الملك فاروق.. ضحية التوريث, ومصر ضحيته
التحول
هناك حدثان أثرا كثير في شخصية فاروق ونتج عنهما تحولات نوعية في سلوكه, الحدث الأول كان عام 1942 حين فرض الإنجليز عليه وزارة النحاس بالقوة بعد محاصرتهم للقصر وتخييره بين التنازل عن العرش أو قبول الوزارة الوفدية, وهنا نصحه أحمد حسنين بالخضوع وقبول الأمر الواقع ولكن فاروق شعر بالانكسار, وفي لغة التحليل النفسي نقول أن فاروق تم خصاؤه نفسيا ثلاث مرات في حياته: المرة الأولى في طفولته المبكرة بواسطة أبيه القاسي الشديد وبمعاونة مربيته مسز تايلور, والمرة الثانية بواسطة الإنجليز, والمرة الثالثة بواسطة الضباط الأحرار.
وفي المرات الثلاث لم يكن فاروق يقاوم هذا الخصاء النفسي بشكل مباشر وإنما يتحول به إلى النهم في الطعام أو الاستغراق في القمار والشراب والعلاقات النسائية. وحين فعل معه الإنجليز ذلك شعر بإحباط شديد منهم (يذكره بإحباطه من والده ومربيته).
والحدث الثاني الذي أدى إلى نقلة كبيرة في حياة الملك فاروق عام 1946 حين مات الأب البديل له أحمد حسنين في حادث سقوط طائرة, فقد كان أحمد حسنين أبا ومرشدا ووهنا انكشف فاروق وأصبح يتصرف بتخبط نظرا لتضارب آراء مستشاريه وعدم قدرته على ضبط الإيقاع بين الوفد والإنجليز والقصر.
بعد هذين الحدثين أصيب فاروق بإحباط ويأس شديدين واستيقظ لديه حرمانه القديم وراح يمارس تعويضا في الانغماس في السهر والقمار والجنس والإسراف في الطعام حتى بدا بدينا مرهقا في سنواته التالية. وقد أدى هذا السلوك إلى اضطراب علاقته بزوجته فريدة فخانته مع ضابط إنجليزي وكان هذا حدثا ثالثا يضاف إلى الحدثين السابقين اللذين أثرا في حياة فاروق وأدى إلى تحولات هائلة في سلوكه.
العلاقة بالأم
كانت علاقة فاروق بأمه علاقة ملتبسة مليئة بالمتناقضات, وقد سبب له هذا الأمر آلاما كثيرة ووضعه في ظروف غاية في الصعوبة. وكما قلنا فإن أبوه الملك فؤاد أبعده عن أمه طوال فترة طفولته ولم تكن تراه إلا في أوقات قليلة, وعهد به إلى المربية الإنجليزية القاسية, وكانت الأم غارقة في مأساتها الشخصية مع زوجها العجوز الذي اغتصب شبابها وحرمها ابنها ونظر إليها باحتقار على أنها مصرية الانتماء وفدية الهوى. وحين تحررت الأم الملكة نازلي بعد موت زوجها القاسي فؤاد راحت تبحث عن حقها في الحياة والاستمتاع, فتعددت علاقاتها في اتجاهات مختلفة وانفلت عيارها وشاعت أخبار غرامياتها مما كان يسبب حرجا شديدا لفاروق, ومع هذا كان حبه لها كأم يكبل يديه عن محاسبتها أو عقابها, وقد أحدث هذا بداخله شرخا كبيرا, ومما عمق هذا الشرخ وجود علاقة بين أمه ومرشده أحمد حسنين, فهو من ناحية يحب أحمد حسنين كمرشد ومستشار وكبديل للأب المفقود ولكنه في نفس الوقت يشعر أنه يخونه مع أمه, لدرجة أنه تمنى أن يتزوج أحمد حسنين من أمه لكي يخرج من هذا الصراع المؤلم, ولكن هذا لم يحدث وبقيت الشروخ والتصدعات في نفس فاروق تجاه أمه وتجاه رائده ومرشده أحمد حسنين.
