يشيع خطأ –حتى على مستوى المثقفين– استخدام كلمة فصام في الشخصية أو انفصام للدلالة على تناقضات في أفكار بعض الأشخاص أو سلوكياتهم، وقد أثار مسلسل الملك فاروق مثل هذا الجدل حين كان يصرح بعض كبار المثقفين أن فاروقا كان يعاني من انفصام في شخصيته وذلك بناءا على تناقضاته الكثيرة واختلاف توجهاته من مرحلة لأخرى بشكل يدعو للحيرة والبلبلة، لدرجة أن بعضهم قال بأن هناك فاروقين:
فاروق قبل حصار الإنجليز للقصر الملكي وإرغامه على قبول حكومة الوفد وفاروق بعد هذا الحدث. وقد وقع في خطأ التسمية عالم كبير في التاريخ هو الدكتور يونان لبيب، مما حدا بعالم كبير آخر في الطب النفسي هو أستاذنا الدكتور يحيى الرخاوي أن يقف ليصحح هذا الخلط بين مرض الفصام وبين أشياء أخرى لا تمت له بصلة أو ربما تشبهه شكلا في بعض المواقف والحالات.
فتناقضات البشر وتقلباتهم ربما تحيرنا وتدعنا في لبس شديد كيف يقع هذا السلوك من هذا الشخص، وكيف نوائم بينه وبين سلوكيات أخرى صدرت عنه، وكيف نضع ما يصدر عنه في سياق منطقي واحد؟.
والذي يفهم النفس البشرية جيدا يعرف أنها قابلة بحكم تكوينها للتقلب والتغير والتحول وربما التناقض، فقد خلقها الله وفيها القابلية للفجور والتقوى [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا] (الشمس 7-10).
وعلى الرغم من كون الإنسان يبدو كائنا واحدا أو متوحدا إلا أنه يحوي بداخله نفوسا مختلفة (النفس الأمارة بالسوء والنفس اللوامة والنفس المطمئنة والنفس الراضية والنفس المرضية والنفس الملهمة..... إلخ)، وذوات متعددة (ذات الطفل وذات البالغ وذات الوالد) (والذات الاجتماعية، والذات المثالية، والذات الحقيقية)، ومستويات للشعور (اللاشعور، وما تحت الشعور والشعور)، وحالات للأنا (الهو والأنا والأنا الأعلى).
وهذه النفوس أو الذوات أو المستويات أو الحالات قد ينشط بعضها في ظروف ما، وينشط بعضها الآخر في ظروف أخرى، وهذا ما يعطي صورة التقلب أو التغير أو التعدد أو التناقض، وهي أشياء متوقعة كلها في السلوك الإنساني، ومع هذا يبقى في الشخصيات المتوازنة درجة من الثبات والموضوعية والمنطقية تجعلنا نفهم السياق العام للشخصية، أما الشخصيات الهشة أو غير المتوازنة فإنها تعبر عن نفسها في الظروف المختلفة بسلوكيات متضاربة أو متناقضة.
ولكل شخصية قائد أعلى يقود سلوكها ويوجهها طبقا لدستور الشخصية ومرجعيتها، ولكن في ظروف معينة قد يضعف هذا القائد الأعلى ويتولى قيادة الشخصية قائد بديل فيسلك بها مسالك مختلفة عن سياقها المعتاد، وقد يحدث هذا بصفة مؤقتة أو دائمة حسب درجة تماسك الشخصية وحسب المجال والظروف التي تحيا فيها. وهذه التغيرات والتقلبات وحتى المتناقضات قد تحدث للشخص دون أن يكون بالضرورة مريضا نفسيا بل تحدث له كتعبير عن طبيعته البشرية، ولكن مع هذا قد يصل الأمر إلى الدخول في حالات مرضية تلتبس مع بعض الحالات غير المرضية.
