواد باع أرضه" وكلمات الأورجوزة تقول:
عواد باع أرضه
يا ولاد
شوفوا طوله وعرضه
يا ولاد
يا ولاد غنوا له
يا ولاد
على عرضه وطوله
يا ولاد
كان الارتباط بالأرض قيمة بل كان طين الأرض نفسه قيمة ورائحته قيمة، بحيث أن التفريط في أي شيء من ذلك يساوي التفريط في الشرف والكرامة، وكان الفلاح يأنف من بيع أرضه ويجده عيبا يستحق الخجل والتواري من الناس كما يتضح في الأورجوزة السابقة.
والآن لم تعد للأرض نفس القيمة والقدسية عند الفلاح المصري فبيعها لم يعد عيبا كما كان، وتجريفها وتبويرها والبناء فوقها أصبح شيئا مستحبا بل مرغوبا بشدة لديه. وربما يرجع ذلك لأن الأرض لم تعد تستر الفلاح أو تسد احتياجاته، فقد تفتت الملكية الزراعية مع توارثها جيلا بعد جيل، ولم تتوسع رقعتها لتواكب الزيادة السكانية، ومن المعروف أن العائد الزراعي أبطأ وأقل من العائد الصناعي أو التجاري، ولكي تتوازى هذه العوائد أو حتى تقترب من بعضها لابد من وجود مساحة أرض زراعية واسعة، وهذا ما لم يحدث لأسباب كثيرة بالشكل المناسب والمتناسب مع أعداد الفلاحين ؛
لذلك ارتبطت مهنة الفلاحة بالشقاء والفقر والحاجة والوضع الاجتماعي الأدنى، ولهذا وجدنا الفلاح يكره أن يورث مهنته لأبنائه لذلك يسعى بكل يملك لتعليمهم حتى يلتحقوا بوظائف حكومية أو غير حكومية أو صنعة من الصنائع تبعدهم عن مهنة الفلاحة والزراعة، وهو لا يرضى لأحد أبنائه بالبقاء معه في الأرض إلا مضطرا، وكأن الفلاحة أصبحت مهنة اضطرارية يلجأ إليها من فشل في التعليم وفشل في التجارة وفشل في أن يتعلم صنعة معينة، وهكذا يتم تجريف هذه المهنة العظيمة من النابغين والنابهين، وتكون النظرة إلى الفلاح نظرة دونية لا تشجع أحدا على أن يكون فلاحا، على الرغم من عظمة هذه المهنة وأهميتها.
وعلى الرغم من قدم الزراعة والفلاحة في مصر أكثر من أي بلد آخر إلا أن تطور هذه المهنة قد توقف في مصر فما زالت هي هي نفس الأساليب المتبعة من أيام الفراعنة وما زالت هي هي نفس الوسائل البدائية وقطع الأرض الصغيرة التي لا تتجاوز عدة أفدنة بل قد تقاس بالقراريط في كثير من الأحيان، وما زالت سلعة الفلاح تشترى بأسعار زهيدة. كل هذا يكمن وراء ضعف انتماء الفلاح المصري لأرضه وضعف تمسكه بها، ورغبته في هجرها.
وهذه العلاقة الفاترة أو السلبية بالأرض ربما تكمن وراء الرغبة المحمومة لدى كثير من الفلاحين لتبوير أرضهم وتحويلها إلى أرض بناء تدر عليهم ربحا سريعا، وربما تكمن أيضا وراء التراخي في استصلاح الأراضي المتاحة في الصحراء والصبر عليها حتى تصبح صالحة للزراعة.
تآكل الأسرة الممتدة:
كانت الأسرة الممتدة من خصائص المجتمع القروي، وهي الأسرة التي تضم ثلاث أجيال يعيشون في بيت العائلة الكبير: الجد (والجدة)، الأبناء (والبنات)، ثم الأحفاد. ومع التغيرات الاقتصادية والاجتماعية قل عدد الأسر الممتدة وتزايد عدد الأسر النووية الصغيرة (الأب والأم والأبناء) يعيشون في شقة صغيرة أو بيت صغير. وقد تظل الأسرة الصغيرة على اتصال يومي بالأسرة الكبيرة ولكنه في الغالب اتصال وظيفي وليس اتصالا عضويا.
