كان مسترخيا على سريره يقرأ في إحدى كتب البرمجة اللغوية العصبية وشيئا فشيئا لمعت عيناه وأصابته سعادة غامرة وظل يردد: "أنا غني".. "أنا غنيي".. "أناااا غنيييييي".. "أناااااااااا غنييييييييي"، وقام يرقص فرحا وطربا وفي يده الكتاب إلى أن أفاق على طرقات عنيفة على الباب وفتح ليجد زميله يطالبه بدين عليه عجز عن سداده. هذا الموقف الكوميدي الذي أداه الفنان الموهوب أحمد حلمي في أحد أفلامه يكثف كل عناصر الموضوع بدقة وأمانة وخفة ظل، وإذا كانت الرسالة قد وصلت فلا داعي لاستكمال بقية المقال.
من علم النفس إلى التسويق
كنت (ومازلت مع بعض التحفظات) من المتحمسين جدا لموضوع البرمجة اللغوية العصبية وما ترتب عليه من برامج للتنمية البشرية على اعتبار أنها جهود تسعى إلى تحسين نوعية البشر وتحسين أفكارهم والارتقاء بمشاعرهم وشحذ هممهم، وتخليصهم من الأفكار السلبية التي تعطل حركتهم، واعتبرت أن تلك البرمجة هي امتداد لرسالة علم النفس في محاولته للارتقاء بالبشر وخاصة أن علماء النفس رغم إنجازاتهم العظيمة على المستوى الأكاديمي والعلاجي لم يستطيعوا توصيل علومهم إلى عموم الناس ربما لصعوبة اللغة أو صعوبة التواصل أو نقص مهارات التوصيل، وربما لأنهم اكتفوا بتوجيه ناتج العلوم النفسية لعلاج المرضى النفسيين على الرغم من أنه ثبت أن علم النفس به فائض هائل يمكن أن يفيد الأصحاء في تحسين أحوالهم.
وفي السنوات الأخيرة بدأ الاهتمام بدراسة النماذج البشرية الناجحة والتي وصلت إلى قمة الإنجاز الإنساني المتاحة في عصرها وذلك لاستخراج قوانين التفوق والإنجاز ليستفيد منه عموم الناس، ونشأت فروع مثل علم نفس النمو، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم النفس الصناعي، وعلم النفس السياسي، وعلم النفس الديني، وعلم النفس الإيجابي، والخبرات القمية، وغيرها.
ومن هنا التقط هذا الخيط أصحاب البرمجة اللغوية العصبية وحاولوا الاستفادة من العلوم النفسية بمزجها بالعلوم الإدارية والعلوم الاجتماعية ثم تبسيط هذه العلوم في خليط يسهل تسويقه للناس في صورة ندوات ومحاضرات وورش عمل، ثم إعطاء دورات تمنح على إثرها شهادات تعطي لصاحبها الحق في أن يصبح مدربا لغيره.
وكل هذا يدور في إطار ذاتي بعيدا عن المؤسسات العلمية الراسخة مثل الجامعات ومراكز الأبحاث والتي ظلت متشككة في أصالة ودقة البرمجة اللغوية العصبية وفي برامج التنمية البشرية، ولذلك لم تدخل هذه الأشياء ضمن المحتوى العلمي لتلك المؤسسات، ولهذا ظلت جهودا ذاتية واجتهادات شخصية مرسلة في أغلبها، وقد ترتكز على بعض الأصول النفسية وخاصة العلاج السلوكي المعرفي أو على بعض التيارات النفسية الفلسفية كالمدرسة الوجودية والمدرسة الإنسانية، ولكنها لا تلتزم طوال الوقت بحدود تلك المدارس فتجنح يمينا ويسارا طبقا للأمزجة الشخصية واستنادا لقواعد تسويقية.
والحق يقال أن من قاموا بمهمة المزج والتبسيط والتسويق كانوا أكثر قدرة ومهارة في نقل المادة المراد تسويقها إلى أكبر عدد من الناس عبر قاعات التدريب والوسائط الإعلامية المختلفة، واستخدموا في ذلك لغة الناس اليومية، واستبعدوا المصطلحات النفسية والإدارية الصعبة.
