مفهوم العصابة ودينامياتها:
العصابة جاءت لغويا من العصب وهو رباط الرأس، وهذا يشير إلى الرباط القوي بين أفراد ما يطلق عليهم بالعصابة، والعصابة (بكسر العين) هي الجمع من الناس، وهذه الكلمة تستخدم في الإشارة إلى الجمع سواء كان خيّرا أم شريرا، ولكن في العصر الحالي شاع استخدام كلمة عصابة للإشارة إلى مجموعة من الناس تربطهم علاقة مشبوهة أو مجرمة ويمارسون أنشطة سلبية.
والعصابة عموما تتبع قوانين الجماعة ودينامياتها من حيث وجود قائد مطاع وأتباع يسلمون إرادتهم للقائد مقابل حمايتهم ورعاليتهم وتحقيق مصالحهم، والمعنى السلبي للعصابة يعني أنهم مجموعة تحتية تخطط وتعمل لتحقيق مصالح ذاتية غالبا ضد مصلحة المجتمع والذي لا يحترمون نظمه أو أعرافه أو تقاليده، وقائد العصابة أو زعيمها غالبا يكون أكبرهم سنا أو أكثرهم ذكاء ودهاء وخبرة وبطشا وجرأة، وإما أن يكون هو منشئ العصابة أو يكون أفرادها قد اختاروه من بينهم ليحقق أهدافهم ويبسط حمايته عليهم.
والفئة العمرية الأكثر عرضة للدخول في العصابة هي 7–18 سنة فهؤلاء قادرون على الهرب من المدرسة التي لا يرغبونها أو من جحيم المشكلات العائلية في البيت أو من قسوة الوالدين ونبذهما أو إهمالهما، فالطفل أو المراهق هنا يشعر بالتعاسة في بيئته الأصلية فيبحث عن السعادة في بيئة أخرى فيلتقطه الشارع لينضم إلى مجموعة من الرفاق تمارس سلوكيات خارجة عن العرف ثم عن الأخلاق والدين ثم تتطور لتصبح خارجة عن القانون.
والعصابة تبدأ صغيرة وتمارس بعض المغامرات كأن تشكل قوة متحدة تخيف بقية الأقران، ثم تغريها قوتها بفرض قانونها على شباب الشارع أو الحي، ثم تمارس بعض الضغوط للحصول على احتياجاتها من المال والغذاء ووسائل الترفيه ثم تنتقل إلى السرقة وأعمال العنف وقد تصل إلى القتل، وعلى الرغم من عدوانية وتمرد أفراد العصابة إلا أن لديهم التزاماً غير مكتوب بالخضوع لزعيمهم والطاعة العمياء له، وكثير منهم تكون لديه سمات الشخصية الاعتمادية فيحركهم زعيم العصابة كيف يشاء، وهم يفتقدون التفكير النقدي ويفتقدون الحس الاجتماعي ويفتقدون الحس الديني والأخلاقي ويفتقدون الحس القانوني، ولهذا يتحركون بدافعين أساسيين:
دافع احتياجاتهم الذاتية ودافع توجيه وأوامر زعيم العصابة، وبما أن البيئة المنزلية في نسبة غير قليلة من البيوت أصبحت بيئة طاردة بسبب الفقر والمشكلات العائلية، وأصبح هناك عدد كبير من أبناء الشوارع فإننا نتوقع أن تزيد أعداد العصابات في المستقبل القريب والبعيد.
وقد لا تتكون العصابة في الشارع بل تتكون في الإصلاحيات (المفسدات) تلك التي يغيب عنها رشد الإصلاح وتقسو قلوب مشرفيها وتأخذ ملامح السجون، عندئذ تتشكل مجموعات صغيرة تتبع قادة يحركونهم نحو التمرد على قواعد ونظم الإصلاحية ويهيئون أنفسهم لنقل نشاطهم إلى الشارع حين تتهيأ الظروف. وقد يضطر الحدث الجانح للانضمام للعصابة سواء في الشارع أو في الإصلاحية (المفسدة) ليحمي نفسه من الاعتداءات الجسدية أو الجنسية التي ربما يتعرض لها لو بقي وحيداًَ، وليشعر أيضاً بالانتماء إلى مجموعة تمنحه أماناً وقوة وتلبي احتياجاته المحبطة وتتقبله كما هو، وكثير من مشرفي دور الرعاية والإصلاحيات يتعاملون مع الأحداث بمنطق السجانين فيمارسون معهم كل أنواع العنف وربما التعذيب وأحياناً الانتهاك والاغتصاب.