وقد أثر هذا على علاقة الأبناء والأحفاد بجيل الأجداد فلم تعد كلمة الكبير لها نفس المكانة كما كان في الماضي حين كان الكبير يملك الأرض والبيت ومن فيهما، وأصبحت الروح الفردية أكثر شيوعا فكل إنسان يحاول أن يدير حياته كما يريد ويرى، والجيل القديم يقاوم هذه النزعة الفردية ويحاول قدر استطاعته الإبقاء على حالة الوصاية القديمة والتي كانت سائدة في عهدهم، وقد أدى هذا إلى صراع بين الأجيال يبدو أكثر حدة في هذه الأيام.
وفكرة غياب الكبير انتقلت إلى المستويات السلطوية والاجتماعية فلم يعد للعمدة أو شيخ الخفراء أو شيخ البلد نفس التقدير، بل كثيرا ما تتعرض هذه الرموز للسخرية والاستهزاء بشكل مباشر أو غير مباشر. ولم تعد لدى الفلاح المصري رغبة في إنجاب عدد كثير من الأولاد، ولم تعد فكرة العزوة تراوده بنفس الدرجة التي كانت موجودة لدى الآباء والأجداد، فهو الآن يعلي من قيمة الثروة وقوة المال والنفوذ الوظيفي.
الهجرة إلى المدينة:
حين ضاقت الرقعة الزراعية وافتقرت أو أفقرت أصبح أحد أحلام الفلاح المصري الهجرة إلى المدينة حيث أحلام الثروة والحياة المدنية الحديثة، وحين ذهب إلى المدينة نقل إليها خصائص الحياة الزراعية فبنى العشوائيات، وأضفى ذوقه الريفي على المساحة التي يشغلها، ونقل أخلاقيات المجتمع الزراعي إلى المدينة كالبطء والتراخي والإحساس الممتد بالزمن، وعدم تقدير أهمية المواعيد، وعدم تحري الدقة، وضعف الاهتمام ببروتوكولات العلاقات الاجتماعية. وقد أثر هذا تأثيرا سلبيا على مجتمع المدينة، ذلك المجتمع الذي يحتاج إلى خصائص نفسية واجتماعية تناسب سرعة الحياة ومتطلبات الدقة فيها، ومراعاة مستويات أعلى من الذوق العام في الأماكن ذات الطابع السياحي أو الجمالي، وتقدير احتياجات المجتمع الصناعي من الدقة والسرعة واحترام الوقت.
السفر إلى الخارج:
كان معروفا عن الفلاح المصري ارتباطه الشديد بأرضه وقر يته وعزوته وقد ظل على هذا الحال قرونا طويلة على الرغم مما كان يمر به من مشكلات فقر واحتياج، ولكن حدث في النصف قرن الأخير تغير ملحوظ حيث بدا السفر إلى الخارج حلما يداعب خياله، ويسعى إليه بكل ما أوتي من قوة، وإذا نجح في السفر فإنه يقضي سنوات طويلة هناك، ويأتي لزيارة أهله لمدة شهر أو شهرين كل عام أو عامين، وتصبح علاقته بزوجته وبأولاده علاقة موسمية مؤقتة وعلاقة تمويل أكثر منها علاقة أسرية متينة.
ويفسر البعض إقبال الفلاح المصري على السفر بهذا الشغف إلى ما تعرض له من إغراء استهلاكي عن طريق وسائل الإعلام حيث نقلت له أنماطا من الحياة الرغدة المرفهة في مجتمعات أخرى لم يألفها من قبل، وفتحت شهيته للتطلع إلى مثل هذه الأنماط المعيشية ما دام ذلك ممكنا. وفي بعض الإحصائيات تبين أن 20% من الأسر المصرية بلا أب نظرا لسفره بالخارج. ومن الناحية النفسية والاجتماعية فقد أثر ذلك الوضع كثيرا على بنية الأسرة، فالزوجة محرومة من حقوقها الزوجية الطبيعية، وهذا يجعلها في حالة غير سوية في الأغلب حتى وإن تظاهرت بالسواء، والزوج كذلك، والأولاد والبنات فقدوا صورة الأب، تلك الصورة الهامة تربويا ونفسيا لهم، وبهذا تغيرت التركيبة النفسية والقيمية لهذا الجيل فلم يعد منتميا للأب أو متأثرا به، فصورة الأب لديه باهتة أو منقوصة أو منعدمة. والأم تورطت في دور مزدوج (أب وأم) تحاول القيام به فيرهقها ويفقدها أنوثتها الطبيعية خاصة حين تحاول أن تستلهم الصفات الرجولية لكي تسيطر على أبنائها الذكور الذين دخلوا في مراحل المراهقة أو الشباب، وهي تشعر بعدم الأمان وتشعر بالخوف من الفشل في القيام بمهمتها فتبالغ في حماية أبنائها أو السيطرة عليهم، فيواجهون هم ذلك بالعناد والتمرد.