ويتوقف ثبات الشخصية أو عدم ثباتها على التوازن بين الجزء الثابت في الشخصية (وهو المسئول عن بقاء الشخص والمحافظة على أمانه واستقراره) والجزء المتحرك فيها (المسئول عن النمو والتطور)، فالجزء الثابت حين يتضخم يدعو الإنسان للسكون وربما الجمود طلبا للاستقرار والطمأنينة والأمان، وهو يرفع شعار "استقرار الاستمرار واستمرار الاستقرار"، أما الجزء المتحرك فإنه في حالة تزايد نشاطه يدفع الشخص للحركة وربما المغامرة أو المخاطرة بحثا عن الرؤية والمعرفة والنمو، وقد يعرض الشخص للمخاطر أثناء رحلة نموه إذا لم تكن حركته محسوبة جيدا.
والخلط الأكبر يحدث بين الفصام (Schizophrenia) وبين ما نسميه ازدواج الشخصية أو تعدد الشخصية (Double or multiple personality)، وهو اضطراب نفسي يحدث فيه (في ظروف معينة) انشقاق جزء من الشخصية (غالبا جزء كامن أو مكبوت) ليمارس قيادة الشخصية للحظات أو أيام ويفعل ما تعجز أو تخجل الشخصية الأساسية عنه في سياقها المعتاد، وقد عبر الأدب والفن كثيرا عن هذه الحالات (دكتور جيكل ومستر هايد في الأدب الغربي وبئر الحرمان في الأدب العربي، وقد تم تحويل هذه الأعمال إلى أفلام ناجحة ومثيرة).
ولست أنسى ذلك الشاب الوديع الخجول شديد الأدب الذي كان يغيب عن أسرته عدة أيام بشكل غامض ثم يعود إليهم ولا يدري أين كان ولكنه يفاجأ بأموال وقطع من الحشيش في جيب سترته، ويفاجأ بأشخاص يقابلونه في الطريق ينادونه باسم غير اسمه ويطالبونه ببضاعة وفلوس، وهو يستغرب منهم ذلك. واتضح بعد ذلك أنه كان يترك المنزل ويتحول إلى تاجر مخدرات يبيع ويشتري لعدة أيام ويجلس على المقاهي ويتحدث بطريقة مختلفة وبلهجة مختلفة (كأبناء الشوارع)، ثم يعود بعد أيام إلى حالته الطبيعية وينسى تماما ما كان في تلك الأيام القلائل.
وأيضا فتاة من أسرة متدينة تحرص بشدة على حشمة ملابسها وعلى ستر كل جزء في جسمها ربما بشكل مبالغ فيه، وفجأة تخلع تلك الملابس وتتوجه إلى أحد الأفراح القريبة لتمارس الرقص كراقصة محترفة وسط ذهول الحاضرين ودهشتهم، وبعد لحظات تفيق من سكرتها وتدخل في نوبة صراخ وبكاء شديدين وهي لا تتذكر أي شيء مما حدث. هذه نماذج من حالات نسميها في الطب النفسي اضطرابات انشقاقية (dissociative disorders)، وهي تعني أن جزء من الشخصية يكون كامنا أو مكبوتا يتمرد على السياق العام للشخصية ويخرج فجا متحديا في حالة مختلفة من الوعي ويقود الشخصية لتحقيق رغبات أو مطالب معينة (غالبا متناقضة مع السياق العام للشخصية) ويستمر في ذلك إلى أن تفرغ الشحنة التمردية ثم يعود للكمون مرة أخرى.
وهذه الحالة من الهستيريا الانشقاقية تسبب لغطا شديدا لدى الناس فالمريض(أو المريضة) يتكلم بلكنة مختلفة، وقد يعتقد من حوله أنه يتكلم بلغة مختلفة، وقد يخرج محتوى نفسه على لسان جني فيطلب مثلا تحقيق شيء معين يرغب في تحقيقه ولا يجرؤ على طلبه في حالة وعيه المعتادة، أو امرأة تكره زوجها أو هي غاضبة منه فتتحدث بلسان جني طالبة الطلاق من زوجها لكي يتزوجها ذلك الجني الذي يعشقها.