والحدث الذي تعرض لعنف أو تعذيب أو انتهاك أو اغتصاب يحمل كل آثار ما تعرض له في نفسه ليصدره إلى من يقع في طريقه من أحداث أصغر أو إلى المجتمع ككل حين يقدر على ذلك وهذا يسمى إزاحة العنف.
وقد أدت مشاكل كل دور الرعاية والإصلاحيات إلى تفريخ أعداد كبيرة من الجانحين تصدرهم هذه الدور إلى المجتمع حين يكبرون ولهذا فكرت الكثير من الدول في استبدال هذه الدور بمزارع واسعة أو مصانع أو شركات إنتاج تستغل طاقة الأحداث وتوجهها إيجابياً وتدمجهم في المجتمع الأوسع تحت إشراف راع ومتخصص، أو توزيع هؤلاء الأطفال على أسر ترعاهم كأبنائها فيعيشون جوا عائليا صحيا وذلك في مقابل دعم هذه الأسر ماديا واجتماعيا .
وقد تتصاعد تراكيب العصابات فيكثر عددها وتتشابك علاقاتها وقد تصبح عصابة دولية مسلحة ومع هذا يبقى القانون الأساسي يحكم سلوكها وهو الخضوع التام للقيادة المركزية والقيادات الفرعية، والانتماء القوي لتنظيم العصابة والعمل لتحقيق المصالح الذاتية على حساب المصلحة العامة وعدم الشعور بالانتماء للمجتمع الأوسع وعدم القدرة على الالتزام بقواعده الاجتماعية أو الأخلاقية أو الدينية أو القانونية.
أنواع العصابات:
1 – العصابة البدائية: وهي صورة شديدة التبسيط للعصابة تتكون من الزعيم وهو غالبا شخص متسلط ومغامر يتميز بجرأة غير عادية ولديه القدرة على اختراق النظم والقوانين والأعراف، وهذه الصفات تجعله بطلا في نظر أتباعه فيخضعون له ويطيعون أوامره، فهو بالنسبة لهم يمثل البطل والأب المفقود خاصة لدى الأطفال أو المراهقين الذين حرموا الأب فعلا أو مجازا.
والجانحون ينضمون إلى هذا النوع من العصابات بدافع الحرمان، فالحرمان من الأب يعوضه زعيم العصابة أو الأشخاص الأكبر فيها، والحرمان المادي والعاطفي يتم تحويله إلى السرقة، فالسرقة هنا فعل رمزي للحصول على احتياجات الحب والعطف والحنان، والانتماء للعصابة يوفر الاحتياج للأمن والمأوى. والطفل أو المراهق حين يحرم الحنان والهدوء والاستقرار والأمان في البيت، أو حين يشعر بالإهمال أو النبذ أو القهر، أو حين يتعرض لإساءات شديدة في المعاملة من أحد الأبوين أو كليهما، فإنه يهجر البيت ويتوجه إلى الشارع، وفي الشارع يبحث عن أسرة جديدة ينضم إليها ويشعر في كنفها بكل الأشياء التي افتقدها في بيته الذي هجره، وهنا تقدم العصابة بديلا متاحا للجانح يعوض من خلاله احتياجاته المحبطة.
والمنتمون إلى هذا النوع من العصابات بالإضافة لحالة الحرمان التي عاشوها، فإنهم أيضا شخصيات هشة ومتقلبة ومضطربة، ويميلون إلى الاعتماد على غيرهم وإلى الطاعة العمياء لقائدهم. وأهم ما يميز سلوك هذا المستوى من العصابات هو الترابط الشديد بين أفرادها مع الانفصال الشديد بينهم وبين المجتمع الأكبر، فهم يشكلون مجموعة تحتية منفصلة من ناحية الأفكار والمشاعر والسلوك، وهذه المجموعة تفكر وتعمل لمصالحها الشخصية فقط، كما أن علاقتها بالمجتمع الأوسع هي علاقة سلب ونهب لخيراته بكل الطرق الممكنة.
والمجموعة التي تشكل العصابة لا تتقبل قوانين المجتمع وأعرافه وتقاليده –كما ذكرنا– بل هي تنتهك كل ذلك لتحقيق احتياجاتها البدائية، وهم يعيشون على مبدأ اللذة ويسقطون مبدأ الواقع. وبما أن أفراد العصابة قد عانوا حرمانا ماديا وعاطفيا، وعانوا نبذا وعدوانا من أسرهم أو من مجتمعهم، لذلك فهم يحملون قدرا هائلا من مشاعر الإحباط والغضب والكراهية، وتخرج هذه المشاعر في صورة سلوك مضطرب يهدد أمن واستقرار المجتمع الأوسع. وفي هذا المستوى نجد أن مستوى ذكاء أفرادها غالبا تحت المتوسط (باستثناء زعيم العصابة)، ولا يجيدون التعبير عن أفكارهم ومشاعرهم، ولهذا يبقى لديهم مسار واحد للتعبير وهو الفعل، فعل السرقة أو الضرب أو النصب أو الاحتيال وأحيانا القتل. وهم بطبيعة شخصيتهم المضادة للمجتمع لا يتعلمون من أخطائهم ولا يشعرون بالذنب تجاه ضحاياهم ولا يشعرون بالانتماء إلى المجتمع.