والأب يشعر بالذنب والتقصير تجاه زوجته وأبنائه فيحاول تعويضهم ماديا بإغداق الإنفاق وكثرة الهدايا (قدر استطاعته) وتلبية طلباتهم بشكل فوري وهو لا يعلم أن ذلك في النهاية يفسدهم لأنه يفتح شهيتهم الإستهلاكية الاعتمادية، ويعودهم على الأخذ الدائم، ويعطل لديهم قيم العمل والاجتهاد والعطاء والسعي وراء الاحتياجات.
وعلى الجانب الاجتماعي نرى الفلاح المسافر يعلو ببنائه على جاره المقيم ويتباهى بما حققه من ثروة (أو تتباهى أسرته) ويثير روح المنافسة أو الحقد لدى من لم يسافر، ونتيجة هذا حالة من عدم التوازن الاجتماعي ربما تصل إلى نوع من الطبقية تدفع المقيم إلى السفر أو إلى تحقيق الثروة بأية طريقة لكي يلحق بمستوى من سافروا.
وعلى الجانب الثقافي والديني فإن من سافروا قد عادوا بقيم البلاد التي سافروا إليها وثقافتها وحاولوا نقلها إلى مجتمعهم الريفي فحدث تغير نوعي في التركيبة الدينية والثقافية في الريف المصري.
النمط المعماري:
اختفى النمط المعماري المميز للقرية (البيوت المبنية من الطين ذات الطابق الواحد أو الطابقين على الأكثر والتي تحوي غرفا صغيرة وحظيرة للحيوانات ثم حظيرة للطيور)، وحل محلها مبان بالطوب الأحمر ذات طوابق متعددة وليس لها أي نمط مميز بل هي تبنى كيفما اتفق، ولذلك أصبح شكل القرية عشوائيا يحوي بعض البيوت القديمة الطينية مع الكثير من الكتل الأسمنتية والطوب الأحمر الذي يخلو من البساطة والجمال، وبجانب هذا بعض البيوت الفارهة على نمط المدينة، وكل هذا يشكل مسخا لا ينتمي إلى القرية أو إلى المدينة، وربما هذا المسخ المعماري يقابله مسخا ثقافيا وأخلاقيا في نفوس الناس فلاهم ينتمون إلى قيم القرية ولا هم استوعبوا قيم المدينة.
الإنتاج الغذائي:
كان الفلاح المصري فيما مضى ينتج غذاءه من أرضه ومن حظيرة مواشيه وكانت زوجته تقوم على تربية الدواجن التي تغطي احتياجات البيت من اللحوم. ففي البيت القمح والأرز واللبن والبطاطس والكوسة والبامية والملوخية، وكلها أشياء منتجة محليا، أما الآن فهو يشتري الخبز من الفرن أو من محلات البقالة، وقد عزفت زوجته عن "الخبيز" وعزفت عن تربية الدواجن، وعزف هو عن تربية المواشي (ربما لغلاء تكلفة هذه التربية على المستوى الفردي)، وأصبح الفلاح مطالب بشراء الكثير مما يأكله. وبما أن دخل الزراعة ضعيف مقارنة بدخل الصناعة أو التجارة لذلك وجد الفلاح نفسه متأزما أمام احتياجات غذائية لا يملك القدرة عليها، خاصة مع تقلص الرقعة الزراعية بشكل مستمر بسبب البناء عليها أو تبويرها أو تجزئتها بالميراث.
ولم يعد في كثير من البيوت فرنا تقليديا كما كان واستبدل ذلك بفرن البوتاجاز، وكان هذا وراء الاستغناء عن قش الأرز كوقود تقليدي، واستتبع هذا حرقه في الحقول مع ما تخلف عنه من خلق سحابة سوداء ودرجة عالية من التلوث في القرية والمدن المجاورة لها.