وهذه الحالات تكثر في النساء خاصة القابلات منهن للإيحاء. ومما يزيد الأمر تعقيدا تدخل من يدّعون إخراج الجن والقيام بمحاورة ذلك الجني الذي ادّعى تلبس المريضة ومحاولات إخراجه أو طرده من جسدها، ويتحول الأمر إلى معركة مقدسة خاصة حين يعلن الجني المتحدث على لسان المريضة أنه من ديانة أو من طائفة أو من جنسية أخرى، وهنا يقوم المعالج الشعبي بضرب المريضة (أو المريض) لإخراج الجن وقد يقسو في الضرب للدرجة التي تموت فيها المريضة أو المريض.
وهذه الحالات بالذات تسبب خلطا شديدا لدى العامة ونسبة غير قليلة من المثقفين على أنها تلبس من الجن أو نوع من تأثير السحر، وهم لا يختلفون في ذلك عن معتقدات القرون الوسطى عن المرض النفسي أنه بتأثير أرواح شريرة تلبست المريض وبناءا على ذلك التصور كانوا يضربون المرضى النفسيين أو يحرقونهم لطرد تلك الأرواح الشريرة التي تلبستهم.
وحالات الانشقاق الهستيري تصيب فئة من الناس يعجزون عن رؤية وقبول مناطق معينة من أنفسهم أو يتنكرون لبعض احتياجاتهم أو يعجزون عن التعبير عن رغباتهم ومخاوفهم، فيلجأ جهازهم النفسي إلى حيلة الانشقاق خاصة وأن هذا الجهاز لديهم يكون هشا وضعيفا لذلك يسهل على الجزء المتمرد داخل النفس أن يقوم بانقلاب مؤقت فيستولي على مركز قيادة الشخصية للحظات أو أيام ويمارس كل ما كان يتمناه من طيش أو نزق أو تحقيق نزوات أو إعلان رغبات أو التهرب من مسئوليات، إلى أن تفرغ الشحنة فيعيد السلطة مرة أخرى إلى القيادة المعتادة للشخصية ، تلك القيادة الخاضعة تماما للمعايير الاجتماعية السائدة، والمكبلة بقواعد أخلاقية أو عائلية ليست مقتنعة بها ولكنها تخشاها.
والنفس البشرية ليست كيانا مصمتا واحدا ولكنها عبارة عن كيانات متعددة تكون متكاملة ومتصالحة ومتعاونة في حالة صحتها، ولكنها قد تنشق وقد تتصارع في بعض الحالات المرضية وتحت ضغوط معينة. وحالات الانشقاق الهستيري قد تأخذ أشكالا متعددة، فمثلا يمكن أن يفقد الشخص الذاكرة لعدة ساعات أو أيام حين يتعرض لموقف ضاغط لا يستطيع تحمله، وكأن جهازه النفسي يريد أن يفصل الذاكرة لأنه لا يستطيع تحمل الألم النفسي في حالة وجود الذاكرة العادية، وحين يستعيد قدرته على التحمل واستيعاب الحدث تعود له ذاكرته مرة أخرى.
وقد لا يتوقف الأمر على فقد الذاكرة المؤقت بل قد يترك الشخص المكان الذي يعيش فيه ويقوم بعملية تجوال يسافر أثناءها إلى مكان أو بلد آخر ويركب المواصلات ويشتري الطعام ويبيت في الشارع أو في فندق، ولكنه لا يدري من هو وماذا يريد ولا إلى أين يذهب، أي أنه يتعامل بجزء بسيط من وعيه يحقق به احتياجاته الأساسية فقط، ولكنه يكون فاقدا لهويته وذاكرته.
ومن الأمثلة الرائعة على ذلك مسلسل للفنان القدير يحيى شاهين يصوره وقد كان جراحا كبيرا للمخ والأعصاب، ويجري عملية جراحية لابنه الذي أصيب بورم في المخ ولكن هذا الابن يموت أثناء العملية فيترك الأب (وهو الجراح الأشهر في ذلك التخصص) بيته ومستشفاه ويهيم على وجهه في البلدان إلى أن يصل إلى حي شعبي في إحدى المدن فيعيش فيه كرجل بسيط يعطف عليه الناس ويتبركون به، وتمر الأيام ويعثر عليه أحد أفراد أسرته ويحاول إعادته لحياته الأصلية ويساعده ذووه على استعادة ذاكرته وهويته.
