التوريث مقابل الحب
كان الملك فؤاد يقترب من العقد السادس من عمره وليس لديه وريث للعرش, وبما أن غريزتي التملك والخلود هما من أقوى الغرائز في هذا السن (تسبقهما غريزتي الجنس والعدوان في مراحل المراهقة والشباب), فإنه كان يتطلع إلى إنجاب مولود ذكر يضع مصر بأهلها بين يديه, لذلك تزوج نازلي وهي فتاة مصرية من أسرة عريقة وكانت مرتبطة بعلاقة عاطفية مع أحد أقربائها لذلك كان الزواج قهريا ضد إرادتها وتم في 24 مايو 1919 لتلد فاروق يوم 11 فبراير 1920.
ولم يكن فاروق بالنسبة لفؤاد ولدا يسعد به ويدلله على أنه جاء على كبر وأنه ذكر جاء بعد أربعة أخوات له, وإنما كان مشروعا للتوريث, والدليل على ذلك أن فؤاد لم يكن مهتما بمداعبته أو تدليله بل وحرم أمه نفسها منه فترات طويلة وعهد بتربيته إلى مربيتين إحداهما أيرلندية والأخرى إنجليزية. وكانت المربية الإنجليزية "مسز تايلور" هي التي تمسك بزمام الأمور في كل ما يخص الطفل فاروق وكانت امرأة قوية وحازمة ومتسلطة, واتسمت معاملتها مع فاروق بالقسوة, فكانت تطبق عليه أقصى العقوبات على أقل الأخطاء, وكان فؤاد يشجعها على ذلك ويكافئها عليه.
وربما يستغرب بعضنا هذا السلوك من أب يقترب من السبعين تجاه طفل ذكر جاء بعد شوق طويل إليه, ولكن فؤاد كان يبالغ في قسوته وشدته نحو فاروق كرد فعل لرغبته في تدليله ولخوفه من التورط هو وأمه في هذا التدليل, في حين هو يريده أن يبلغ مبلغ الرجال سريعا حتى يكون قادرا على تسلم التركة (مصر ومن عليها), وكان فؤاد يستشعر قرب الأجل ويعرف أنه ربما لا يعيش حتى يبلغ فاروق سن الرشد فكان متعجلا في أن يجعل منه رجلا قبل الأوان.
وقد ترك هذا النموذج التربوي المتشدد والمتعجل آثارا عديدة في نفس فاروق ظهرت بعضها في طفولته وظهرت بقيتها في مراحل مختلفة من حياته, فهو قد حرم استشعار حنان الأب, وحرم أيضا حنان الأم, فالأب مشغول بقضية التوريث وهي بالنسبة له في ظروفه أهم لديه من تبادل مشاعر الأبوة مع ولده, وقد يكون لديه الحنان الفطري الأبوي تجاه ابنه ولكنه كان حريصا على إخفائه وإبداء عكسه كي يعد ابنه للمهمة الصعبة التي تنتظره, خاصة وأن فؤاد نفسه كان يجد صعوبة في التوفيق بين متطلبات الشعب ومتطلبات الأحزاب ومتطلبات الإنجليز ومتطلباته هو وأسرته, أما الأم نازلي فكانت تعيسة في زواجها حيث تزوجت ضد رغبتها وتركت حبيبها, وزوجها رجل طاعن في السن, مضطرب المزاج, مقامر مزمن (أطلق عليه وحيد باشا سيف أخو زوجته الأولى شويكار النار بسبب انغماسه في لعب القمار واضطراب سلوكه مع شويكار), وإهماله لها ولاحتياجاتها وربما احتقاره لها كمصرية (رغم انتمائها لأسرة بها أكثر من باشا).
