المقابلة
دعونا الآن ننظر إلى جزء من مقابلة قام بها الدكتور ع مع المريض سامر.
المريض س:... نصل الآن إلى حادث اختطاف ابنتي الذي تم في 15 شباط. لقد دونت التاريخ في مفكرتي. لقد سمعت صوتها تصرخ، أولاً ساعدني يا رب ساعدني يا سامر.
الدكتور ع: اعذرني إذا قاطعتك من وقت لآخر، لكن عليّ أن أوضح الأمور في ذهني. لقد تحدثت عن اختطاف ابنتك؟
المريض س: هذا صحيح.
الدكتور ع: هل اختطفت فعلاً؟
المريض س: لقد اختطفت فعلاً يا دكتور.
الدكتور ع: من خطفها؟
المريض س: رجل أو رجلان من الجيران. لقد كنت الوحيد الذي اشتبه بهما في ذلك الوقت، فأنا لم أر ذلك بعيني.
الدكتور ع: إذاً أنت لم تشاهد الخطف؟
المريض س: لا يا سيدي.
الدكتور ع: وكيف عرفت أن ما حدث كان اختطافاً؟
المريض س: لم تظهر ابنتي بعد ذلك يا دكتور وهذا أمر غير طبيعي. ومن المفترض أن تعود للبيت.
الدكتور ع: كم مضى على غيابها حتى الآن؟
المريض س: الموضوع ببساطة، لا، هذا لا علاقة له بالأمر. الموضوع الآن هو أنها اختفت منذ 15 شباط.
الدكتور ع: وأنت لم ترها منذ ذلك التاريخ.
المريض س: وكذلك يا دكتور هناك العديد من المؤشرات، وقد أخبروني مراراً العديد من الأمور لكنها لم تشكل أية بالومبة أو أي شيء من هذا القبيل. والحقيقة ببساطة أنهم كانوا يلمحون إلى أنها قد اختطفت.
الدكتور ع: من الذي كان يلمح؟
المريض س: الآن يا دكتور، بدأت القصة قبل اختطاف ابنتي بسنة، لقد جاء عدة أشخاص من الحي ومعهم رجل ليس من الحي وقد أريتهم دفتر حسابي المصرفي وفيه رصيد يساوي 999.999 دولار.
واختفى الدفتر، لقد عرفوا أين أضع دفتر الحساب المصرفي لأني فتحت الجرار في مكتبي.
الدكتور ع: وماذا فعلوا بذلك الدفتر؟
المريض س: لا أعلم. لا أعلم، لقد اختفى ببساطة، زمن. لكني أعتقد أنهم لو حصلوا، إذا كانوا مسئولين شخصياً عن دخول المنزل وسرقة دفتر حسابي المصرفي، شكراً للسماء، لقد كان هناك 5 دولارات فقط في حسابي. أعني، أعني أنهم لم يروا أن المقدار الذي تحدثت عنه مسجل في الأعلى وأن المقدار الصغير مسجل في الأسفل، هذا بسيط، هذا كل شيء، لقد أبعد ذلك الرقم الكبير 999.999 أي احتمال من أفكارهم ولذلك، يا إلهي، من ذلك الذي يضع مليون دولار في حسابه المصرفي؟ دعنا نترك المزاح جانباً. أعني أنه لغباء مطلق لكنني أريد أن أريك العمر العقلي لهؤلاء الأشخاص وضعف خبرتهم في مجال أرصدة البنوك، لكن لماذا...
الدكتور ع: ماذا حدث بعد ذلك؟
المريض س: عفوا !
الدكتور ع: ماذا حدث بعد ذلك؟
المريض س: بعد ذلك كان هناك تعاظم تدريجي لـ 1000م م... كان حديثه سيئاً في الحقيقة، سأعطيك...
الدكتور ع: تعاظم تدريجي؟
المريض س: هذا صحيح.
الدكتور ع: ماذا تعني بذلك؟
المريض س: هذا بسيط. لقد أثر حديثه بحيث أصبح من السهل على أي إنسان أن لا يصدقني إن قلت شيئاً بعد ذلك.
الدكتور ع: لم أفهم ماذا تقصد عندما قلت أن حديثه لم يكن جيداً. هل تناقله الناس مثلاً.
