(…يحتوي التكوين العائلي…الذي تحياه «سحر» على عدة أمور مضطربة في تكوينها وعلاقاتها...وعلى صراعات عدة، وتوترات واخفاقات في تحقيق أحلامها...إلى الحد الذي يهدد كيانها، ووحدتها، وتماسكها، واستقرارها، وفي محاولة لا شعورية للتخلص من هذا التهديد، سَعَتْ العائلة لتبرير واقعها بإلقاء تبعات المسؤولية، وبصورة لا واعية على أحد أفراد الأسرة، وهذا ما حدث لكبش الفداء «أغيد» ودفع به إلى الانتحار، هذا إضافة إلى العواطف غير المتكافئة أو غير المتوافقة على الأقل مع الإهمال الواضح، للحاجات النفسية الأساسية لكل فرد من أفراد الأسرة؛
مما أدّى إلى تواصلٍ مزدوجٍ في معظم أفراد الأسرة، اتصال مزدوج وتضارب، إذ إن التعامل مع أحد يدلّ على شيءٍ ما، أو فكرةٍ ما، أو عاطفةٍ ما وفي الوقت نفسه، هناك تصرف أو عمل يوحي بعكس ذلك، وهو موجودٌ عند معظم أفراد الأسرة، ويتضح بصـورةٍ جليـّةٍ في «سحر».. فنقل هذه الإشارات المتناقضة ما بين السلوك والقول والفعل هو نوع من محاولة التوصل إلى التفرد والذاتية ولكن على نحوٍ فاشل، وهو ما يؤدي إلى زرع بذور الشك، وعدم الثقة واللاعقلانية في قول وفعل ذاك الشخص.
إذاً هناك خللٌ في التكوين الأسرى ككل، فالمناخ الذي يعيشه الطفل ضمن أجواء أسرة كالتي ذُكِرَتْ يجعل علاقته بالآخرين تمتاز بالقلق، أو الشعور بالعداء الشديد تجاههم، وبالعزلة عنهم، أو بنسبٍ متفاوتة من كليهما، ولا أريد هنا أن أخلق دون وجه حق أو انمي شعوراً بالذنب لدى أحدٍ ما فما أود قوله أن المصاعب التي تعرضت لها الأسرة في بعض الفترات، وتفاقم شدة تلك الصعوبات، هيأت تربة مناسبة لكل أنواع ردود الفعل العصبية غير المناسبة………
«سحر» تلك الطفلة الكبيرة،كان نصيرها الوحيد ضمن أسرة تضم بضعة أحلاف من أبنائها،كل حلف له اتجاهاته، وفكره وسلوكه…وحلفها يضم «أغيد» الذي غاب منتحراً، فماذا يمكن أن تصنع «سحر»؟!!… تعلقت بشابٍ تراءى لها، فيه الصدق والقوة...وجدته البديل عن شـقيقها «أغيد» بل البديل الأقوى، ومهدت دون وعي منها، وبشكل لا شعوري إلى أنه ذاك الضخم المعزز بالسلطة، والجاه، والقوة، وأعطت تضخيماً هائلاً عنـه...لِمَ فعلت «سحر» ذلك؟!..
إذا عدْتُ إلى طفولتها، أجد أنها كانت تُعامل بطريقة تختلف عن شقيقاتها فهي السمراء البشعة وفق مُزَاحْ الأسرة، وهي الفاشلة غير المرضي عنها، والمنبوذة في لا شعور الأسرة، ليس لان الأسرة تكرهها، فلا يمكن لمخلوق أن يكره فلذة كبده، ولكن لأن أسرة تحمل كل تلك العُصابات تحتاج إلى توازن، وهذا التوازن يتحقق باختيار لا واع لكبش فداء تتجمع كل عثرات الأسرة فيه...هذا الكبش بين الذكور كان «أغيد» وبين الإناث «سحر»..
وبطبيعة الحال فإن كل كائن يحاول إظهار نفسه بالشكل الأمثل، ويدافع عن توازنه، وبقائه... في طفولتها كانت «سحر» تحاول لفت الأنظار إليها، لتتلقى كلمات المديح، والرضى بسلوك انسحابي، ومن خلال عمل المنزل وبعض الأعمال اليدوية النسوية… أن تنال كلمة مديح أو بسمة تجعل منها في حالة توازن أمام الأسرة.