هذه التعاسة التي كانت تعيشها الملكة نازلي مع زوجها الملك فؤاد جعلتها في حالة نفسية سيئة تحول بينها وبين أن تعطي ابنها المشاعر الأمومية المطلوبة, خاصة وأن المرأة حيت تكون تعيسة مع زوجها أحيانا ما تسقط مشاعرها السلبية نحو ابنها منه وترى فيه صورة من أبيه الذي تبغضه, علاوة على ذلك فإن الملك فؤاد لم يمكن نازلي من تربية فاروق, وكأنه كان يرى أنها بجنسيتها المصرية غير جديرة بتربية ملك المستقبل. وفي هذا الجو حرم فاروق من الحنان رغم الاحتفاء الرسمي والشعبي غير المسبوق بمولده, فقد عاش في قصور باردة خالية من الحب تحت قبضة مربية تعرف أن قسوتها شيء يباركه ولي نعمتها ووالد الطفل, وأم مشغولة بمشكلاتها النفسية واحتياجاتها المحبطة وشبابها المدفون.
وكانت مسز تايلور تمنع فاروق من اللعب مع أقرانه من الأطفال حتى ولو كانوا من أبناء الأمراء أو الباشوات, لدرجة أن المندوب السامي البريطاني كان ينتقد هذا الأسلوب في التربية ويحذر من عواقبه, وكان فاروق يستغل أي لحظة غفلة لمسز تايلور ليتسلل إلى الخدم ويجد لديهم ما يفتقده في حياته الجافة والصارمة, وقد عاش فاروق في هذا الجو الصارم حتى بلغ اثني عشرة سنة ينتقل من قصر إلى قصر لا يرى غير مربياته وأخواته فوزيه وفايزه وفايقه وفتحيه.
وفي هذا السن بدأت علامات التمرد على هذا النظام التربوي تظهر على فاروق, وكان أول تلك العلامات رغبته الشديدة في الأكل (كتعويض عن حب مفقود واحتياجات محبطة) وظهر استعداده للسمنة فانتبه له مربوه ووضعوا له نظاما غذائيا صارما, ثم ظهر ولعه باللهجة العامية المصرية تعلمها من أمه ومن الخدم واستوعب التعبيرات المصرية وأطلق النكات والقفشات مما أضفى عليه روحا مرحة, وكان شغوفا بانتهاك البروتوكولات الملكية في كثير من أمور حياته وهذا ما جعل المصريين يحبونه في بداياته على أنهم رأوا فيه شخصا متواضعا يتحدث لغتهم ويحاول الاقتراب منهم.
ولم ينل فاروق حظا وافرا من التعليم في مصر على الرغم من تعيين عدد من المعلمين الأكفاء له, فلم يتمكن من إجادة اللغة العربية الفصحى, ولكنه تعلم الإنجليزية والفرنسية بدرجة ما.
وحين بلغ الخامسة عشرة من عمره أرسله والده لانجلترا لاستكمال دراسته تحت إلحاح من المندوب السامي البريطاني والذي عين له أحمد حسنين مرشدا ورائدا, وكان هذا الرجل قريبا جدا من الإنجليز فقد تخرج في جامعة أوكسفورد وعمل سكرتيرا خاصا للقائد البريطاني العام أثناء الحرب العالمية الأولى. ولقد عين الملك فؤاد مربيا مساعدا ومرشدا عسكريا لولي العهد وهو عزيز باشا المصري, ولكن يبدو أن أحمد حسنين نجح في استقطاب فاروق بعيدا عن عزيز باشا المصري, خاصة وأن الأخير شخصية عسكرية صارمة وفاروق كان في مرحلة المراهقة يحتاج إلى درجة عالية من السماح والمرونة وربما الأبوة وقد وجد ذلك في أحمد حسنين, والذي قام بدور الأب لفاروق وملأ تلك المنطقة الخالية في نفسه, فقد حالت بروتوكولات الملك والطبيعة الشخصية المضطربة للأب والطريقة الجافة في التربية والرغبة المحمومة في إعداد الوريث دون إحساس فاروف بأبوة الملك فؤاد فكان دائما في احتياج لأب, وكان أحمد حسنين يتفهم هذا الاحتياج ويقوم به بذكاء شديد مع الاحتفاظ لفاروق بمكانته الملكية. ومكث فاروق في انجلترا ستة أشهر ليعود اضطراريا قبل أن يكمل دراسته هناك.