2 – العصابة الدولية: وهي عصابات متخصصة بمعنى أنها تعمل في أشياء محددة مثل تهريب المخدرات أو الآثار أو غسيل الأموال أو تجارة السلاح غير المشروعة، وهؤلاء ينتمون لطبقات أعلى عمريا واجتماعيا، وذكاؤهم يكون غالبا أعلى من المتوسط، وهم مدفوعون بالطمع فيما هو أعلى من الاحتياجات الأساسية، ولديهم القدرة على التخطيط والتنظيم والتنفيذ بشكل بالغ الدقة والمهارة، وهم بسبب ذلك يصعب الوصول إليهم، خاصة الكبار منهم والذين يحرصون على الابتعاد عن التواجد المباشر في موقع الجريمة ويدفعون إليها عناصر تنفيذية أقل ذكاء وأقل خبرة ويستغلون احتياجات هذه العناصر للمال.
3 – العصابة الأيديولوجية: ويتبنى أفرادها قيما ومبادئ وأفكار معينة يحاولون تحقيقها من خلال ما يقومون به من نشاطات بعضها شديد الغموض وبعضها ظاهر، وهذه العصابات قد تعلن عن بعض نشاطاتها بهدف توصيل الرسالة المطلوب توصيلها لم يهمه الأمر، وقد ينتمي إلى هذا النوع من العصابات بعض أصحاب الرؤى السياسية أو الفلسفية أو الفكرية في محاولة لتحقيق أهداف يرونها سامية، أو كتعبير عن رفضهم للمنظومات الحياتية القائمة في المجتمعات التي يعيشون فيها. وقد تكون لهذه العصابات قضية يكافحون من أجلها كتحرير طائفة من ظلم حقيقي أو متخيل، أو مقاومة اتجاه اجتماعي أو سياسي أو ديني معين.
4 – عصابات الفساد: وهي تتكون في حالة وجود ما يسمى بالدولة الرخوة أو الدولة القرصان. ففي الدول الخوة (والتي يضعف فيها القانون وتضعف الرقابة وتتسم بالتراخي والبطء والجمود) تتكون مجموعات وشلل مترابطة تماما كالعصابات لتحقق مصالحها الشخصية على حساب المصلحة العامة فيقوم مثلا رئيس شركة أو مدير مستشفى أو وكيل وزارة بدور زعيم العصابة ويقرب له مجموعة من الموظفين التابعين وتبدأ هذه المجموعة في العمل لتحقيق مصالحها الخاصة واستغلال كل موارد وإمكانيات المؤسسة لصالحهم ويأتي كل هذا على حساب المصلحة العامة، وقد يؤدي هذا إلى نشأة تكتلات أخرى داخل المؤسسة تحاول أن تواجه التكتل الأول وتبحث هي الأخرى عن مصالحها، وهكذا يمكن أن تتحول المؤسسة إلى مجموعة عصابات تعمل لصالح أفرادها، وقد يحدث هذا الأمر على مستوى بلد بأكمله حين تضعف المنظومة العامة ويضعف الانتماء العام فتقوم كل مجموعة متقاربة بالتكتل والعمل بشكل انتهازي ذاتي للحصول على ما تريد ضاربة عرض الحائط بأي قواعد أو قوانين. وفي حالة الدولة الرخوة قد يكون هناك استنكار لهذا السلوك ولكنهع استنكار باهت وتافه لا يمنع انتشاره.