وقد تتطور بعض الحالات لتدخل فيما يسمى بازدواج الشخصية بحيث يحدث في وقت ما تحول إلى شخصية أخرى تماما تمارس حياتها بأسلوب مختلف عما اعتاده الشخص ويستمر ذلك لحظات أو أيام كما ذكرنا، ثم تعود الشخصية إلى حالتها الأصلية مرة أخرى وينسى صاحبها كل ما حدث في فترة التحول.
وأذكر تلك السيدة ربة البيت وأم الأولاد المخلصة والوفية لزوجها وأبنائها (والتي كانت تتنكر لاحتياجاتها الشخصية في سبيل الوفاء باحتياجات زوجها وأبنائها ومع ذلك لا تجد عرفانا منهم بذلك)، وهي تعاني من نوبات تترك فيها البيت وتهيم على وجهها تتنقل بين البيوت والشقق بهوية وشخصية مختلفة تتحرر فيها من مطالب زوجها وأبنائها وتعيش متخففة من أعبائها العائلية، ثم يجدونها بعد أيام في حي آخر أو بلد آخر.
ولا ننسى فيلم بئر الحرمان لسعاد حسني المأخوذ عن قصة إحسان عبد القدوس، والذي كانت تتحول فيه البطلة من سيدة محترمة إلى امرأة لعوب تخرج في الليل لتمارس سلوكا يتسم بالعبث والتحرر من كل الضوابط والقيود.
وفي بعض الحالات النادرة قد يتحول المريض أو المريضة إلى أكثر من شخصية تعبر عن كيانات وذوات متعددة داخل النفس البشرية تبحث عن التحقق والإشباع، وحين لا تجد ذلك بطريقة مشروعة وآمنة فإنها تتمرد بطريقة مرضية وتعبر عن نفسها بشكل انفصالي مؤقت.
وهذه الحالات تعالج نفسيا بالاستبصار بالكيانات والذوات التحتية في النفس والرغبات والاحتياجات المحبطة والمكبوتة والمقهورة فيها، ويتم الاعتراف والتصالح بين الكيانات المختلفة ويتبع ذلك تقوية للنفس ومحاولة للوصول بها إلى درجة من النضج تساعدها على التعبير والحضور بأشكال صحية حتى لا تتسرب من خلال طرق تحتية وغامضة للتعبير.
أما الفصام أو الشيزوفرينيا (Schizophrenia) فهو اضطراب نفسي شديد يحدث نتيجة لخلل عضوي بالمخ، وهذا الخلل قد يكون ناتجا عن اضطراب في الجينات، أو اضطراب في تركيبة المخ أو اضطراب في كيمياء المخ، أو كل ذلك معا. وهذا الجانب العضوي في الفصام أصبح مؤكدا ويحظى بالاهتمام الأكبر في التشخيص والعلاج، وهذا لا ينفي بعض التوجهات القديمة والتي كانت تعزو بعض أعراض الفصام إلى أخطاء في برمجة السلوك نتيجة لاضطرابات في التفكير أو في المشاعر لدى أحد الأبوين أو كليهما، أو لفقر في التغذية المعرفية أو الوجدانية، أو لوجود رسائل مزدوجة (Double messages) في تعامل الوالدين مع الطفل والمراهق (كأن تصدر له رسالة لفظية بأن يفعل شيئا وتصدر له رسالة أخرى غير لفظية بأن لا يفعل، فمثلا الأم تقول لابنها لابد وأن تذهب للمدرسة الآن ، ولكنها في نفس الوقت تضمه في صدرها وتتمنى لو أنه رفض الذهاب).
