ما إن انتهيت من إصدار كتابي عن "الشخصية المصرية" حتى نصحني أحد أصدقائي بإعادة طباعة الكتاب ولكن بعد فهم عميق للشخصية الزملكاوية, فسألته متعجبا وهل هناك ما يسمى بالشخصية الزملكاوية؟....وما علاقة الشخصية الزملكاوية بالشخصية المصرية عموما؟؟....فرد على الفور متعجبا من أميتي الكروية والنفسية:
بالتأكيد....يكفى أن تنظر في وجه الشخص أو ترى جلسته أو تسمعه يتكلم لخمس دقائق حتى تقول: ها هو زملكاوي!!....وسوف تكون مصيبا في أكثر من 90% من الحالات, ثم إن الشخصية الزملكاوية تجمع أكبر قدر من خصائص الشخصية المصرية في علاقتها بجهازها الإداري وفى علاقتها بلاعبيها وفى علاقتها بنجاحاتها وإخفاقاتها.
لقد أصبح الموضوع كبيرا ودخل في نطاق وطني لا يمكن السكوت عليه وربما يمس الأمن القومي في رأي بعض الناس, وأصابني الحزن على أنني لم تكن لي انتماءات كروية محددة ومؤكدة طوال سنين عمري, وكنت (وما زلت) أفخر بموقفي المستقل كرويا وسياسيا, وهنا توقفت وتشككت فأنا أعتقد أن الأهلاوية أكثر عددا, وهم يمثلون في الغالب عموم الناس, ولذا سألته مباشرة لعل انطباعي يكون خاطئا أو ساذجا: أليس الأهلاوية هم الأكثرية؟ فرد على الفور وكأنه كان يسابق أفكاري: الأهلاوية أكثر عددا والزملكاوية أكثر صخبا!!!!, إذن بما أن المصريون يتميزون بكثرة العدد (أو هكذا يعيّرنا المسئولون ليل نهار) وكثرة الصخب.
فإن الأهلي والزمالك ليسا فقط ناديين أو انتماءين كرويين وإنما هما عصب الخصائص المصرية في نظر محدثي الذي يستغل جهلي الكروي للقدح فيما توصلت إليه من خصائص للشخصية المصرية بينما أنا جاهل بخصائص الشخصية الزملكاوية والشخصية الأهلاوية, وهنا فهمت معنى وقيمة سؤال الأستاذ أحمد المسلماني للدكتور/ أحمد زويل في لقائه بجامعة أسيوط (وكان آخر سؤال في اللقاء) عن كونه أهلاويا أو زملكاويا?, فابتسم زويل وأجاب بذكائه المعهود "أنا مصري".
عموما لم تكن المهمة صعبة في تقصى خصائص الشخصية الزملكاوية, فعلى الرغم من أميتي الكروية حيث لا أتفرج على مباريات كثيرة بسبب مواعيدها التي تتعارض مع مواعيد عملي, إلا أنني دائم الفرجة على جمهور الزمالك وجهازه الفني والإداري حيث أراهم في الشارع وعلى الفضائيات بكثافة بعد عودتي إلى البيت, فهم ظاهرون جدا بعد انتهاء المباريات, فالمباراة مدتها ساعة ونصف, ولكن تداعياتها لديهم ساعات وأيام وأحيانا شهور وسنوات, فهم يهاجمون الحكم, وحامل الراية, والجمهور, واتحاد الكرة, والكرة نفسها, وأرض الملعب, والظروف, والحكومة, والجهاز الفني, والجهاز الإداري, والجهاز الدوري, والجهاز الهضمي !!.
ويرى بعض الزملكاوية ممن لديهم نزعة التميز التاريخي أن ناديهم في الأصل هو نادي الصفوة حيث كان يسمى "نادي فؤاد" نسبة للملك فؤاد, وأنه قام على انتساب علية القوم إليه في ذلك الوقت, ويرى البعض الآخر ممن لا يهتمون بالبعد التاريخي قدر اهتمامهم باللعب في الحاضر أن لعب نادي الزمالك أرقى وأجمل على الرغم من هزائمه المفاجئة والمحبطة والمخيبة لآمال جمهوره, كما يرون أن الخلافات المزمنة لجهازه الفني والإداري مردها حالة الديمقراطية التي تميز هذا النادي العريق المتحضر.
وليس مفهوما على وجه الدقة حتى الآن لماذا ينتمي شخص إلى ناد معين ويشجعه دون غيره ويظل مخلصا لهذا الانتماء طوال حياته؟.... فالبعض يراها مسألة صدفة تحدث في لحظة فوز كروي مفاجئ للزمالك صادف لحظة تفتح للشخصية على العالم, والبعض الآخر يراها وراثة حيث تتميز بعض الأسر بكثرة الأهلاوية أو الزملكاوية فيجد الأبناء أنفسهم وقد تأهلوا أو تزملكوا بلا إرادة منهم, وفريق ثالث يراها رد فعل عكسي, حيث يميل بعض الأشخاص إلى الخروج عن المألوف فتتشكل انتماءاتهم الكروية عكس الأسرة أو عكس مجموعة الأصدقاء أو المعارف وذلك طبقا لمبدأ "خالف تعرف", وهذا يؤدي إلى نوع من الحوار والتواصل بين المختلفين, وفريق رابع يرى في الانتماء الكروي تحقيقا لاحتياجات نفسية عميقة ومؤكدة لدرجة أن بعضهم بالغ في ذلك وكتب عبارة تقول: "قل لي إلى أي ناد تنتمي أقل لك من أنت" و "الناس على شاكلة نواديهم".
