حين تموت المدن وتحيا المنتجعات
بعد يومين من انتهاء أحداث المحلة الكبرى وبالتحديد يوم الأربعاء 9/8/2008 كنت متوجها لحضور ندوة علمية في "بورتومارينا" بالساحل الشمالي حول "اقتصاديات الصحة النفسية والعلاج الدوائي في مصر"، وكان المحاضر هو أستاذنا العظيم الأستاذ الدكتور أحمد عكاشة.
وحين انطلق بنا الباص من المنصورة لم يخطر ببالي أن يخترق شوارع مدينة المحلة في مثل هذه الظروف التي ما زالت تشهد تواجدا أمنيا كثيفا على مداخل المدينة وفي شوارعها مما يعكس تخوفا أمنيا مستمرا من اشتعال الوضع في أي لحظة.
وكانت فرصة لأن أتأمل وجوه الناس في الشوارع بما في ذلك وجوه رجال الأمن الرابضين في كل مكان وأيديهم على الزناد وفي عيونهم قلق وتربص لا تخطئه العين.
وبدت المدينة حزينة ومرهقة فالناس يبدو عليهم آثار الفقر والخوف والقهر، والوجوه شاحبة والأجساد منهكة والملابس (في مدينة الملابس) بالية، وبقايا المصانع قديمة ومتهالكة وكأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة قبل أن تموت.
والشوارع مليئة بالمخلفات، والجو مشبع بالغبار، وطوابير الخبز الطويلة تمتد وتتلوى وتئن تحت حرارة الشمس التي لم تفلح أوراق الجرائد أو قطع الكراتين أو بقايا ألواح الخشب في حجبها عن رؤؤس الفقراء الذين يحاولون البقاء في ظروف تجاوزت قدراتهم على التكيف والصبر. وتذكرت مدينة بورسعيد التي تذبل يوما بعد يوم وتختنق في صمت وكبرياء يليقان بمدينة قاومت كل المستعمرين الخارجيين وخرجت منتصرة.
وفجأة خرجت من أرشيف ذاكرتي صورٌ قديمة للمحلة الكبرى (حين كنا نراها كبرى) وقد كنت أزورها وأنا طفل بصحبة أبي –يرحمه الله– حيث شركة المحلة وهي في أوج عظمتها تنتج أفخم الأقمشة القطنية والصوف في ذلك الوقت، وأرى جموع العاملين في ثياب نظيفة وفي حالة منتعشة ذاهبين إلى الوردية أو عائدين منها، وقد أنصفتهم حكومة الثورة فهيئت لهم الوظائف وأيضا منحتهم أراضي الإصلاح الزراعي، وكانت مرتباتهم في ذلك الوقت –على ضآلتها– تتيح لهم حياةً كريمة.
كانت المحلة في ذلك الوقت أشبه بخلية النحل لا تنام ليلا أو نهارا، ولذا استحقت عن جدارة وصف "مانشستر الشرق". وحين افتتح مشروع المياه العذبة في مدينة شربين ليغذي جزءا كبيرا من منطقة الدلتا، راح الناس يدللون المدينتين في أورجوزة شعبية تبدأ بهذا المقطع اللطيف: "شربين شربنا في قلتها بعد المحله ما حلتها".
والآن تغير كل شيء، وبدلا من تصاعد أدخنة المصانع الحية النشطة تتصاعد الآن أدخنة الغضب من الصدور، وبدلا من أن تشتعل المراجل تشتعل الآن إطارات السيارات في الشوارع، وبدلا من زيارات المسئولين (المحبين للعمال) لافتتاح خطوط إنتاج جديدة رأينا زيارات عربات الأمن المركزي الزرقاء الداكنة الكثيفة لهذه المدينة المنخنقة والمتردية، وبدلا من أفواج الورديات الرائحة الغادية نرى جموع المتظاهرين (من أجل لقمة العيش الجاف) يطاردهم الأمن أو يطاردون هم الأمن في مشهد مأساوي حزين.
وظلت الصور القديمة والحديثة تتبادلان الظهور على شاشة وعيي إلى أن بدأنا نرى الساحل الشمالي، وهو مجموعة من القرى والمدن والمنتجعات السياحية تمتد لمئات الكيلومترات بلا انقطاع، إلى أن وصلنا إلى مارينا، تلك الأيقونة السحرية على أرض مصر المحروسة. وقد بدت مارينا أشبه بالمستوطنات في فلسطين عبارة عن فيلات وقصور لها نفس التصميم تقريبا ومحاطة بأسوار أو جدران عازلة، ولكي تدخلها لابد وأن تحمل كارنيها يفيد أنك من ملاك الفيلات أو القصور في المدينة، أو تدفع رسم دخول حوالي 20 جنيها للفرد الواحد، فهي ليست كأي مدينة مصرية تدخلها أو تخرج منها كما تشاء وفي أي وقت تشاء.