ومع هذا فقد خالط تلك البرامج الكثير من الأخطاء والمغالطات (ستتضح تداعياتها لاحقا) على الرغم من أنها تحاول الظهور بالمظهر العلمي الدقيق، ولكن الحقيقة أنها أصيبت بفيروسات هائلة نظرا لرفضها الدخول تحت مظلة العلم المنهجي، تلك المظلة التي تضمن وجود برامج مضادة للفيروسات، بمعنى أن المنهجية العلمية تضمن عدم الشطط وعدم الخضوع للتحيزات الشخصية كما تضمن مصداقية النتائج وثباتها.
لعبة الثلاث ورقات
في أحد الندوات العامة وقف أحد مدربي البرمجة اللغوية العصبية وقال مزهوا ومتحديا: إذا كان أحد الحاضرين يشكو من الرهاب الاجتماعي (الرهبة والقلق من الحديث أمام الناس) فليأتني هنا على المنصة وسأعالجه في ثلاث دقائق باستخدام قوانين البرمجة (ولا داعي للعلاج النفسي الذي يأخذ وقتا وجهدا ومالا)؛
فخرج له اثنان من الشباب وبدأ يطلب من كليهما أن يأخذا نفسا عميقا وأن يشعرا بالإسترخاء وهما مغمضا العينين وأن يستلهما قوة عقلهما الباطن ليقللا من مخاوفهما من الناس وأن يرفعا أيديهما إلى أعلى ثم ينزلانها إلى أسفل، ثم بعد ذلك طلب أن يفتحا أعينهما ويتحدثا إلى الناس، ثم هنأهما بحماس معلنا أنهما قد شفيا تماما من حالة الرهاب الاجتماعي.
تذكرت وأنا أراه يتحرك بخفة على المسرح ويتحدث بخفة أكثر، لعبة الثلاث ورقات، والتي كانت تمارس على الأرصفة في شوارع المدن وتستغل فيها خفة يد لاعبها في تقليبه للورقات الثلاث لإقناع الضحية بشئ ما مقابل الحصول على ماله، أو لعبة الحاوي أو الساحر والتي يستغل فيها اللاعب قدرته على الإيحاء وعمل أشياء عجيبة في غمضة عين كأن يخرج حمامة من يده أو كرة من فمه، وقبل أن ينهي اللعبة يمر أحد مساعديه بين الناس ممسكا بمنديل يجمع فيه المال من المتفرجين، ثم تأتي اللحظة الحاسمة حين يفاجئ المتفرجين بما لا يتوقعونه فيصفقون جميعا إعجابا وانبهارا.
إذن فبعض المدربين يمارسون قواعد الفهلوة في عملهم ولسان حالهم يقول: "إحنا اللي دهنا الهوا دوكو".. "بنعبي الشمس في قزايز".. "بنعمل من الفسيخ شربات".. "إحنا اللي بنمشي النمل طوابير".. "بنفهمها وهي طايره".....
الحل السحري من العفاريت إلى البرمجة
إذن فأحد مشكلات البرمجة اللغوية العصبية أنها توحي للناس بالحل السحري السريع لمشكلاتهم، وتوهمهم بأن حضور دورة أو دورتين سيجعلك قادرا على حل كل مشكلاتك وعلى تحقيق آمالك وأحلامك وأنك في وقت من الأوقات ستصبح أعظم شخص على وجه الأرض لأنك عرفت كيف تسخر قوى عقلك الباطن، تلك القوى اللامحدودة.
وتبدو هنا قوى العقل الباطن وكأنها بديل لقوى الجن والعفاريت في لغة من يسخرون الجن (أو من يدّعون ذلك)، والرابط بين الاثنين هنا هو اللجوء لقوى خفية يدّعي البعض القدرة على فهمها وفهم قوانين تحريكها وإطلاقها كالمارد الهائل يحقق كل الأحلام والأمنيات.
وأكبر دليل على فشل هذا الحل السحري (من جانب أصحاب البرمجة أو مسخري الجن) هو أننا لم نرهم أعظم ولا أغنى ولا أعلم البشر في المجالات المختلفة، وإن ادّعوا النجاح الهائل والعظمة والغنى والقدرة فإنما هي تهويماتهم الشخصية وتضخيمات ذواتهم التي لا يؤيدها الدليل، فبعضهم يدّعي في كل مكان حصوله على الدكتوراه في حين أنه خريج معهد متوسط وحصل على بعض دورات من معاهد خاصة سماها دكتوراه، وبعضهم يدّعي أنه قام بتدريب الملايين على مستوى العالم وبأنه غيّر في مناهج وأساليب إدارة الفنادق والشركات الكبرى، وهو في الحقيقة لم ير إلا مجموعة من الهواة مثله، وفوق ذلك هو فهلوي قدير.