وقد اضطر فاروق أن يعقد مجلس البلاط في 15 مايو 1950 والذي تقرر فيه الحجر على الملكة الأم وتجريدها من لقبها, وبعد هذا الحدث (وأحداث أخرى) اشتد اضطراب فاروق وأصبح أكثر تهورا في قيادته لسيارته, وأصيب بحالة من البلادة الانفعالية وفقدان المشاعر وعدم الالتزام بالقيم والمعايير الاجتماعية والعنف غير المبرر واللامبالاة والاندفاع وسرعة الغضب, والتخبط في القرارات, وكأنه بداخله قوة تدفعه إلى تدمير نفسه والقضاء على ملكه الذي ورطه فيه أبوه وجلب عليه كل هذا الشقاء وحرمه من كل شيء حتى من وجود أم طبيعية يركن إليها ويرتمي في أحضانها وقت الأزمات.
الخيانة والحرمان والتعويض
وفي حياة الملك فاروق مصدرين للخيانة المؤلمة كان لهما أثر كبير في حياته, الخيانة الأولى كانت من أمه التي تعددت علاقاتها وكثر عشاقها وانطلقت في بحث نهم عن حقوقها الضائعة واحتياجاتها التي أحبطها أبوه الملك فؤاد, وقد كانت خيانتها تسبب له حرجا وألما من ناحيتين, الأولى أنها أمه والثانية أنها الملكة, وفي الحالتين إهانة له.
أما الخيانة الثانية فكانت من زوجته الملكة فريدة والتي خانته مع ضابط إنجليزي –كما ذكرنا- حسب زعم بعض الروايات مما اضطره إلى الانفصال عنها.
هاتان الخيانتان طعنا فاروق في كرامته وفي رجولته, وهما يفسران بشكل جزئي ولعه بعد ذلك بالعلاقات النسائية, فكأنه حين يمارس الحب مع نساء كثيرات يثبت أنهن كلهن كذلك وليست أمه فقط وبهذا يخفف من وقع خيانة أمه عليه فليست أمه هي الخائنة الوحيدة بل كل النساء خائنات أو عاهرات. وهو أيضا يرد على خيانة زوجته بعلاقات كثيرة وكأنما يقول لها: "ها أنذا رجل تتمناني كل الفتيات", ويقول لعشيقها: "أنا أكثر منك جاذبية ورجولة". وكما قلنا فإن فاروق تعرض لعدة مواقف من الخصاء النفسي, ولذلك فهو بعلاقاته النسائية المتعددة يقول لمن مارسوا خصاءه: "مازلت رجلا تهفو إلي قلوب النساء".
وربما يستغرب البعض حين نتكلم عن الحرمان في حياة الملك فاروق, إذ كيف يكون ملكا ويكون في ذات الوقت محروما, والحقيقة أنه كان يعاني فعلا من الحرمان, ولكنه الحرمان العاطفي ففاروق على كثرة من ينافقونه ويرجون كرمه ونعمه إلا أنه كان يشعر في أعماقه بأن لا أحد يحبه لذاته, وربما يرجع هذا لافتقاده الحب من مصادره الأولية, حب أبيه وأمه, ثم افتقاده الحب من زوجته فريدة بل وخيانتها له. كما أن فاروق عاش معزولا بين القصور ولم يمارس الحياة الطبيعية مع البشر (وهذا شأن كل أبناء الملوك والرؤساء) ولذا لم يعرف التفاعلات الطبيعية بين الناس, فكل من حوله يمارس دورا مصنوعا بعناية ولا يتصرف أبدا بتلقائية. ولهذا حين تنظر إلى صور الملك فاروق تلمح فقرا شديدا في تعبيرات الوجه عن المشاعر. وقد يقول قائل بأن الملك فاروق كان يتمتع بحب الشعب المصري خاصة في مراحله الأولى, وقد يكون هذا صحيحا ولكن الحب العام لا يغني عن الحب الخاص, حب المقربين الموجه للشخص ذاته وليس لأنه ملك.