النادي الذي تشجعه يحقق لك احتياجات شخصية مهمة سواء في انتصاراته أو انكساراته. والناس عموما مغرمون بتشجيع الكره ومشاهدتها لأنها تمثل بالنسبة لهم القوة والجمال والقانون والحق والعدل, ولهذا يغضب الناس أشد الغضب حين يضعف فريق, أو حين تطيش لعبة أو تضطرب, أو حين يخطئ الحكم أو يظلم, وكأنهم يستعيضون عن الضعف والقبح والظلم في حياتهم اليومية بما يرونه في الملعب من نظام وتنسيق وقوة وجمال ورشاقة وبراعة وعدل. وقد يكون الانتماء الكروي في حد ذاته مطلبا نفسيا واجتماعيا خاصة حين تضعف الانتماءات الأخرى, وقد يكون اختلاف الأندية والانتماءات مدعاة للتواصل بين البشر, حتى ولو كان تواصلا صاخبا أو حادا في بعض الأحيان فهو أفضل من العزلة والملل.
وهناك ظاهرة لا تخطئها في أي زملكاوي, فعلى الرغم من إحباطاته من عثرات ناديه ومشكلات أجهزته سالفة الذكر, ولعنه الدائم لهم جميعا إلا أنه يستمر زملكاويا!!, وقد سألت أحد أصدقائي الزملكاوية يوما, وهو في حالة غضب شديدة ودائمة مما يحدث في الزمالك ومن الزمالك: لماذا لا تغير جنسيتك الكروية, أو تطلب حق اللجوء الكروي (على رأى عمرو أديب حين هدد بذلك وهو في لندن), فرد علىّ متألما ومتعجبا: إنه الانتماء, فكما أنك مصري تعاني من مصريتك كثيرا هذه الأيام في الداخل والخارج إلا أنك لا تستطيع الفكاك من انتمائك, فقلت له في ألم: صدقت!!, وتذكرت ذلك الشخص الذي رد على سؤال: "إنت أهلاوي ولا زملكاوي؟ بقوله: أنا زملكاوي بس باتعالج" .
ومن المشاهد المألوفة والمتكررة أن ترى زملكاويا واحدا في أحد المقاهي أو أحد وسائل المواصلات يواجه عددا كبيرا من الأهلاوية ينتقدهم ويهاجمهم ويتوعدهم, ويستمر هذا المشهد ربما لعدة ساعات وهو صامد لا يكل ولا يمل ولا يخاف بطش الأهلاوية وزيادة عددهم. وربما يعكس هذا بعض السمات لدى الزملكاوي مثل القدرة على المواجهة والجدل إلى أقصى درجة, و "المعافره" و "المقاوحه", والرغبة في التفرد بعيدا عن آراء عموم الناس, والخروج عن المألوف والسائد, وتبني موقف المعارض, وحب المغامرة, والاستعداد للاشتباك اللفظي مع المنافسين مهما كان عددهم (بشرط أن يبقى لفظيا فقط) .
وهذا الموقف المتفرد والمنفرد قد يعطى الزملكاوي إحساسا بالزهو والاختلاف والتميز عن عموم الناس رغم ما يعانيه من ضغوط ويواجهه من إحباطات. وحين أرى السيد مرتضى منصور ينتقل من اشتباك إلى اشتباك في المحاكم ومجلس الإدارة والفضائيات, أرى نفسي حائرا: أأدعو له بسرعة فض الاشتباك أم أدعو له بدوام الصحة والاشتباك (أيهما أفضل له وأنفع؟!..لست أدرى).
وكنت في وقت من الأوقات أظن أن الزملكاوية لديهم قدرة هائلة على تحمل الإحباط والهزائم غير المنطقية أو غير المتوقعة من فريق كبير مثل الزمالك له انتصاراته العديدة , إلا أنني اكتشفت بعد طول تأمل أن الزملكاوية لديهم احتياج لأن يواجهوا إحباطات وأن يكونوا في موقف المظلوم, وأن يعيشوا على انتظار تحقق الحلم , وناديهم يعطيهم العديد من الانتصارات, ولكنه في ذات الوقت يحافظ على احتياجاتهم العميقة فينهزم أحيانا أمام فريق مجهول, أو تتدهور أحواله الإدارية بما يوحى بقرب الانهيار, أو تحدث صراعات شديدة في أجهزته الفنية والإدارية تصل شظاياها إلى أغلب صفحات الصحف وشاشات الفضائيات.