وكما هو الحال في فنون السحر وتسخير الجن فإن القائمين عليها يحتاجون من دونهم للحصول على لقمة عيشهم، ولا يحققون على مستواهم الشخصي ما يلوحون به لأتباعهم ومريديهم.
والحياة الواقعية تؤكد أن النجاح الشخصي والعام له قوانين موضوعية قوامها الوعي والانتباه وصحة الإدراك والتفكير وذكاء المشاعر والقدرة على التخطيط السليم ثم القدرة على التنفيذ بصبر ومثابرة، والقدرة على العمل الجماعي المثمر، والقدرة على المتابعة والتطوير من خلال التغذية الاسترجاعية، وأن الناجحين في التاريخ الإنساني لم يتموا إنجازاتهم بشكل فهلوي سريع أو سحري خاطف وإنما فعلوا ما فعلوه بالجهد المتواصل والمثابر وبالتفكير العلمي الواقعي والموضوعي والمتواضع وبتحمل الإحباط والفشل، ولم يثبت أنهم فعلوا ذلك بعد قراءة "الأسرار السبعة للعقل الباطن" أو "المفاتيح العشرة للتفوق" .
العلم الكاذب والرغبة في الإبهار
يعمد كثيرون من المشتغلين بالبرمجة اللغوية العصبية أو التنمية البشرية المبنية عليها أن يضمنوا كتبهم وأقوالهم بعض الأرقام أو الإحصاءات أو المعلومات لإعطاء ما يقولونه صبغة العلم معتمدين على جهل قرائهم ومستمعيهم بالأرقام والإحصاءات الصحيحة أو بالحقائق العلمية كأن يقول أحدهم أن المخ يحتوي على 150 مليار خلية عصبية (وهو رقم لم يتأكد)، أو يقول آخر بأن النيكوتين يضعف الذاكرة (وهي مقولة ثبت عكسها، وإن كان للنيكوتين أضرار أخرى كثيرة غير هذا الأمر).
وكثير منهم يستخدم الأرقام بطريقة عشوائية وشخصية وغير موثقة، ومع هذا يستخدمها بجرأة وطلاقة توحي للمستمعين أو للقراء باستناد القائل إلى صحيح العلم وإلى المؤكد من الإحصاءات والتجارب، وهو ليس كذلك. وحتى إن استند أصحاب البرمجة إلى بعض الحقائق العلمية الصحيحة جزئيا فإنهم يوظفون ذلك بشكل غير علمي للوصول إلى ما يريدون إقناع المتلقي به وإبهاره إن أمكن.
والعلم الحقيقي ليس فيه هذه الرغبة في الإبهار، وإنما يتميز بكونه موضوعيا ومتواضعا ونسبيا وقابلا للنقد والتغير، ومع هذا يحمل إمكانات التغيير والنمو والتطور بشكل متدرج ومنطقي وتراكمي ومتصاعد ومؤثر، أما شبه العلم أو العلم الكاذب فإنه يميل للأقوال والمفاهيم المطلقة، والألفاظ الرنانة، والشعارات الضخمة، وهو مثل بالونة هائلة وملونة ولكنها مجرد هواء.
عمل من لا عمل له
وعلى الرغم من أن الرواد الأوائل في البرمجة اللغوية العصبية كانت لهم ثمة صلة بالعلوم النفسية والعلوم الإدارية بشكل حقيقي، إلا أن غياب الثوابت والمعايير والقواعد في هذا الأمر أدى إلى تسلل أعداد هائلة من أنصاف المحترفين أو الهواة أو المغامرين أو راغبي المكسب السريع أو الشهرة، بحيث أصبح العمل في البرمجة أو التنمية البشرية وظيفة يلجأ إليها كثيرون ممن لم يجدوا فرص عمل أخرى مناسبة، إذ لا يكلف الأمر غير شقة يكتب عليها "المركز الفلاني للتدريب والتنمية البشرية" ويعمل فيها بعض الشباب الذين حضروا بعض الندوات أو ورش العمل أو قرأوا كتاب "الأسرار السبعة" أو "المفاتيح العشرة" ومعهم شهادات حصلوا عليها من أشخاص أو معاهد لا تحظى بمصداقية خارج حدود ذاتها؛
وأدى هذا إلى نمو عشوائي استرزاقي لمراكز التدريب وبرامج التنمية البشرية، وتسللت الفيروسات الفكرية والإيهامات والإيحاءات والتهويمات، وأصبح الهم الأكبر هو إقناع العميل (الزبون الضحية) بأنه يتلقى علما راسخا ومبادئ وقواعد محددة ومؤكدة تنقله فورا من الفشل الذريع إلى النجاح الباهر والمؤكد، وأن تملكه لمفاتيح وأسرار هذه البرمجة ستجعل العالم ملك يديه يحركه كيف يشاء، ولم لا وقد فهم أسرار عقله الباطن وأطلق طاقاته غير المحدودة.