من هنا نستنتج أنها كانت تعيش في خوفٍ دائمٍ، وعدم رضى، وعدم ثقةٍ بالنفس، وبالتالي العجز عن اتخاذ أي قرار خوفاً وتحاشياً لردود الفعل التي كانت توحي غالباً بعدم رضى الأسرة عنها...وتتفاقم الأمور مع توالي السنوات، وتزداد الضائقات الاقتصادية وغيرها، ويصبح عددٌ لا بأس به من أفراد الأسرة في الجامعة.
وتدخل «سحر» الحياة الجامعية بتوجسٍ وخيفة، محتاجة دائماً إلى الاعتماد نفسياً على أحد لكي يكون القائد والموجه لها، فما تعلمته، وتلقّنته في المنزل جعلها تسلك هذا الطريق دون إرادةٍ منها، ودون نضجٍ عقلي أو عاطفي، إذ تبدو كطفلٍ بعيدٍ عن ثدي أمه يعيش حالة الهلع والخوف، وهنا كانت مشكلة أخرى بعيداً عن أمها واخوتها في جوار شقيقتها «خولة» التي سبقتها إلى الجامعة بسنوات، كانت «سحر» تحتاج «خولة» لأنها تحتاج لأحد تتعلق به، وتعتمد عليه لتضمن عدم توترها الداخلي ولتضمن الاتزان، والاستقرار، بل وحتى المديح، شقيقتها «خولة» أبعدتها عنها وفضلت مساكنة فتاة غريبة………وإبعاد «سحر» بالشكل الذي جرى، رسّخ قناعتها بذاتها أنها فاشلة، منبوذة غير كفءٍ لأي شيء.
وتأتي ردود فعل الأسرة لتدعم هذه الأمور في تفكيرها، وعقلها ووجدانها، وتثبّتها كالوتد، من الطبيعي أن لا يبقى لـ «سحر» سوى شقيقها «أغيد» ومن الطبيعي أن تنظر إلى نفسها على أنها لا تستحق أيَّ شيء، وكان اعتمادها كاملاً في تلك الفترة على «أغيد» وعُقِدَتْ عدة اجتماعات في الأسرة لبحث موضوع الغريبة. باءت جميعها بفشل «سحر» في استقطاب الأسرة نحوها ضد الغريبة، بل على العكس تعلقت الأسرة كاملة بالوافدة الجديدة خاصة أنها أمـدّت الأسرة بمعوناتٍ اقتصاديةٍ وأصبحت الآمـر الناهي في الأسرة… والأسرة فضلت الغريبة عليها، فكيف يمكن أن تغفر «سحر» وكيف يمكن أن تفهم تلك المعادلة الصعبة.
«سحر» في تلك الفترة وفي معظم فترات حياتها انعكاسية تفكر لاحقاً في أمرأو كلمة أو تصرف، مما عزز لدى الأسرة كاملـة القناعة أن «سحر» غير واعية وعزز لديها شعورها الدائم بالدونية والفشل، وزاد من ذلك تكوينها الوراثي، فبنيتها الوراثية تتميز بالعناد والصلابة في التفكير، وتبدو قاسية قساوة البيتون المسلح.