المريض س: كمثال، أوه نعم، لقد كانت السيدة هدى خاصة في مقدمة الذين استخفوا بقيمة حديثي.
الدكتور ع: استخفت بقيمة حديثك؟
المريض س: لقد قللت من قيمة حديثي، أي كأنني مجنون، “ لن تراها ثانية أبداً يا سامر”. ما رأيك بذلك؟ لقد تأخر الوقت كثيراً يا سامر.
الدكتور ع: تأخر الوقت كثيراً يا سامر؟
المريض س: نعم، أو سموره.
الدكتور ع: هل حاولوا أن يجعلوك...
المريض س: لا، ليس هنا، حسناً، اسمع، اسمع ما هي القصة.
لقد حاولوا بأي وسيلة أن يدخلوا المنزل، واعتقدوا أنهم سيحصلون على الكثير من النقود. وأعتقد أنهم لا يزالون يعتقدون بوجود نقود. دعهم يظنون لأنه لا يوجد نقود أبداً.
الدكتور ع: من هم هؤلاء؟
المريض س: حسناً، إنه شخص واحد، شاهر الذي يعيش في الطابق الأخير في البناء 17 من الشارع السادس. لقد عرفته لفترة قصيرة. لم أكن أعلم حينها لكنه كان في السجن وتلقى، أو تلقت أمه...
الدكتور ع: عفوك، هل كان سامر أحد الأشخاص الذين أريتهم دفتر حسابك؟
المريض س: لم يره شاهر ولا أحمد.
الدكتور ع: هذا شخص جديد تماماً؟
المريض س: هذا صحيح. لقد أخبرتك الخدعة منذ قليل. والموضوع هو الآتي. لقد تحدث الأشخاص السابقين لشخص آخر وهو الذي أشاع القصة بين الناس. صدقني...
الدكتور ع: وسرعان ما علم الجيران كلهم بالموضوع، أليس كذلك؟
المريض س: نعم، وبدون تردد.
الدكتور ع: هذا واضح. وبعدها اجتمع هؤلاء الأشخاص و...
المريض س: كل ما خططوا له يعود إليهم. فأنا لا اعرف.
الدكتور ع: ماذا كان هدفهم النهائي؟
المريض س: حسناً، من الواضح أن هدفهم الاستيلاء على بيتي وعلى نقودي، زمن.
الدكتور ع: هل استطاعوا..
المريض س: الآن، كان هناك عدة أمور يا دكتور. في زواجي من لمياء...
الدكتور ع: قبل أن نصل إلى هذه النقطة دعني أسألك سؤالاً واحداً.
المريض س: لا تطيل يا دكتور أرجوك، فأنا أشعر أن الوقت يمر ويضيع..
الدكتور ع: لدينا الكثير من الوقت. أريد أن أسألك سؤالاً آخر هل كان التخلص منك جزء من هدفهم النهائي؟
المريض س: لست متأكداً تماماً ولكنني اعتقد أنهم تلقوا أوامر بعدم استعمال العنف منذ حوالي سنة ونصف عندما بدؤوا بتخطيط الأمر خلال الصيف، لقد بدؤوا يقدمون عرضاً.
الدكتور ع: بدؤوا يقدمون لك عرضاً؟
المريض س: أوه، كانت العاهرات يمرون بأفواههم القذرة ويصدرن أصواتاً قذرة عندما أجلس على الشرفة.
الدكتور ع: هل حاولن إغواءك؟
المريض س: حاولوا أي شيء في العالم. يا إلهي، كان ذلك حول البغاء.
الدكتور ع: ماذا قالوا. اذكر مثالاً.
المريض س: حسناً، أفواه قذرة.
الدكتور ع: استعمل كلماتهم.
المريض س: لا، أفضل ألا أقولها. أكاد أصبح.. أنا آسف لأني لن أخبرك بكل شيء عن مثل هذا الموقف لأن الكلمات الرئيسية المؤلفة من أربع حروف...
الدكتور ع: هل قالوا مثلاً “سامر، هل تريد أن تضاجع” أو شيء من هذا القبيل.