وهو عمل مربح في الأغلب وجالب للشهرة في ذات الوقت لأنه يلعب على وتر مهم وهو رغبة الناس في النجاح من أقصر طريق وبأقل جهد، ويا حبذا لو كان ذلك من خلال قوة خفية كقوة العقل الباطن اللامحدودة (كما يوهمهم المدرب)، وهم في حالة حلم لذيذ بالنجاح والثروة في حين لا يحقق ذلك إلا المدرب بحصوله على أموالهم.
ولا توجد نقابة أو هيئة أو مؤسسة موثوق بها تمنح تراخيص العمل لمراكز التدريب أو تغلقها إن هي خالفت الشروط والمواصفات، ولا توجد أخلاقيات للمهنة تحدد المقبول والمرفوض فيها، ولا توجد جهة رقابية تحاسب المخطئين والمدّعين، ولهذا فنحن في منطقة ضبابية تشبه إلى حد كبير مناطق العلاج بالأعشاب وإخراج الجن وعمل السحر ولكن بشكل عصري جذّاب وبأسلوب شبه علمي أو نصف علمي.
وقد يكون هذا النشاط قد فتح بابا واسعا للشباب الذين لا يجدون فرصة عمل، وفتح لهم أيضا بابا للشهرة الواسعة وربما الثراء السريع، ولكن اتصاله بسوق العمل الحقيقي وبالإنجاز الواقعي تحوطه الكثير من علامات الاستفهام.
نرجسية المدرب العالمي
كثيرون منهم يصفون أنفسهم بوصف "المدرب العالمي"، ولست أدري إن كانت هذه درجة علمية أم حالة وظيفية ومن يمنحها أو يحددها ومن يسحبها أو يلغيها وماهي معاييرها وأخلاقياتها؟.
بعد ذلك تسمع من المدرب حديثا رائعا عن رحلة حياته وكيف حقق خلالها أشياء أشبه بالمعجزات، وكيف أنه وصل إلى أعلى المراتب المهنية في شركات وفنادق ومؤسسات العالم، وأنه قد تقابل مع أشهر الشخصيات وأثر فيهم، وأنه طاف بكل دول العالم وأسس مراكز التدريب ووضع البرامج وغير الكثير من البشر، ومنح الشهادات، وصنع المدربين، ووضع أسسا جديدة للعلم الذي سوف يغير وجه العالم كله في فترة وجيزة.
قد تنبهر بهذا الكلام خاصة وأن المتحدث لديه كاريزما شخصية وقدرة على الإيحاء وله ظهور إعلامي مكثف، ولكن حين تسأل معارفه وجيرانه وأهل بلده عن تاريخه الطولي وعن سيرته الذاتية تجد شيئا مخالفا تماما لذلك، فهو لم يحصل على الدكتوراه التي يدّعيها، ولم يتقلد الوظائف التي يفخر بها، ولم يحقق النجاحات التي يتباهى بها، ليس هذا فقط بل تظهر حقائق صادمة عن إخفاقات وتلفيقات ومحاولات فهلوة وادعاء لا نهاية لها.
وحين كنت أسمع شرائط أحدهم أو أقرأ كتبه كان أكثر ما يلفت النظر هو كلامه عن نفسه كنموذج رائع للنجاح، وهو متمحور بشدة حول هذه الذات المنتفخة يدللها ويداعبها ويلونها وينفخها أكثر وأكثر كطفل يدّعي أنه يستطيع تحريك العالم بإشارة من يده أو بنفخة من فمه ثم يجد أطفالا آخرين من حوله مبهورين ومشدوهين بما يقوله ومتمنين أن يكونوا مثله أو شيئا منه.