والعنيد شخص يفتقر إلى الوضوح، مفاهيمه قاسية، وذهنه مستنفر وأفقه ضيق، ويسعى دوماً دون إرادة منه إلى التسويات العرجاء وغير السليمة لأيّ أمر يعترض طريقه، وهو لا يهتدي إلى مبادئ ومواقف عطوفة ومتسامحة نحو نفسه ومع محيطه، بل ينظر إلى الأمور وكأنه غنيٌ عن التَعَلُمْ، والشبه الكبير بينه وبين من يضع نظارات ملونة على عينيه، يرى كل شيء من خلال لون عدساتها، ولا يمكنه أن يرى الأشياء بألوانها الحقيقية، والمرء مجبول بالفطرة على حب التعويض في أي نقصٍ يشعر فيه بشكلٍ واعٍ، وغير واعٍ، فأمر طبيعي أن يتعزز التعويض..والمرء هنا يعوّض من خلال التعلّق بكل الأشياء، والموجودات، ويخيل إليه أنه الحب، والحب.. عقلية مرنة قبل أي شيء… تتجاوز أطُر ذواتنا المنكمشة… التي نعطيها أهمية كبرى… والحب فعلٌ خلاقٌ يصل الكائن البشري بجواهر الأمور وحقائق الأشياء…
وليس الحب أبداً كما يراه ويعتقده البعض على انه تملك وامتلاك…ولكنه هبة الله... أمّا التملك فهو نوعٌ من التعلق... وحلٌ للصراعات بطريقة لا شعورية يحقق الأمن الداخلي للمرء بصورة مؤقتة، وآنية... ويهتز المرء وكأن الأرض قد زلزلت تحت قدميه عندما يشعر بخسارته لما يمتلك... والتملك يجعل المرء متمحوراً على ذاته، وحولها فقط، وهو كذلك خوفٌ داخلي..ولا يمكن أن نجد حباً ناضجاً وتفكيراً سليماً في حالة الخوف.
وإذا ما راقبنا تصرفات «سحر» وأقوالها نجدها..تعلقاً وتملكاً، فالطفل الذي تُقَدمْ إليه لعبة ما، يطير بها فرحاً، ويفقد صوابه وينفجر انعكاسياً إن حاول أحد من أترابه المساس بها.
نلاحظ أن هذا الطفل عندما تُقَدمْ إليه اللعبة ينشغل عن الكون برمتّه، ويتفرغ لها وكأن الملائكة قدمت له الدنيا بأكملها، وتنفجر البراكـين وتزمجر الأرض زلزالها، إن حاول أيّاً كان المساس بهذه اللعبة، ثم نجده بعد فترة وجيزة من الزمن يملّ هذه اللعبة وقد يرميها أو يحطمها أو يهبها لأحدٍ ما... وإذا عدنا إلى سلوك «سحر» ألا نرى أنها كبيرة الشبه بسلوك ذاك الطفل من الناحية النفسية على الأقل؟!.
ولنعد قليلاً إلى الأسرة فتكوينها جعل من الأم التي تمتلك أصلاً الاستعداد والمؤهلات لان تكون المسيّرة، والمسيطرة والقائد… فحب القيادة، والبروز والزعامة واضح لديها، والسيطرة واضحة بشكل جلي.. وكَوْنَها تربّت في كنف شـخص ما، ووفق ظروف ما من الجاه والعز، ومحط أنظار الآخرين جعل منها ذات أنفةٍ، وعظمة، ثم انتقلت إلى أسرة أخرى بحكم زواجها لتتعامل مع عقلية، وظروف، وبيئةٍ مختلفةٍ تماماً، فكانت الهوة بين ما كانت فيه وما آلت إليه…
فحررت توازنها بالسلفيات، والماضي والذكريات، وبدأت تقود الأسرة وفق عقليتها تلك. إذ نظراً لغياب دور الزوج اضطرت لقيادة الأسرة وأطلقت العنان لعدم توازنهـا… فأحاديثها، وكلامها هي طاقة ذهنية تعّبر عن مكنوناتها الداخليـة..
أما الأب فنرى من خلال سيرة حياته الاضطهاد الواضح، والشك بمن يحيط به بنسبٍ متفاوتة وكأنه يتوقع أو ينتظر الغدر منهم، عدا عن حبه الكبير للعظمة، والقوة، والجاه، إضافة إلى افقه المحدود في التفكير. ومحدودية فهمه المعنى لأي شيءٍ يُقال، وأيّ تصرف يُسْـلَكْ، باختصار شديدٍ الأب في حالة من فصام الذهن المزمن (غير المفرق) وهو أشبه ما يكون بالعته الشيخي المبكر………
في سنوات الطفولة ينبغي للطفل أن يرى علاقات متوازنة بين الأبوين، ويمر بمراحل نضجه العقلي والعاطفي والنفسي والجنسي بسلام، وغياب دور أحد الأبوين أو كليهما، أو وجود خلل ما بينهما أو بينهما وبين الآخرين..يؤثر على نمو وتطور شخصية الطفل وقد لا يبدو هذا واضحاً في الطفولة الباكرة لكنه يبدو جلياً في المراهقة أو مراحل النضج والرشد. وفي الأسرة التي ضمت «سحر» نجد أن السلطة، والسيطرة، والقيادة للام على الأبناء. مما أدى إلى دلال الإناث بصورة غير سليمة، وكبح الذكور بطريقة غير سليمة أيضاً.