المريض س: هذا تماماً ما قالوه وأيضاً لماذا لا تريد. هل تريد أن تقوم بذلك لوحدك أو..
الدكتور ع: قل لي الكلمات ذاتها يا سامر.
المريض س: لقد كانت.. لقد قلتها. ذات صباح كنت جالساً في شرفتي. كان الوقت مبكراً جداً حوالي الساعة السابعة، إنه وقت مبكر بالنسبة للجيران. كنت جالساً في الشرفة عندما توقفت سيارة أجرة ونزلت منها فتاة وقالت “الطيور والوحوش والأزهار، ما رأيك بها”.
الدكتور ع: الطيور والوحوش؟
المريض س: الطيور والوحوش والأزهار.
الدكتور ع: الوحوش؟ ماذا قصدت بكلمة وحوش؟
المريض س: هكذا قالتها.
الدكتور ع: وماذا قصدت بذلك؟
المريض س: حسناً، واضح أنها كانت تقصد الطيور والنحل، أنت تعلم أن هذا ملائم جداً.
الدكتور ع: ولماذا قالت وحوش؟
المريض س: لا أعلم، لكن هذا ما قالته تماماً.
الدكتور ع: هل تستطيع أن تخمن ما الذي قصدته بذلك؟
المريض س: أنا لا.. أنا.. لا أعلم ما الذي ترمي إليه لكنني سخرت منها.
الدكتور ع: أخبرني، هل ما قالته مزعجاً لك؟
المريض س: لقد تحدثت، كما أخبرتك، عن الطيور والوحوش والأزهار.
الدكتور ع: نعم.
المريض س: لم يصدر عن الرجل الذي كان يقود السيارة أية إجابة. “إذاً تريد أن تفعل هذا وحدك؟” هذا ليس.. بحق السماء ماذا قالت؟ هذا ليس... أعتقد أنه... أشك أنه كان معقولاً. لقد كانت عبارة أخرى لها دلالة مشابهة لـ “هذا ليس معقولاً” وكان على الخروج من هذا الموقف. لقد كذبت عليك ليس لأن الأمر تافه بالنسبة لي بل لأنها تلفظت بكلام بذيء وبصوت مرتفع.
الدكتور ع: من الواضح أنها أرادتك أن تسمعها.
المريض س: من الواضح أنها أرادت مساعدتي.
الدكتور ع: هل حاولوا إصدار أصوات للفت انتباهك.. فأنت لم تستجب لهم، وربما ظنوا أنك شاذ.
المريض س: واضوحياً ! هل تتذكر عندما قاموا بالسطو الكبير على المخازن وسط البلدة.
الطبيب ع: ما الأمر في ذلك؟
المريض س: جاء شابان وفتاتان بسيارة وأوقفوها أمام المنزل ثم بدؤوا بإنزال أمتعة من المقعد الخلفي للسيارة وأخذوها إلى المبنى 16 في الشارع السادس، وصعدت الفتاتان إلى ذلك المبنى لكن إحداهما نادتني من طرف الشارع. لقد كانت ذات الفتاة التي حدثتك عنها منذ قليل.
الدكتور ع: نعم.
المريض س: لقد قالت “أنت لوطي” أو شيء من هذا القبيل. أو “هل تريد أن تفعل ذلك وحدك؟” ثم جاءت إحدى الفتيات مع شاب وكانت تنظر إليّ مباشرة لكنني لم أكن أنظر إليها. صدقني، لا أستطيع أن أخبرك كيف كانت تعابير وجهها لأنني لم أكن أنظر إليها، لكنها كانت تنظر إلي مباشرة واقتربت مني مثل هنا وهناك (يشير إلى أحد المقاعد في العيادة) ومن الواضح أنها كانت تفضل الجماع على الأكل. ما رأيك بذلك!.
الدكتور ع: وماذا عنى هذا بالنسبة لك؟
المريض س: كان هذا تلميحاً، ثم بعد أن ذهبوا...
الدكتور ع: قلت أنها تفضل الجماع على الأكل؟ إلى ماذا يشير هذا الأكل؟
المريض س: إلى طعامها بالطبع. لقد مروا بعد ذلك أمام البيت ثم أمام الشجرة باتجاه عمود الكهرباء. أنت لا تعلم بالطبع أين موقع هذه الأشياء.