والفصام يكاد يكون هو أشد الاضطرابات النفسية حيث يصيب تقريبا كل الوظائف النفسية بخلل واضح مؤثر، ويؤدي إلى تدهور في الأفكار والمشاعر والسلوك. ولكي نفهم هذا الاضطراب في درجاته المختلفة بشكل مبسط، نتخيل أن نشاطات الإنسان تنحصر في ثلاث دوائر هي: دائرة المعرفة ودائرة المشاعر ودائرة السلوك، وهذه الدوائر الثلاث تعمل بتناغم وتوافق في الشخص العادي، فمثلا إذا فكرنا في شيء إيجابي (دائرة المعرفة) تنشط لدينا مشاعر سارة (دائرة المشاعر) فتدفعنا لسلوك مناسب لتلك الفكرة وهاتيك المشاعر فنأتي أفعالا تعبر عن سرورنا (دائرة السلوك).
وفي الحالات البسيطة من الفصام قد تنفصل دائرة المعرفة عن دائرتي المشاعر والسلوك فنجد الشخص يتحدث عن أشياء ويفكر في أشياء ولكنها مقطوعة الصلة عن مشاعره فلا يحس بها وعن سلوكه فلا يتحرك بناءا عليها.
وفي مراحل أكثر تقدما أو حالات أكثر شدة قد تنفصل الدوائر الثلاثة عن بعضها فيكون التفكير في واد والمشاعر في واد ثان والسلوك في واد ثالث، وهذا ما يجعلنا نشعر بغرابة سلوك الشخص الفصامي وغرابة كلامه ومشاعره لأنه لا يوجد رابط ظاهر بينها. وقد يحدث انشطارات أخرى داخل كل دائرة فتتفكك دائرة المعرفة وتؤدي إلى تفكك في الأفكار والكلمات بحيث تفقد الترابط المنطقي تماما وقد يتحول الكلام إلى مجرد ألفاظ مفككة أو حتى حروف لا تعطي معنى، وقد يؤدي هذا إلى تكون لغة جديدة للفصامي لا يفهمها أحد.
وقد تتفكك دائرة المشاعر فتصدر مشاعر متناقضة أو مجهضة أو غير مكتملة أو قد تتبلد المشاعر وتموت تماما. وقد يصل الخلل إلى دائرة السلوك ممتدا من الخلل الذي أصاب دائرتي المعرفة والمشاعر فيضطرب السلوك ويصبح غير مبرر وغير مفهوم.
وكنتيجة للاضطراب الكيميائي في مخ الفصامي ربما يسمع المريض أصواتاً غير موجودة تأمره بفعل أشياء أو تنهاه عن أشياء أخرى أو تسبه وتلعنه أو تعلق على أفعاله، وهو يستجيب لهذه الأصوات أو يرد عليها، ولهذا نجد بعض الفصاميين يتحدثون مع أنفسهم في الشارع بصوت مرتفع وكأنهم في حوار مع شخص أو أشخاص غير موجودين (ونحن نعتقد أن المريض يكلم نفسه وهو في الحقيقة يرد على هلاوس سمعية تمثل بالنسبة له أصواتا حقيقية)، وقد تنشأ في عقله معتقدات غير حقيقية ولكنه يعتقد في صحتها تماما ولا يمكن إقناعه بعدم صحتها أو عدم وجودها، فمثلا يعتقد المريض أن زوجته تخونه، وأن أجهزة المخابرات الدولية تتنصت عليه وتتابعه في كل حركاته، أو أن أقرباءه يضعون له السم في الطعام، أو أنه المهدي المنتظر، وقد يتصرف المريض بناءا على هذه المعتقدات (نسميها في الطب النفسي ضلالات أو هذاءات) فيقوم بالاعتداء على بعض الأشخاص استجابة لتلك الضلالات.
وبعض المرضى الفصاميين المزمنين قد يكتسبون بصيرة جزئية بهلاوسهم وضلالاتهم خاصة إذا كان ذكاؤهم مرتفعا فيقدرون على التفرقة بينها وبين الواقع بشكل أو بآخر. وليس بالضرورة أن تتدهور كل الوظائف في كل حالات الفصام فهناك بعض الأنواع يمكن أن يحتفظ المريض فيها ببعض وظائفه في حالة جيدة والمثال الأقرب على ذلك "جون ناش" عالم الرياضيات الشهير والذي حصل على جائزة نوبل في الرياضيات ومازال يعيش حتى الآن، وقد تم تصوير حياته الرائعة في فيلم سينمائي هو "العقل الجميل"(Beautiful Mind).