ويمكن القول أن الذكور طعّموا بشيء من الأنوثة المعنوية. والإناث بالسلطوية والذكورة المعنوية،وهذا أدى إلى أن الذكور أو معظمهم رغم ما بلغوا من الرشد والعمر. غير قادرين على التعامل مع الإناث، أو على الأقل فاشلين في ذلك، والإناث في الأسرة غير قادرات أيضاً على التعامل بشكل منطقي مع الإناث… فهنالك كره وعداء لا شـعوري نحو الأنثى عند كلٍ من الذكور والإناث في الأسرة.
حقيقةٌ أن الآباء يأكلون الحصرم، والأبناء يضرّسون… والمنطقي أن يغدو كل فرد من أفراد الأسرة عصابياً بطريقة أو أخرى، كلٌّ وفق طاقة تحمّله، ووفق بنيته، ونضجه الصحي والنفسي، مما أدى إلى الانسحابية ، والسلوك المدمّر للذات عند «أغيد» أودى به إلى ختم حياته منتحراً، والى الاكتئاب ثنائي القطب بطوريه الهمودي والهوسي عند «عمران» والى القرحة المعوية عند «يسر» والى عشق الذات وعبادتها النرجسـية عند «ماري» والى الاكتئـاب والشـخصية المدمرة للذات عند «سحر» وإلى…… عند «خولة» وإلى………
فكل فرد من أفراد الأسرة له عصابه الخاص به. والعصابي لا يتألم حباً وعشقاً بالألم...لـكنه لا يدرك ولا يدري بأن عصابه انطلق...وأمنه الداخلي منوطٌ بـه، والعصاب قبل كل شيء، رد فعل دماغي ونفسي وبحث لا شعوري عن الأمان ومحاولة للتكيف والتعايش والاتزان مع النفس والمحيط... والعصاب في سن الرشد ما هو ألاّ تكرارٌ يقتصر على وضعٍ عصابيٍ خاصٍ في مرحلتي الطفولة والمراهقة... والعصابي في حالة حصارٍ دائمٍ من الناحية الذهنية، وهو كما ذكرت ضربٌ من ضروب التكيف... ويجلب إحساساً مزعجاً ودائماً، ومتناوباً من الاستياء المتوالي والدائم من الذات ومن الآخرين، فالعصاب لا يمكن أن يولّد الاستقرار والهدوء والطمأنينة………
والإناث في الأسرة رفضن قانون الحياة. والذي يدعي وفق مجتمعنا، المجتمع الذكوري... أي رفضن الخضوع لقانون الذكورة، لأنهن يردن تعويض شيء ما في تكوينهن النفسي، فبدون وعي منهن بدأن يبغضن الذكور..والأنثى هنا ترغب لا شعورياً بإذلال الرجل… وتغار من الرجل... وفي نفس الوقت تحتقر الأنوثة.. والغيرة هنا مصدر ألم قاتل للأنثى دون وعيٍ منها، وعرضٌ من أعراض ضعف وجداني، وعدم نضج نفسي، وفقر تربوي… والغَيّورة تعتقد أنها تحب، لكن ما تبحثه ليس سوى البحث عن أمنها الداخلي الخاص، فتقع هنا في التعلق... وكل ما يحمله المرء من موروثات وتربية توّلد قناعات وآراء وتناقضات تقبع في أغوار النفس البشرية، وهي توجه من ذاك العمق الخفي حياة الإنسـان، وتحددها، وهنا يعيش المرء المتناقضات والصراعات والرياء الشعوري إن جاز لنا القول…).
المدخل إلى كتاب (فكرة وجيزة عن اضطرابات الشخصية)
المصدر: المجلة الإلكترونية للشبكة العربية للعلوم النفسية
واقرأ أيضاً:
اضطـراب الشـخصية المتجنبـة / المريض الغاضب / المريض المغوي / تحليل لمقابلة مع مريض