مصر وأهلها في يد مراهق
وفي عام 1936 مات الملك فؤاد وتولى فاروق ملك مصر تحت إشراف مجلس وصاية حتى بلغ السن القانوني فأصبح ملكا بلا مجلس وصاية عام 1937 (عمره في ذلك الوقت 17 سنه), ولكن ظل أحمد حسنين هو المستشار والأب لفاروق. وفاروق -الملك المراهق- عاش الكثير من التناقضات في حياته, فأبوه ينتمي إلى الأسرة العلوية بكل غطرستها واستعلائها على المصريين, وأمه تنتمي إلى المصريين وتهوى الوفد الذي كان يكرهه أبوه ويعتبر دائما غريما للقصر, بالإضافة إلى أن رائده ومرشده أحمد حسنين باشا كان مولودا في بولاق الدكرور ودرس في جامعة أو كسفورد وكان يحاول أن يربط بين ولائه للإنجليز ومصريته.
وفاروق ملك ينتمي إلى عائلة ملكية علوية ومع هذا يحب التقرب من المصريين والتودد لهم فينجح في ذلك أحيانا ويفشل أحيانا أخرى, وهو مطالب بالالتزام بالبروتوكولات والتقاليد الملكية من ناحية والده ومربيته وفي نفس الوقت لديه رغبة في التمرد علي تلك البروتوكولات نابعة من رفضه لصرامة أبيه ومربيته ورغبته في الاقتراب من النموذج المصري متمثلا في أمه والخدم الذين يتعامل معهم وأحمد حسنين مرشده وأبيه البديل. وعلى الرغم من كونه مراهقا مضطربا تربى في أجواء القصور الباردة الخالية من الحب إلا أنه بحكم الدستور يشكل محورا تدور حوله الأحداث وتتحرك حوله كل الشخصيات الوطنية وغير الوطنية, ويلعب به الإنجليز كيفما شاءوا.
الصورة المصنوعة
على الرغم من اضطرابات شخصية فاروق وتناقضاته إلا أن رجال الحاشية استطاعوا صناعة صورة جيدة لملك شاب محبوب يفعل أشياء عكس ما كان يفعل أبوه (الذي كان قاسيا عصبيا متعاليا, ويحتقر الشعب المصري), فيظهر فاروق محبا للشعب المصري, متواضعا يقود سيارته بنفسه ويظهر من وقت لآخر في الشوارع وبعض المحلات, ويشارك في الاحتفالات الدينية بجوار علماء الدين ذوي المكانة العالية في نفوس المصريين (وخاصة الشيخ المراغي), وشاعت بين المصريين صورة "الملك الصالح" في الفترة الأولى من حكم فاروق, وكان رجال القصر قادرين على تغطية جوانب قصوره, وعلى الاحتفاظ بالصورة الجميلة أمام الشعب طول الوقت.
وكان فاروق حريصا على أداء صلاة الجمعة في رمضان وإقامة الحفلات الدينية ودعوة طوائف الشعب إليها. وصورة الملك الصالح هذه كان وراءها حسن حسني باشا السكرتير الخاص للملك, والذي كان يرى أن الشعب المصري متدين بطبعه فلعب عل هذه الورقة الرابحة وكسب بها جولات من حزب الوفد (الغريم التقليدي للقصر) فقد كان حزب الوفد لا يخفي ليبراليته وعلمانيته, فكان القصر يصنع شعبية الملك من خلال مغازلته للنزعة الدينية لدى الشعب المصري (وهو نفس الشيء الذي فعله السادات حين أطلق على نفسه أو أطلق عليه رجاله لقب "الزعيم المؤمن"). حقا لقد كان وراء فاروق متخصصون في الصناعة الملكية نجحوا في مهمتهم فصنعوا ملكا شابا متوهجا يحرص على الاقتراب من شعبه ويتواصل معه في كل المناسبات خاصة الدينية منها, ويجل علماء الدين ورموزه, ويحرص على الزيارات الميدانية, وحضور المباريات الرياضية. ولم يفوّت صانعوا هذه الصورة أي فرصة إلا واستفادوا منها, فمثلا عندما تعرض فاروق لحادث سيارة في القصاصين على طريق الإسماعيلية عام 1930, راحت الآلة الإعلامية في ذلك الوقت تزف التهاني للمصريين بنجاة ملكهم المحبوب وتوافدت الجماهير لتهنئة الملك بسلامته والدعاء له بطول العمر.