ولسنا نرى مبررا لهذا الانتفاخ الذاتي، فعلى الرغم من ادعاءات أصحاب البرمجة اللغوية العصبية بأنهم عرفوا السر الأعظم للنجاح والتفوق إلا أننا، حتى الآن، لم نر منهم من حكم العالم أو أصبح من أغنيائه أو من رواد الصناعة أو العلم، بل إن أحدهم لديه لازمة عصبية لم يتمكن من علاجها وهي دليل على قلق داخلي لم ينجح في السيطرة عليه حتى الآن.
سر الرقم 7
يسترعي الانتباه هذا العدد الهائل من كتب البرمجة والتنمية البشرية الذي يحمل كلمات مثل: "العادات السبعة للشخصية الأكثر فعالية" .. "العادات السبعة للأسر الأكثر فعالية" .. "الطرق السبعة للنجاح".. "الوسائل السبعة لاكتساب الأصدقاء".. "الطرق السبعة للوصول إلى الشخصية الأكثر جاذبية".. "الأسرار السبعة لتكون قائدا ناجحا".. "الخطوات السبعة لتحقيق الثروة".. "الإستراتيجيات السبعة للتفاوض الناجح".. وقد حاول بعضهم الخروج عن هذا التكرار النمطي غير المبرر للرقم سبعة فكتب "المفاتيح العشرة للنجاح"، ولست أدري لماذا الإصرار على سبعة أو عشرة أو غيرها، إننا لم نعتد في المجال العلمي على هذا التحديد المتعسف أو المتعمد، فقد تكون الطرق أو الاستراتيجيات أو الوسائل سبعة أو ثمانية أو إحدى عشر أو سبعمائة وخمسون أو أي رقم.
وإذا قرأت هذه الكتب تجدها تدور في إطار ضيق رغم كثرة الكلمات وكثرة الصفحات وكأنهم ينقلون من بعضهم بل ينقلون حتى من أنفسهم، فهي هي نفس الكلمات ونفس التعبيرات المرسلة والانطباعات الشخصية غير المحددة أو المؤكدة أو الموثقة، ونفس اللغة المبالغة (بشدة) في التفاؤل، وإن كان ثمة استشهاد بدراسات أو أرقام فإنها استشهادات ملفقة أو اعتباطية أو نصفها صحيح ونصفها خطأ. والارتباط برقم 7 أو رقم 10 أو غيرها بالتحديد أو بالتعسف قد يعطينا فكرة عن الطبيعة السحرية والإيحائية والاستلابية لهذا الأمر.
والعلم الصحيح في طريق نموه يمشي في خط تصاعدي يبدأ بالانطباعات والتي قد تتطور لملاحظات والتي قد تتطور لافتراضات والتي قد تتطور لنظريات والتي قد تتطور من خلال التجارب إلى حقائق علمية.
وإذا طبقنا هذا المنظور على البرمجة اللغوية العصبية نجدها في أغلبها لم تغادر مستوى الإنطباعات أو مستوى الملاحظات أو على الأكثر مستوى الافتراضات، أي أنها بالحسابات العلمية تقع في المستويات الأدنى للمعرفة، ولم ترق بعد إلى مستوى النظرية، ولم تهتم بالتحول من خلال التجارب العلمية المنهجية إلى حقائق علمية رغم كثرة الكتب وروعة طباعتها واتساع تسويقها وتلهف الناس عليها تحت تأثير سحر العناوين وجودة التغليف والإخراج.
ولقد عكفت على سماع أشرطة كثيرة لبعض المدربين الذين يسمون نفسهم "عالميين" فهالني تكرارهم لنفس الكلمات ونفس العبارات وأيقنت بأن الألبوم الذي يحوي ستة عشر شريط كاسيت يمكن اختصاره في شريط واحد بعد حذف الكلمات المكررة وحذف الحديث المبالغ فيه عن الذات النرجسية للمدرب، وحذف الأخطاء في المفاهيم والقواعد العلمية النفسية.