أخلاقيات القرية:
تغيرت كثيرا أخلاقيات القرية فتقلصت روح العائلة الواحدة واتسعت مساحة الفردية، وانسحبت الكثير من قيم المروءة والشهامة والنجدة وحلت محلها قيم أنانية ونفعية، ولم تعد الغيرة على العرض والشرف بنفس الدرجة فأصبح الفلاح يتقبل أشياء وسلوكيات من أبنائه وبناته لم يكن يتقبلها من قبل، وأصبحنا نرى ونسمع عن العلاقات العاطفية المتعددة والمفتوحة في المجتمع القروي، وعن حالات حمل غير شرعي بنسب ليست قليلة، وانتشر تعاطي المخدرات بأنواعها، وكثر عدد المقاهي، ومحلات الإنترنت، واختفت الأزياء الريفية وظهر خليط من الأزياء المدنية المختلطة ببعض اللمسات الريفية. ولم يعد احترام الكبير قائما، واهتزت صورة الزوج فلم يعد يحظى بنفس التقدير العالي كما كان وأصبحت المرأة قادرة على أن تعنفه وتلومه وأحيانا تضربه، ولم يعد المراهقون والشباب يطيعون أوامر الآباء والأمهات بل أصبحوا مصرين على خياراتهم ورؤاهم الشخصية بشكل أكثر وضوحا وجرأة.
حالة التدين:
كان يغلب على أهل القرى نوع من التدين البسيط حيث كان المسجد يتوسط القرية ويشكل مركزا جغرافيا وروحيا لأهلها، والناس يبدؤون يومهم بصلاة الفجر وينهونه بصلاة العشاء، وتسري في حياتهم روح دينية مبسطة وبسيطة، وأحيانا يغلب عليها الطابع الصوفي المشبع بالرضا والتسليم والمتمثل في انتشار الموالد والأضرحة والتبرك بالأولياء. ولم يخلو التدين القروي من بعض المعتقدات الأسطورية والمبالغة في تأثير الجن والسحر والحسد في حياتهم.
وفي النصف قرن الأخير بدأ التدين يأخذ منحى آخر حيث نشطت الجمعيات والجماعات الدينية في مجتمع القرية فتغيرت مفاهيم وطقوس دينية كثيرة طبقا لتفسير الجمعية أو الجماعة للدين، ونشأت خلافات عميقة وحالات استقطاب بين أنصار الجمعيات والجماعات الدينية المختلفة، وتوارت الطقوس والمظاهر الصوفية. ومن أشهر الجمعيات والجماعات المؤثرة على الجانب الديني في القرية نجد الجمعية الشرعية والإخوان المسلمين وجماعة أنصار السنة ثم التبليغ والدعوة.
وفي الوقت الحالي تحتل جماعة أنصار السنة بمنهجها السلفي مساحة واسعة في التأثير، وهو ما نلحظه من انتشار اللحى الطويلة والثياب القصيرة للرجال والنقاب للنساء، والاهتمام بالعودة إلى نمط حياة السلف بكل تفاصيله. وقد تقبل مجتمع القرية هذه المفاهيم نظرا لقرب عهده النسبي بها ونظرا لجذوره المحافظة التي يحاول العودة إليها لحمايته من غزو القيم الحياتية الجديدة الواردة إليه عبر الفضائيات والإنترنت وعبر أبنائه العائدين من الخارج. يضاف إلى ذلك كثرة عدد الريفيين الذين سافروا إلى الخليج حيث يسود هناك المذهب السلفي، وقد تأثروا به وتوحدوا معه، وربما ربطوا بينه وبين الثروة والرفاهية والحياة الرغدة، أو نظروا إليه من موقعهم الأدنى فتوحدوا معه على أنه الأقوى والأفضل .
مجتمع القرية والشاشة:
لقد أحدثت الشاشة بكل تنويعاتها (التليفزيون والكومبيوتر والموبايل) تغيرات نوعية في المجتمع الريفي، فالفلاح يجلس أمام التليفزيون لوقت متأخر فلا يتمكن من الاستيقاظ مبكرا كما كان، وقد انفتح عقله على عوالم جديدة يراها أمام عينه فترفع من مستوى طموحه وربما مستوى شراهته الاستهلاكية، وقد أدى هذا إلى تقلص حالة الرضا التي كان يتسم بها الفلاح والتي كانت سمة مميزة له فلم يعد الآن راضيا أو قانعا. وغيرت شاشة التليفزيون وشاشة الكومبيوتر والإنترنت من قيم الفلاح حيث انفتحت عينه على الكثير من المحظورات والمحرمات، واتسعت مساحة رؤيته في المناطق الإيجابية والسلبية على السواء، ولكن هذا أحدث شرخا هائلا بداخله، حيث يرى هذا العالم الواسع الذي يعد بالثروة والمتعة وفي ذات الوقت حين يغلق الشاشة يصحو على واقعه الفقير المؤلم.