أما الدولة القرصان فتظهر في المراحل المتأخرة من الفساد، وهي تسبق الانهيار العام للنظام مباشرة، ذلك الانهيار الذي يمكن أن يحدث في غضون شهور أو سنوات ولكنه بالضرورة آت آت، لأن قوانين المجتمعات لا تحتمل وجود الدولة القرصان لفترات طويلة، كما أن قوانين القرصنة تجعل الجميع يأكلون بعضهم البعض بعد أن تحولوا لعصابات فيصبح الانهيار حتميا. وفي حالة الدولة القرصان (وهي قمة الفساد السياسي) يتحول جهاز الدولة نفسه إلى مؤسسة للفساد والسلب والنهب ويعمل جميع أفراد جهاز الدولة لتحقيق مصالحهم الخاصة مع المبالغة في الحديث الإعلامي عن المصلحة العامة، والمسئولون في هذه الحالة يتحايلون على القوانين واللوائح وحتى على الدستور القائم، وتحدث تحالفات واتفاقات مشبوهة بين رجال السياسة ورجال المال بما يحقق مصالح الطرفين على حساب مصالح الجماهير، ويشيع الفساد في ظل الدولة القرصان حتى يصبح واقعا مألوفا يحاول بقية الناس تعلمه وإتقان آلياته لكي يتكيفوا مع منظومته السائدة.
5 – عصابة العولمة: وأكبر مثال على ذلك النوع ما تفعله الولايات المتحدة حيث عمدت المجموعة اليمينية المتطرفة بقيادة بوش إلى سلوك قريب الشبه جداً بسلوك العصابات فهذه المجموعة لها رؤية خاصة للعالم وتملك القوة لإخضاعه وابتزازه فراحت تمارس القرصنة على الأمم المتحدة لتلغي الشرعية الدولية وتحتفظ لنفسها بسلطة القاضي والجلاد وتهاجم دولاً مثل العراق وأفغانستان فتمحو بنيتها التحتية والفوقية بناءاً على رؤيتها الخاصة خارج إطار الشرعية القانونية والشرعية الأخلاقية والشرعية الدينية. وهذه المجموعة العصابة تستهوي وتضم إليها دولة أخرى مثل انجلترا تصبح تابعاً لها في كل مخططاتها بحثاً عن المصالح الخاصة وتحقيق الأطماع، وقد تنضم إلى هذه العصابة دولاً أخرى ضعيفة أو خائفة لتحتمي بالعصابة وزعيمها من أي خطر حقيقي أو متوهم.
وهكذا نرى أن سلوك العصابة قد يأخذ أشكالا مختلفة بعضها بدائي نراه في الجانحين من أطفال ومراهقي الشوارع وبعضها الآخر يمارسه ذوو الياقات البيضاء في مستويات قيادية عليا.
ولابد هنا أن نفرق بين سلوك العصابات الغامض والتحتي والمتوجه نحو تحقيق المصالح الذاتية ضد مصلحة المجتمع، وبين مجموعات الضغط ومجموعات المصالح والتي تعمل وتضغط في سبيل أهداف تخدم أصحابها وتصب أيضا في صالح المجتمع الأكبر، وتندرج الأحزاب والجمعيات والنقابات تحت هذا التوصيف، وهي مجموعات إيجابية تعمل في النور ضمن المنظومة العامة وضمن تحقيق الأهداف العليا للوطن بشكل يحافظ على التوازن بين المصالح الذاتية لهذه المجموعات وبين المصلحة العامة وهذا يحدث فعلاً في النظم الديموقراطية التي راعت تلك الرغبة الفطرية في تجمع أصحاب المصالح، فوظفت ذلك في أشكال ديموقراطية شفافة تحقق المصالح الخاصة والعامة في آن، أما في الدول الاستبدادية والدول الضعيفة فإن مجموعات المصالح تنفصل تماماً عن الصالح العام وربما تستخدم هذه المجموعات قوتها أو قوة النظام في تحقيق مصالح ذاتية تتعارض مع المصلحة العامة، وهنا يأتي الخطر بين تحول بعض الأحزاب أو المجموعات أو الجماعات أو المؤسسات إلى أن تسلك سلوك العصابات.
والمثال الأوضح على ذلك كان في حزب البعث العراقي الذي كان سلوكه أقرب ما يكون إلى سلوك العصابات من حيث سيطرة فرد ذو سمات سيكوباثية على كل شيء والتفاف مجموعة حوله تشاركه الكثير من السمات وتقبض على مقدرات بلد بأكمله وتوجهها حسب رؤيتها ومصالحها، وتمارس قدرا كبيرا من البلطجة والقرصنة، وتدخل في صراعات وصدامات دامية مع الداخل والخارج تنتهي نهاية مأساوية يدفع ثمنها كل أبناء العراق، وللأسف الشديد هناك الكثير من الدول العربية مرشحة لنفس المصير نظراً لإتباعها نفس الأساليب ولو بأشكال ودرجات متفاوتة.
وهكذا يلتقي التوربيني مع صدام حسين مع بوش على مائدة واحدة وما خفي كان أخطر.
اقرأ أيضاً:
الباشا والخرسيس / ماذا حدث للفلاح المصري؟ / الدركسيون فيه بوش / الزملكاوية!