الدكتور ع: لا بأس. تابع حديثك.
المريض س: سأرسم لك صورة عن الشارع. أنا أسكن في البناء 17 الشارع السادس. عمود الكهرباء بين البناء 17 والبناء 19. الشجرة تماماً أمام البناء 17 وهي شجرة صغيرة لكنه، على أي حال، استدار ونظر إلي...
الدكتور ع: الشخص الذي كان معها؟
المريض س: نعم، وقالت له “يا إلهي لم ينظر إلي أبداً” فقال لها... “لا تقلقي. لقد رآك”. لكنني لم أشاهدها من قبل أبداً ولم أكن قادراً أو،...
الدكتور ع: ما الذي يقصده بقوله “لا تقلقي. لقد رآك”؟
المريض س: لقد كانوا يتابعون خدعتهم. هذا هو الأمر.
الدكتور ع: أية خدعة.
المريض س: إنها جزء من المكيدة. لقد كانوا يقومون بالخطة بدقة.
تحليل المقابلة
لا أود الآن أن أتحدث عن الحالة العقلية للمريض بكامل جوانبها، لكنني سأركز على بعض الملامح البارزة في هذه المقابلة و أجيب على الأسئلة الثلاث التالية (.... ما هو ؟ ...و كيف؟ ...و لماذا؟..).
أولاً، تحدث المريض مراراً بطريقة غريبة ومبهمة. لقد كان شديد الغموض في بعض الأحيان، واستخدم اللغة أحياناً بطريقة خاطئة، وابتكر كلمات مثل “بالومبة” و”واضوحياً” وهو ما يسمى جَدْلغَة Neologism. إنه يخبرنا عن أشخاص يتحدثون عنه وينادون اسمه، مدعياً اتهامات كاذبة وتلميحات تضايقه. نحن نعرف الشيء الكافي عن حياته لنقول أن تلك الأمور لم تحدث في الواقع.
ما الذي نراه إذاً؟
أولاً، إننا نرى ما يدعى بالانخداع الحسي Illusion الانخداع الحسي هو تفسير خاطئ أو إدراك لمنبه خارجي حقيقي. كمثال، ربما سمع سامر أشخاصاً يسعلون أو يقولون شيئاً لسائق سيارة أجرة ففسر ذلك كأنه كلام أو تهديد له. قد يشم شخص ما رائحة طعام ويخبرك أنها رائحة شخص ميت. المثال الأول هو انخداع سمعي، والثاني هو انخداع شمي. وهناك انخداع لكل أشكال الحس.
ثانياً، يعاني هذا المريض أيضاً من هلاوس سمعية Auditory Hallucinations (لا تظهر في هذا الجزء من المقابلة لكنها تظهر في أجزاء أخرى). الإهلاس هو إدراك حسي بغياب المنبهات الخارجية، وهو قد يصيب كل أشكال الحس. فمثلاً، تحدث مريضنا (في أجزاء أخرى من المقابلة) عن أنه كان يسمع أشخاصاً يتحدثون في منزل يبعد عنه مئات الأمتار. وكل ما نستطيع قوله أنه لم يوجد أي منبه خارجي ليحرض مثل هذا الإدراك.
ثالثاً، نشاهد أيضاً أوهام اضطهادية (وهامات اضطهادية Persecutory Delusions ). وكما ذكرت سابقاً، فإن الوهام Delusion هو اعتقاد خاطئ وثابت ويستمر رغم الأدلة القاطعة التي تؤكد ما يناقضه، وهو اعتقاد غير مقبول عادة بالنسبة لثقافة الشخص أو مجتمعه. هناك أيضاً أنواع مختلفة للوهام. فهناك وهامات جسدية Somatic Delusion حيث يخبرنا المريض أنه لا يوجد أعضاء في جسده. وهناك وهامات العظمة Grandiose Delusion إذ قد يقول المريض أنه الله. وكما لاحظنا في المقابلة فإن المريض يعاني من وهامات اضطهادية، فالناس حاولوا إيذاءه أو استفزازه. إنهم يريدون الاستيلاء على منزله وسرقة أمواله واختطاف ابنته. ونرى أيضاً أفكاراً إسنادية Ideas of Reference أي أن الشخص يفسر الأمور التي تحدث في المحيط وكأنها تحمل دلالة أو إشارة شخصية خاصة به (أي أنه يسند جميع الظواهر المحيطة به إلى نفسه). وهذا ما فعله سامر عندما تحدث عن أقوال وأفعال الجيران وعندما تحدث عن ذلك الغرض الذي كان يجري له وحده. إن كلّ ما تحدثنا عنه هو توصيفي ويجيب على السؤال. ما هو؟.