وهذه الشاشات قد أثرت على القدرة الإنتاجية للفلاح المصري تأثيرا سلبيا حيث استنزفت جزءا كبيرا من قوته وطاقته (بالسهر أمام التليفزيون والإنترنت) وماله (من خلال الإنفاق المتزايد على التليفون المحمول).
وحين تزور قرية مصرية تفاجأ باختفاء مخازن الغلال التي كانت تعلو السطوح بشكلها المميز، وقد حل محلها أعداد هائلة من أطباق الفضائيات، وهذا يعني الانتقال من الإنتاج والتخزين إلى السهر والرفاهية. وثمة صورة كاريكاتورية تراها الآن كثيرا في القرية في شكل فلاح يمتطي حماره ويتحدث في تليفونه المحمول إلى زوجته الجالسة أمام التليفزيون أو إلى ابنه الجالس في مقهى الإنترنت حيث يقضي معظم وقته.
الطقوس الاجتماعية:
مر زمن طويل على القرية المصرية اتسمت فيه بالبساطة في طقوس الأفراح والمآتم، أما في السنوات الأخيرة فثمة سباق محموم في التظاهر والتفاخر في مثل هذه المناسبات، حيث المبالغة في تجهيز أساس العروسين بما يتجاوز بكثير قدرة ألأسرتين، والمبالغة المستفزة أحيانا في طقوس الأفراح بإقامتها في قاعات النوادي وبتكلفة هائلة نسبيا (بدلا من إقامتها قبل ذلك في البيت أو في الشارع بتكلفة بسيطة).
وفي بعض القرى تقام وليمة ضخمة لأهل العريس في الأيام التالية للخطبة تتكلف مئات وأحيانا آلاف الجنيهات، وقد تستبدل هذه الوليمة بسيارة تحمل مؤنا غذائية وهدايا من أسرة العروس إلى أسرة العريس تمشي في موكب يشق شوارع القرية فيستفز الآخرين ويدفعهم إلى التسابق للمزيد. ونفس الشيء يحدث في "الصباحية" حيث تتكون من عدد من السيارات تحمل موادا غذائية ولحوما ودواجن وأحيانا بقرة أو جملا تزف إلى بيت العروسين في اليوم التالي للزفاف. وفي بعض القرى ظهر تقليد أن تذهب العروس في فترة خطبتها إلى بيت العريس من وقت لآخر لتقضي يوما بأكمله عندهم، وقد حدث من هذا التقليد مشاكل كثيرة بعضها يمس الشرف وأخلاقيات القرية التي كانت سائدة مما استفز خطباء المساجد وراحوا يدعون إلى مقاومة هذه العادة المستحدثة.
وأصبحت المآتم فرصة للتباهي وإظهار القدرة المادية والمكانة الاجتماعية، حيث تقام السرادقات الضخمة وتذبح العجول أو الأبقار أو الجمال وتقدم المشروبات، ويأتي الناس من كل حدب وصوب لإظهار المكانة الإجتماعية للمتوفى وأسرته.
وانتشرت في القرية عادة التصييف وهي عادة جديدة عليها لم يعرفها الآباء والأجداد من قبل ربما بسبب جو القرية المعتدل وطبيعتها الجميلة، وقد أصبح القرويون يصيفون كل عام، ويضعون ميزانية خاصة لهذا الأمر ربما لا يتحملونها.
وقد يقول قائل بأن هذه التغييرات هي من صميم التطور والتغيير في الحياة فليس معقولا أن تسير الحياة في المجتمع القروي أو المدني على وتيرة واحدة دون تغيير، وهذا صحيح فالحياة بطبيعتها متغيرة، ولكننا دائما ننظر إلى التغيير: هل هو في الاتجاه الإيجابي البنّاء؟ هل هو في اتجاه تأكيد الخصوصية وتقوية الانتماء؟ هل هو في اتجاه النمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي؟.. أم أن التغييير ضد كل هذا؟
يبدو أن التغيير في حياة الفلاح المصري قد حدث في ظروف سياسية غير مواتية جعلت هذا التغيير يأخذ شكلا استهلاكيا ترفيا مغتربا فرديا أنانيا، وهذا ما يدعو للقلق ويحفز للمراجعة والتصحيح والإصلاح.
اقرأ أيضاً:
المعارضة.. من النفس إلى الكون(2) / الباشا والخرسيس / الصيام.. أوله في النفس وآخره عند الله / الملك فاروق.. ضحية التوريث, ومصر ضحيته