وقد ظهرت عليه صورا لتعويض هذا الحرمان الوجداني في صورة شراهة في تناول الطعام, وداء السرقة القهري في مواقف مختلفة, وولعه باقتناء الأشياء الثمينة التي يراها في قصور الوجهاء في عصره, وهذه كلها أشياء رمزية يسترد بها ما افتقده من حب. ومع الحرمان الشديد في الجوانب الوجدانية كان هناك إشباع شديد في نواحي الترف والملذات, وقد خلق هذا تناقضا واضطرابا شديدا في شخصية فاروق.
وقد أصيب فاروق بنوع من هوس التملك والاستحواذ ظهر في صورة اقتناء التحف والولاعات والساعات والنباتات ومنها الأفيون والحشيش, والحشرات غير المألوفة ورؤس الغزلان. وعرف عنه إصابته بداء السرقة واشتهرت قصص طريفة في ذلك بعضها ربما يكون حقيقيا وبعضها مبالغ فيه. وكان إذا زار قصر أمير أو باشا أو وزير وأعجبه شيء في القصر يأخذه بلا خجل أو تردد. ومع الوقت كانت تزداد شراهته في الاستحواذ والامتلاك حتى أصبح أكبر مالك للأراضي الزراعية, وأكبر مقتن للذهب والأنتيكات والتحف.
ومع كل هذا كان فاروق يحتفظ بجانب آخر في شخصيته يتسم بالبساطة والمرونة وحب الناس وشيء من التدين المتجذر في الأسرة العلوية رغم مظاهر الفساد والترف والاستعلاء فيها.
شخصية الدون جوان
كان فاروق وسيما, ذلك النوع من الوسامة الأقرب للنمط الأنثوي (البشرة البيضاء الناعمة والشعر المنسدل والقسمات الجميلة), وهذا النمط في الرجال يجعل صاحبه في شك داخلي من استحقاقه الذكوري, ومن هنا تنشأ لديه رغبة قوية في إقامة علاقات نسائية متعددة, وهو لا يخفي هذه العلاقات, بل ربما يرغب في انتشار أخبارها وشيوعها لأن كل علاقة منها تعطيه إحساسا أمام نفسه وأمام الناس بالجدارة الذكورية. فلو أضفنا إلى ذلك مكانته كملك مما يجعله مطمعا لآلاف الفتيات والنساء نفهم لماذا اشتهر عن فاروق أنه زئر نساء, وهذا لا يعني تمتعه بقدرات جنسية عالية كما يتوهم البعض, ولكن في الحقيقة أن هناك تقارير سرية صدرت تفيد أن فاروق كان لديه مشكلات في قدراته الجنسية, وكان يكثر من الطعام ظنا منه أن ذلك يمنحه قوة كافية في هذا الجانب, كما أنه كان يستجلب بعض أنواع الأطعمة والأعشاب من الخارج بهدف الحصول على قدرة جنسية مناسبة, ومع هذا كانت تتسرب أخبار بأن علاقاته النسائية المتعددة لم تكن موفقة ولا مكتملة بسبب ضعفه الجنسي, وكان هذا يدفعه إلى مزيد من المغامرات بحثا عن مستوى إثارة أقوى من جانب, وتغطية لهذه المشكلة من جانب آخر.
فإذا أضفنا لذلك خيانة زوجته له وتعدد علاقات والدته نازلي فإن ذلك يدعم توجهه تجاه تعددية العلاقات العاطفية والجنسية ثأرا من خيانة زوجته وإثباتا لنفسه ولغيره أن كل النساء خائنات وليس فقط زوجته أو أمه.