ماذا عن السؤال الثاني: كيف؟ كيف حدث هذا؟ ما هي القوى والآليات التي أنتجت هذه الصورة الموصوفة؟ وكما هو الحالة عند المريض الرّبوي فإننا سنبحث عن المعلومات التي تشرح لنا كيف حدث هذا النوع من المرض.
يعاني سامر من صراعات داخلية معينة، إنه يعاني من صراعات حول دوافع يشكو أنها غير مقبولة. ونستطيع الآن أن نوضح بعض هذه الصراعات والاهتمامات.
لقد قال أن بعض الأشخاص يحاولون الاستيلاء على أملاكه وأمواله، وهذا قد يشير إلى خيال أو رغبة خاصة به، والذي اخترع فكرة المليون دولار في الحساب المصرفي. كما تحدث عن رجال اختطفوا ابنته، وهنا نتساءل هل اختفاء ابنته جعله منزعجاً وشاعراً بالمهانة بحيث أصبح من الأفضل تبرير الاختفاء بالادعاء أنّها قد اختطفت بدلاً من اعترافه أنها تركته؟
لقد تحدث عن عاهرات يقدّمن عرضاً له. لقد احتقروه لأنه لم يبد أي اهتمام بهنّ ودعوه شاذاً جنسياً. وأن هذا الأمر كريه ومزعج بالنسبة له إن ما فعله المريض هو تلوين صورة مؤامرة عظيمة تجري في الجوار، وقد تمّ تحديد طبيعة هذه المؤامرة بناء على أمور هامة بالنسبة له. وكما هو الحالة في اختبار الإسقاط Projection Test استخدم المريض خيالاته الخاصة واهتماماته وشواغله الخاصة وأسقطهم على من حوله وصار ينظر إليهم من موقف محايد تماماً. إنّه يستخدم أجزاء خاصّة من موقف ما ليبني قصّة، لكن هذه الأجزاء ليست أكثر من أداة وليست بحد ذاتها قوّة فعالة ومحددة. إن القوة تأتي من داخله.
ولذلك، إذا كان مريضنا منزعجاً من حبّه لجمع المال واختزانه ومن دوافع أخرى فإنه سيدافع عن أناه ضد هذه الأمور وذلك بإبعادها عن نفسه وبكبتها وبمحاولة نسيانها. لكن الوعي يعيد فرض ذاته، إنّ النفسية الداخلية للمرء دوماً فعّالة وحركية، لذلك فإن المريض يلجأ لدفاع أكثر عنفاً. إنه يبعد دوافعه عن نفسه وينسبها إلى الأشخاص الآخرين. وهو قادر الآن على الشعور براحة أكبر. إنه يشعر بالراحة لأنه يرى هذه الدّوافع قادمة من خارجه، وبهذا الشكل فإنه أكثر قدره على مكافحتها ومقاتلتها، إنّ هذه هو أساس آلية الإسقاط لقد أسقط العديد من الدّوافع غير المقبولة بالنسبة له على الأشخاص المحيطين به، لكن هناك نقاط أخرى.
إنّ مبدأ الوظائف المتعددة يؤكد لنا وجود عدة قوى نفسية مختلفة تعبر عن نفسها بشكل متلازم ومترافق في سلوك الشخص فأوهام سامر ساعدته أيضاً في إرضاء حاجات معينة من الشعور بالعظمة. إنّه يعتبر نفسه -حسب أوهامه- مركز العديد من الفعاليات والنشاطات القائمة في الجوار، والشخص الأكثر أهمية بين كل الأشخاص الموجودين هناك.