وهناك عدة أنواع من الفصام بناءا على زملة الأعراض السائدة في الحالة مثل:
1 – الفصام التدهوري المتناثر (Disorganized schizophrenia): وهو يحدث في سن مبكر قبل أن تكون الشخصية قد تماسكت (في سن المراهقة غالبا) ، ولهذا يتميز بتدهور شديد في الشخصية .
2 – الفصام البارانوي (Paranoid schizophrenia): ويتميز بوجود ضلالات أو هلاوس أو كليهما، إضافة إلى بعض الاضطرابات في التفكير والمشاعر والإرادة.
3 – الفصام الكتاتوني (Catatonic schizophrenia): ويغلب عليه وجود اضطرابات في النشاط الحركي، مثل نوبات الهياج المفاجئة، أو التصلب الشمعي (يأخذ المريض أوضاعا غريبة ويظل عليها لبعض الوقت، ويمكن وضعه في أشكال مختلفة وهو يظل ملتزما بهذه الأشكال وكأنه تمثال من الشمع يجري تشكيله)، أو السكون لفترات طويلة.
4 – الفصام غير المتميز (Undifferentiated schizophrenia): وتغلب عليه الأعراض السالبة مثل فقر الأفكار، وتبلد المشاعر، وانطفاء الإرادة، وضعف الدافعية، وقلة الحماس، والعزلة الاجتماعية.
وكلمة فصام أو انفصام تأتي من مادة فصم، وهي تعني كسر الشيء من غير أن يبين (كما ورد في مختار الصحاح)، وهي معبرة جدا عما يحدث لمريض الفصام من تفكك وانشطار وتناثر.
والفصام كمرض نفسي له جذور عضوية مؤكدة في المخ يحتاج لعلاجات دوائية خاصة تلك التي تعيد نشاط مادة الدوبامين في المخ إلى توازنها الطبيعي، ويحتاج إلى علاجات نفسية وتأهيلية تساعد الفصامي على التواصل مع المجتمع والحياة، وعلى تجاوز الإعاقات الموجودة بشكل نسبي يسمح له بمواصلة حياته والاستفادة مما تبقى له من قدرات وملكات.
وقد نرى في حياتنا اليومية بعض السمات الفصامية أو شبه الفصامية لدى بعض الناس دون أن يكونوا مصابين بالفصام كمرض، فمثلا قد نجد فقرا في الأفكار أو عيانية في التفكير أو هامشية أو عدم ترابط أو خروج عن الخط في التفكير والكلام، وقد نجد تبلدا في المشاعر أو تناقضا بينها وبين الأفكار، وقد نجد غرابة في التفكير أو السلوك، وقد يصعب علينا فهم بعض الأشخاص نظرا لغرابتهم وشذوذهم عن الخط العام للمجتمع الذي يعيشون فيه، فنصف هؤلاء بأنهم غريبي الأطوار، أو "لاسعين"، أو مختلفين، أو محيرين مع أنهم ليسوا بالضرورة مرضى.
والآن نرجو أن نكون قد وصلنا إلى نقطة نفض عندها الاشتباك وإزالة اللبس بين التناقضات في السلوك البشري وهي من خصائص ذلك السلوك حيث يحوي الإنسان في داخله مجموعة من النفوس أو الذوات أو الكيانات المتناقضة كما أوضحنا، وبين ازدواج الشخصية أو تعددها وهو اضطراب نفسي يعتبر بسيط نسبيا، وبين الفصام وهو اضطراب نفسي جسيم يحتاج إلى تدخلات علاجية متعددة ويؤثر بشكل واضح في أغلب الوظائف النفسية ويختلف هذا التأثير حسب نوع الفصام ومدته.
واقرأ أيضًا:
الجنسية المثلية بين الوصم والتفاخر / الزملكاوية! / التحول الجنسي بين الطب والدين