وهكذا أصبحت للملك شعبية جارفة مما هز التوازن التقليدي بين الوفد والإنجليز والقصر ففكر الإنجليز في كسر شوكة فاروق وذلك من خلال فرض حكومة النحاس باشا عليه بالقوة, ولكن هذا الأمر زاد من شعبية فاروق وقلل من شعبية الوفد .
الصورة الحقيقية
هذه الصورة هي أن فاروق كان ينادي بلقب "ولي النعم" أو "مولانا", وكل من يلقاه ينحني له, وقام بتغيير شعار الجيش فبعدما كان "الله.. الشعب.. الملك" جعله " الله.. الملك.. الشعب". وكان رئيس الوزراء ملزما بأن يسبح بحمد مولاه وولي نعمته ملك البلاد في كل أحاديثه, وأن يشير إلى أنه وراء كل فكرة وكل خطة وكل إنجاز. وكانت تتم الاحتفالات بعيد مولده وعيد جلوسه على العرش وعيد زواجه, وأعياد ميلاد أولاده وذكرى نجاته في حادث القصاصين..... إلخ, ويفرض على الشعب المشاركة في كل هذه الأعياد على أنها أعياد وطنية. وتسمى الكثير من المستشفيات والمدارس والشوارع باسمه, وتوضع صورته على كل العملات الورقية والمعدنية وطوابع البريد, وتوضع صوره وتماثيله في كل مكان على أرض مصر. وكل يوم تبث الإذاعة المصرية المقولة التالية لأحمد نجيب الهلالي باشا: "سبحانك اللهم ما أعظم شأنك, وأعز سلطانك, وأوضح برهانك, آتيت فاروقً الملك والسداد, فأصبح عرشه في وادي النيل قبلة آمال المواطنين, ومعقد رجائهم وأطماعهم, وآية وحدتهم وكلمة إجماعهم, وقد ملكت قلوبنا سجاياه وشفانا الطيب من رياه, وآمال مصر بين يديه, في عزه الذي لا يرام وكنفه الذي لا يضام, لا زال ظله على الوطن مديدا ضافيا, ونوره للبلاد مضيئا هاديا".
أما خاصته الملكية فكانت عبارة عن 15400 فدان (خمسة عشر ألفا وأربعمائة فدان) يعمل فيها حوالي 600000 ألف (ستمائة ألف) من الفلاحين المصريين يبذلون العرق والدم والجهد طيلة عمرهم مقابل ملاليم يأخذونها ولقمة عيش خشنة يأكلونها في حين تأكل أجسادهم البلهارسيا وغيرها من الأمراض, بينما يتنعم هو بريع هذه الأرض الشاسعة فينفقها على ملذاته النسائية وعلى القمار على موائد مصر وأوروبا. وكان إذا احتاج إلى مزيد من العمال للعمل في أراضيه الزراعية يبعث بسيارات تجمع الفلاحين قسرا من قراهم (كما كان يجمع الأمريكان العبيد من إفريقيا) ليسخروا في العمل ليل نهار ولا يعفيهم مرضهم أو ضعفهم من هذا العناء, وكثير منهم يموت وهو يحفر بفأسه ترعة هنا أو مصرفا هناك فلا يجد كفنا يكفن به، أما المخصصات المالية فكانت عام 1951/1952 : 1315916 (مليونا وثلاثمائة وخمسة عشر ألفا وتسعمائة وستة عشر جنيها) وقتما كان الجنيه المصري يساوي جنيها ذهبيا.
ويتبع >>>>>>: مصر وأهلها في يد مراهق: التحول
اقرأ أيضاً:
الباشا والخرسيس / سلوك العصابة بين الجانحين وأصحاب الياقات البيضاء / ماذا حدث للفلاح المصري؟ / الدركسيون فيه بوش / سلوك العصابة بين الجانحين وأصحاب الياقات البيضاء