إنّه بذلك ينكر المركز غير الهام الذي كان يشغله في حياته. الآن، إذا أردنا فهم المزيد من الآليات فإن علينا دراسة حالة سامر بشكل أعمق. إن ما قلناه يمثل محاولة للإجابة على بعض الجوانب في السؤال كيف؟
لدينا سؤال ثالث لماذا؟ إن علينا أن نبحث في التجارب المبكرة و التي كان لها دور اً في تطوير نفسية سامر. لأن وجود شدّة ما يؤدي للنكوص إلى أنماط من السلوك لها علاقة بمراحل التطور الباكرة.
وهكذا فإن سامر، وبسبب تعرّضه للشدة يستخدم وسائل تعود لمرحلة معينة من التطور النفسي إلى مرحلة لم يكن بالإمكان فيها تميز الأشياء القادمة من الخارج عن القادمة من الداخل بشكل واضح. لقد عزى إلى الأشخاص في الخارج أشياء نشأت في الحقيقة من داخله. لقد كان أكثر عرضة لاستخدام هذه الوسائل أو للمعاناة من تجاربه الباكرة وذلك نتيجة وجود عناصر بنيوية مؤهبة Predisposing Constitutional Factors ولقد ناقشنا المحدّدات البنيوية والمورثية للفصام في مكان آخر.
إننا لا نعلم حتى الآن شيئاً عن العوامل المورثة في حالة سامر. وعلينا معرفة الجديد بالتحدث معه أكثر وبالتحدث مع عائلته. إن النقطة الأساسية هنا هي أن نحاول أن نشرح السؤال لماذا في مرضه النفسي، ولكي نفعل هذا علينا أن نغوص أكثر في تطوره الباكر وفي حياة أسرته وفي خلفياته الوراثية، وهذا يأخذ الكثير من الوقت.
لكن لدينا أيضاً مشاكل أخرى. إننا نتعامل هنا مع أفكار وعواطف وانفعالات، وهي أمور يصعب إظهارها وإيضاحها خاصة في المقابلة الأولى، لكن هذه الأمور غالباً ما تظهر بوضوح أكثر في معالجة أكثر تركيزاً وشمولية لشخص ما، وتصبح العلاقة بين الجوانب الحركية والجوانب التوصيفية في سلوكه أكثر وضوحاً بكثير. فمثلاً، تعرّض أحد المرضى للتجربة التالية: فبعد أن كان يدخن بعض أنواع المخدرات انتابه شعور أنه يستطيع أن يرى والده في قبره بوجه مشوه، وشعر المريض أن ملامح أبيه تشبه ملامح قاتل ينظر إليه مباشرة. لقد كان هذا نتيجة بعض المشاعر والدوافع العدوانية التي يكنّها المريض لوالده والتي عبّر عنها باكراً أثناء المعالجة.
وكذلك يستطيع المرء أن يرى الجوانب الحركية في المرض النفسي بوضوح أكثر عند المريض القابع على حدود النفّاس، حيث نجد انه يتموج بين مشاهدة الدوافع وهي تأتي من داخله وبين مشاهدتها وهي تأتي من الخارج، وقد يضطرب بعض المرضى بشدة لأنه يدرك في وعيه الشعوري أفكاراً لا يعيها الشخص الطبيعي عادة. أحد هؤلاء المرضى أتى إلى غرفة الإسعاف النفسي وقال إنه يريد أن يقتل أمه، لكنه يريد أيضاً أن يستلقي على صدرها، إنّ مثل هذا المحتوى الفكري لا يعيه معظم النّاس. بشكل عام من الصعب إظهار العوامل الحركية بشكل آني في الطب النفسي، وقد يأخذ هذا فترة طويلة من الوقت حتى تصبح العوامل المورثة و......... واضحة.
والسبب في ذلك أنّ هذه العوامل موجود خارج وعي المريض والمراقب الخارجي، ضمن جزء من العقل يسمى اللاشعور.
المصدر: المجلة الإلكترونية للشبكة العربية للعلوم النفسية
واقرأ أيضاً:
ميليس في قفص التحليل النفسي(3) / لغة الجسد عند ديتلف ميليس / الاضطرابات النفسية عند ديتلف ميليس(4)