الصبغة الدينية
وفي محاولة لنيل المصداقية والتمسح في القداسة لجأ بعضهم إلى تضمين أحاديثه وكتبه بعض الآيات والأحاديث والقصص الدينية للإيحاء بأن ما يقوله لا يتعارض مع الدين أو أن ما يقوله هو في صلب التعاليم الدينية.
وهذا ال"نيولوك" الديني أعطى إشارة البدأ لتقديم محاضرات وندوات البرمجة اللغوية العصبية في المساجد والكنائس والجمعيات الدينية أو شبه الدينية والفضائيات الدينية، وأضفى ذلك على المدرب الذي لبس العباءة الدينية إلى جانب حديثه العربية باللكنة الأجنبية مذاقا خاصا أكثر جاذبية وأكثر قربا من القلوب الهائمة الحائمة الحالمة. ونظرا لسطحية الثقافة الدينية وضعف أصالتها لدى المدربين (العالميين وغير العالميين) تأتي الاستشهادات في غير موضعها، أو يجري اعتساف النص ليتماشى مع مبادئ البرمجة، ويحدث نوع من "الفيرسة اللغوية العصبية الدينية" تشوه اللغة وتشوه العصب وتشوه الدين وتسحب الأصالة والمصداقية عن كل الكلام.
وهو هو نفس سلوك المعالجين الشعبيين حين مزجوا ممارساتهم الشعبية أو السحرية ببعض الآيات والأدعية وسموا ما يفعلونه "علاجا بالقرآن" أو "علاجا بالرقيا" وحموا أنفسهم بذلك من كثير من الاتهامات وتمترسوا خلف اللافتات الدينية التي يقدرها الناس ويقدسونها أو يخشون الاقتراب منها.
وبعضهم حاول أن يؤكد مصداقية القرآن من خلال موافقة آياته لمفاهيم البرمجة اللغوية العصبية على اعتبار أنها حقائق علمية، وحاول أن يجعلها مدخلا للإعجاز العلمي للقرآن، رغم أنها –كما ذكرنا– لا تتعدى مستوى الانطباعات الشخصية أو الملاحظات أو الافتراضات وليس لها هذا الثبات أو ذاك الرسوخ الذي يدفعنا لربطها بالقرآن أو الحديث.
وما سر الانزعاج؟
قد يسأل سائل: لم هذا الهجوم على ظاهرة البرمجة إذا كانت تساهم بأي قدر في التنمية البشرية وتحسين نوعية البشر؟.. وهل بعض الأخطاء من بعض الأشخاص تبرر وصم هذا الأمر بكليته بعد أن استفاد منه ملايين البشر في كل أنحاء العالم؟.. أليس في كل مهنة الصالح والطالح؟.. ألا يوجد نفع مطلقا في البرمجة اللغوية العصبية أو في دورات التنمية البشرية؟ ألا يكون ذلك بدافع الحقد على النجاح الذي حققه رواد البرمجة ورواد التنمية؟
قد يكون بعض ذلك صحيحا، ولكن الحكم على شيء بكونه صحيحا أو مفيدا أو ضارا من عدمه يأتي من مرجعية هذا الشيء، ومن قواعده وأساسياته، ومن معايير الصحة والخطأ فيه، ومن وجود أو عدم وجود آليات لضبطه ومراقبته وتصحيحه، ومن وجود مؤسسات محترمة وموثوق بها تعترف به وتؤيده وتراقب ممارساته وأنشطته.
وفي حالة غموض أو غياب هذه الثوابت والضوابط والمعايير يصبح النشاط مؤهلا للنمو العشوائي ويصبح جاهزا لاستقبال واحتواء فيروسات هائلة تلوث برامجه، ثم يتحول بعد فترة إلى نوع من الاسترزاق أو الخداع أو بيع الوهم أو النصب أو الاحتيال، ويعمد مروجوه إلى تسويق نوع من التخدير أو الحلم اللذيذ، ويجدون ضالتهم في جمهور محبط فقد الأمل في النجاح الطبيعي المنطقي بالوسائل المعتادة أو حتى المبتكرة فراح يبحث عنه لدي مسخري الجان أو السحرة أو مطلقي مارد القوى الخفية للعقل الباطن.