وموقف المظلوم أو المحبط قد يعطي مساحة لصاحبه إما للشكوى (من طوب الأرض) أو للأمل في نصر قريب وانصلاح الحال (الذي هو من المحال), وبما أن هذا الموقف يشكل احتياجا نفسيا إذن فلا بد وأن يظل الحال كما هو, أو على الأقل لا يتغير كثيرا. وإضافة إلى ما ذكرنا آنفا فإن الانتماء لناد معين وتشجيعه شيء لا يأتي مصادفة أو عفويا.
لكن الواقع يقول بأن الانتماء الكروي يرتبط بحاجات بيولوجية ونفسية كثيرة, فتركيبة الهرمونات والناقلات العصبية لدى الزملكاوي تجعله في حالة استنفار دائم ورغبة في محو آثار الهزيمة السابقة الماحقة, وسعي نحو تحسين الأحوال, وإعطاء فرصة جديدة للمدرب ومساعديه, وبدأ صفحة جديدة مع الجهاز الإداري الجديد, ثم هو يحتاج من وقت لآخر لمفاجئة أو صدمة كروية أو إدارية من ناديه تجعله منشغلا بما كان وما يجب أن يكون, وتعطيه فرصة لإلقاء اللوم على أحد ما أو على شيء ما, وتسمح له بالاشتباك مع خصم, أي خصم, وهكذا يتجدد النشاط وتعمل الغدد الصماء وغير الصماء, وهذا يمحو الكثير من الملل ويدعو إلى التعلق بالأمل.
وقد يكون الانتماء الكروي بديلا أو مكافئا للانتماء السياسي, فيحقق فيه المنتمى كل ما يريد بعيدا عن أجواء السياسة الخطرة والشائكة, وتخرج اعتراضاته وانتقاداته تجاه جهاز الكرة وتجاه اللاعبين بدلا من خروجها تجاه الحكومة أو النظام, وبهذا المعنى تتسرب روح المعارضة من عالم السياسة إلى عالم الكره (تخيلوا لو أن صديقي العزيز/ إبراهيم عيسى ترك المعارضة السياسية وتفرغ للنقد الكروي!!).
وبناءا على هذا الافتراض فإن مشجعي الزمالك ينتمون في الأغلب إلى تركيبة المعارضين الذين يسعون دائما لصورة أفضل ولكنها لا تتحقق كما يريدون, وهم دائما في حالة اشتباك مع الواقع الذي ينتقدونه أو يرفضونه ويحاولون تحسينه.
ومن هنا نفهم التكوين النفسي لجمهور الزمالك وهو يحاول أن يقف مع ناديه المظلوم -دائما- ويدافع عن حقه في النهوض من العثرات -المتكررة-, وهو تكوين أقرب ما يكون -كما ذكرنا- إلى تكوين المعارضين السياسيين الذين يفضلون دائما موقف المدافع عن الحقوق المسلوبة, والفئات المظلومة والمضطهدة, ولهذا لا نستغرب وجود عدد لا بأس به من الزملكاوية في صفوف المعارضة بل هم نجوم لها. والمعارض المزمن لا يصلح لأن يكون في حكومة أغلبية لأن تركيبته لا تتفق مع الغالب ومع من بيديه مقاليد الأمور.
ولهذا يبحث دائما عن أحد يعارضه. ومن هنا تتضح فكرة أن نادي الزمالك لو حقق انتصارات متوالية, وانصلح حال أجهزته فربما كان ذلك سببا في هجر عدد كبير من مشجعيه والمنتمين إليه انتماء احتياج واضطرار وحب, أو على الأقل فتور انتمائهم, ولهذا فإن النادي يعرف بشكل غريزي غامض متى ينتصر ومتى ينهزم ومتى يحبط مشجعيه ومتى يرفعهم في أعالي السماء ومتى يهبط بهم في سابع أرض, فهذا كله ينشط أجهزتهم الحيوية, ويعطيهم فرصة للشكوى والهجوم والإسقاط والإزاحة, وكلها احتياجات نفسية ملحة لدى مشجعي الزمالك ولدى المعارضين بوجه خاص ولدى فئات أخرى من الناس تبحث عن التفرد والتميز والوضع الأفضل, وتجرى وراء المحال وتبحث عن التحدي الذي لا يطال.
نأتي لوجه الشبه بين الزملكاوية والشخصية المصرية, كما يراها صديقي.....معذرة لن نتمكن من عقد هذه المقارنة حيث انشغل صديقي الزملكاوي بالجدل مع أهلاوي عنيد وتركني وحدي, لذا سأترك لك عزيزي القارئ محاولة رؤية أوجه الشبه أو الاختلاف بين الزملكاوية والمصريين, مع أطيب التمنيات للجميع بالشفاء.
اقرأ أيضاً:
الباشا والخرسيس / سلوك العصابة بين الجانحين وأصحاب الياقات البيضاء / ماذا حدث للفلاح المصري؟ / الدركسيون فيه بوش