حين أصبح دكتاتورا
من المعروف أن فاروق بدأ يتحول بعد عام 1942 إلى دكتاتور (بعد محاصرة الإنجليز للقصر وفرض وزارة مصطفى النحاس عليه بالقوة والإذلال), وازدادت حدة دكتاتوريته بعد خيانة زوجته فريدة وبعد موت مرشده ورائده أحمد حسنين. وعلى الرغم من صغر سنه واضطراباته النفسية التي تحدثنا عنها آنفا إلا أنه بحكم منصبه كان محورا للأحداث, وكانت كل الشخصيات تتحرك من حوله خوفا أو طمعا أو مناورة أو مداراة, ولم يكن هو قادرا في هذه الظروف أن يسيطر على الصراعات والتناقضات بداخله فضلا عن تلك الصراعات والتناقضات خارجه, فكان يخرج من كل هذا بقضاء وقت أطول مع أصدقائه الإيطاليين أو المصريين يحاول أن يعيش معهم على طبيعته وأن يمارس معهم تلقائيته التي حرم منها أغلب حياته, ولهذا أحاط نفسه في سنواته الأخيرة بحاشية من رجال الأعمال ليست لهم علاقة بالسياسة, ويبدو أن ذلك كان يعكس كراهيته للسياسة والسياسيين, وربما أيضا للعرش الذي وضعه عليه أبوه بالتوريث, ويؤكد هذا الاحتمال نكتة كان يطلقها بين أصحابه يقول فيها: "إن العالم كله مش حا يفضل فيه غير خمسة ملوك, ملك انجلترا والأربعة ملوك الموجودون في ورق الكوتشينة", أي أنه كان يعتقد أنه آخر ملوك مصر.
والشخص حين يكون محبطا ومفتقدا للثقة في نفسه وشاعرا بالمذلة والمهانة يكون أقرب للتسلط والاستبداد كرد فعل لكل هذه الأشياء.
فاروق انتهكت طفولته.. وانتهك هو مصر وأهلها
بالتأكيد لم يكن يدرك الملك فؤاد أنه قضى على حياة ابنه حين كان توريث العرش كل همه, فقد حرمه كل شيء يحتاجه أي إنسان طبيعي, وانتهك طفولته ليجلسه وهو في السادسة عشرة من عمره على عرش غير مستقر تتناوشه الأحداث ويلعب به رجال الحاشية, وفرض عليه نمطا من التربية ترك آثارا عميقة وشروخا غائرة في شخصيته, ولكن هذه الآثار وتلك الشروخ كانت تتخفى لبعض الوقت تحت أبهة الملك, ولكن شيئا فشيئا بدأت تتسع لتؤدي إلى انهيار شخصية الملك وانهيار ملكه.
ولم يعي فاروق الدرس (كما لن يعيه أي وارث أو مورث) فهجر الملكة فريدة بسبب خيانتها وبسبب إنجابها للبنات, فقد كان متلهفا على إنجاب ولي للعهد, فتزوج ناريمان اغتصابا من خطيبها حين قابلهما في محل جواهرجي, وأنجب منها فعلا ولي العهد الأمير أحمد فؤاد والذي ورثه مصر (وهو بعد ما زال رضيعا) في وثيقة التنازل التي كتبها قبل مغادرته أرض مصر التي انتهكها ثم ضيعها. ولم يكن هذا الانهيار نكبة على فاروق وحده وإنما نكبة أيضا على مصر, فقد أسلمها لحكم ضباط الجيش ففقدت الحياة الديموقراطية الصحيحة حتى وقتنا هذا, وحرمها من تطور الحياة الحزبية السليمة التي كانت موجودة بعض جذورها في ذلك العهد. وربما تبدو خسارة فاروق أهون إذا قارناها بخسارة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الذي كان توريثه الخلافة على غير رضا الناس سببا في أن تنغمس يديه في دم الحسين بن علي رضي الله عنه ودم كثير من خيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهكذا التوريث لا يورث غير الخسارة والندم فاعتبروا يا أولي الأبصار.
اقرأ أيضاً:
الباشا والخرسيس / سلوك العصابة بين الجانحين وأصحاب الياقات البيضاء / ماذا حدث للفلاح المصري؟ / الدركسيون فيه بوش / سلوك العصابة بين الجانحين وأصحاب الياقات البيضاء