والنتيجة النهائية هي البعد عن المنهج العلمي الصحيح الذي ثبت أنه يحمي العقل البشري من فيروسات الخرافة والفهلوة والاستسهال والإيحاءات والتهويمات. فإذا خلا أي برنامج للتنمية البشرية من كل هذه الآفات المذكورة وارتبط بجذوره في علوم النفس وعلوم الإدارة وعلوم الحياة وقوانين التطور؛
وارتبط في ذات الوقت بصحيح الدين وصلاح القصد وصفاء الروح فإنه يكون برنامجا ناجحا ومؤثرا ومطلوبا بشرط أن يكون منتميا إلى حقل العلم وخاضعا للتمحيص والمتابعة من جهات الاختصاص، وموضوعيا في توقعاته، ومتواضعا في طريقة عرضه وتجلياته، فإذا لم يتحقق ذلك كانت تلك الممارسات أقرب للعلاج الشعبي الذي يحوي بعض الأشياء المفيدة ويحوي معها الكثير من الأفكار والممارسات الضارة.
وليس هناك شك في أصالة ومصداقية بعض الأشخاص وبعض المراكز، والذين ساعدوا الكثيرين على تصحيح مفاهيمهم عن أنفسهم وعن غيرهم وعن الحياة، وساعدوا على تغيير الاتجاهات، وعلى إطلاق الطاقات البشرية من قيودها ومن مخاوفها، وساعدت على تحسين الأداء للأفراد والمؤسسات، وكانوا مع هذا واقعيين وموضوعيين حين احترموا وسائلهم وأهدافهم وحين اتصلوا بمنهجية العلم التي لا تعرف المبالغات الفجة أو اللافتات الكبيرة أو الإيهامات الخادعة، إلى هؤلاء أقدم اعتذاري وأؤكد بأنني لم أقصدهم أبدا وإنما أقصد الأدعياء الذين نقاومهم كلما ظهروا وفي أي مجال كانوا.
فراغ التربية وجراح الإحباط
ربما يعود انتشار البرمجة اللغوية العصبية وبرامج التنمية البشرية إلى ضعف برامج التربية في البيت أو في المدرسة أو في دور العبادة، لذلك ظهر احتياج لأن يتعلم الإنسان فن الحياة، وبعض الكتب والدورات والندوات والمحاضرات وورش العمل في مجال التنمية البشرية تساعد فعلا في تعلم فن الحياة وتصحح المفاهيم وتزيل الأوهام والمخاوف وتحاول إطلاق الملكات للعمل وتشحذ الدوافع في اتجاه الإنجاز مستفيدة – كما ذكرنا من منجزات علم النفس وعلوم الإدارة وروح الأديان.
ولكن كأي فن يبدأ أصيلا على يد الرواد ثم يتسلل إليه المدّعين والتجار فيفسدونه ما لم يكن لديه في برامجه القدرة الذاتية على التنقية والفرز والتصحيح.
والبرمجة اللغوية العصبية والتنمية البشرية جاءت وانتشرت في وقت يشعر فيه الكثيرون بالعجز عن تحقيق أهدافهم في عالم يوحي بالنجاح ويغري بالثراء ولكنه لا يعطي مقومات تحقيقهما إلا بصعوبة بالغة في الواقع، ولذا بدا من الخطر إيهام عملاء البرمجة أن مقاليد العالم تحت أيديهم وما عليهم إلا أن ينظروا في أنفسهم ويستلهموا قوة عقلهم الباطن ويجروا بعض تدريبات بسيطة بعدها تأتيهم الدنيا صاغرة وراكعة تحت أقدامهم تقول لهم "شبيك لبيك" وتتحول هذه البرامج إلى مصباح علاء الدين أو البلورة المسحورة في ثوب عصري.
وقد يكون مناسبا الآن التفكير في إعادة صياغة نظم تربوية واضحة ومبسطة تطبق في المنزل وفي المدرسة وفي مؤسسات التأهيل والتوعية يكون هدفها تعلم فن الحياة على أسس علمية ترعاها مؤسسات عامة أو خاصة ولكن يجمعها صدق المرجعية ورسوخها وجدتها إلى جانب تأكد آليات التطهير والتطوير والمتابعة كبرامج مضادة للتلوث تحول دون تسلل الفهلوة وتحول دون انقلاب "البرمجة اللغوية العصبية" إلى "فيرسة لغوية عصبية".
اقرأ أيضاً:
ماذا حدث للفلاح المصري؟ / الزملكاوية! / الدركسيون فيه بوش / الانتصار البديل في الساحة الخضراء / من المحلة إلى مارينا وبالعكس