وإذا كنت ممن سيدفعون رسوم الدخول فسوف تلاحقك نظرات شك واستهجان من حراس المدينة فأنت بالتأكيد دخيل على هذا المكان الراقي أو متطفل أو جئت لتحقد على قاطنيها. وهي ليست مدينة واحدة بل ثمان مدن متصلة يشقها بحيرة صناعية باتساع قناة السويس وقد تم حفرها على مدى عشر سنوات بأيدي العمال المصريين الذين حفر أجدادهم القناة من قبل مع فارق هام وهو أن قناة السويس حفرت لتكون معبرا مائيا عالميا هاما، أما البحيرة الصناعية في مارينا فقد حفرها فقراء المصريين لتدخل البهجة والسعادة إلى قلوب الأغنياء.
وأخذني الزميل العزيز الدكتور أشرف سليم في جولة بسيارته في أنحاء مارينا لنرى الفخامة والرفاهية في كل مبنى وكل شارع وكل كوبري، وشاهدت بعيني لسان الوزراء -الذي طالما سمعت وقرأت عنه- ووجدته أكثر مما سمعت وقرأت فهو عبارة عن مجموعة قصور عالية الفخامة وكل قصر له حديقته الخاصة التي تصل إلى بداية شاطئه الخاص ومرساه الخاص، وهذه القصور لم يقتصر توزيعها على السادة الوزراء فقط وإنما استفاد منها غالبية المسئولين الكبار ليريحوا أعصابهم بعيدا عن مشكلات الناس التي لا تنتهي.
وعدت لأسترخي بعض الوقت على شاطئ بورتومارينا الهادئ الجميل وأحاول التخلص من همومي وأحزاني الشخصية والمهنية والعامة وأنا أتأمل البحيرة الساحرة تتناثر فيها اليخوت الجميلة، وإذا بالأخ العزيز الأستاذ شريف الدواخلي يتصل بي على المحمول ليسألني عن بعض التفسيرات النفسية لما رآه خلال ثلاث أيام قضاها داخل مدينة المحلة (تاني المحلة؟؟؟؟) أثناء تغطيته الصحفية للإضراب الذي تحول لمظاهرات والتي تحولت بدورها إلى أحداث عنف مزعجة وموجعة.
وفهمت منه أن السبب الأساسي وراء انفجار أحداث المحلة هو علاقة مضطربة منذ فترة بين أجهزة الأمن وبين المواطنين، وقد لمس هو ذلك من خلال لقاءاته الصحفية مع عدد كبير من أهل المحلة، وأن هذا الاضطراب في العلاقة وصل إلى ذروته في طريقة تعامل الأمن مع المتظاهرين يومي 6 أبريل و7 أبريل 2008، وأن هذا الأمر يحتاج لمعالجة جادة ومسئولة وعاقلة حتى لا يتكرر السيناريو مرة أخرى في المحلة أو في أي مكان آخر.
ومما قاله لي –مما شاهده – أثر في نفسي كثيرا وآلمني حيث ذكر بأن جنود الأمن المركزي كانوا يقولون للجماهير الغاضبة في الشوارع والأزقة "لا تضربونا"، وهم في نفس الوقت لا يريدون أن يضربوا الناس، وتخيلت هذه المواجهة المؤلمة بين جماهير مصرية جائعة تتألم وتعلن عن غضبها وهي تواجه جنودا مصريين من أبنائها هم أيضا جائعون ومتألمون، وكل منهم لا يريد أن يؤذي الآخر، ومع هذا تصدر الأوامر العمياء من هنا وهناك بأن يأكل الفقراء بعضهم البعض، وهذا يذكرنا بمصارعة الموت عند الرومان حيث كان السادة يجلسون في منصة عالية يشاهدون مصارعات حتى الموت بين العبيد وهم (أي السادة) يتصايحون ويصفقون ويشجعون ويحتسون الخمر في سعادة بالغة بينما يسقط أحد المتصارعين مقتولا بيد الآخر.
عدت مرة أخرى من المحلة وأحداثها إلى مارينا وجمالها وحاولت أن أتخيل: كم تكلفت هذه المدينة؟ ومن أين جاءت كل هذه الأموال؟.. وإذا كنا أغنياء إلى هذا الحد فلماذا إذن الشكوى من غياب رغيف العيش ومن ضعف المرتبات؟.. ولماذا تركنا موظفي الضرائب العقارية في الشارع كل هذا الوقت؟.. ولماذا نترك الأطباء وأساتذة الجامعات والعمال يصرخون ليلا ونهارا يطالبون بزيادة المرتبات؟؟..
قد يقول قائل إن هذه مشروعات سياحية استثمارية تدر دخلا كبيرا للبلد، ولكن الواقع يقول بأن هذه الكتل الإسمنتية بطول الساحل الشمالي انتهاء بمارينا وما يوازيها من سواحل سيناء الجنوبية والشمالية هي نوع من الاقتصاد المغلق، حيث وضعت أموال هائلة في قرى ومدن ومنتجعات سياحية لا يزورها السائحون العرب أو الأجانب إلا فيما ندر، بينما تقتصر الاستفادة منها على قلة من المصريين الأثرياء يستفيدون بها في الترفيه والاسترخاء لمدة أسبوع أو أسبوعين أو شهر في السنة، وتبقى بعد ذلك في حاجة إلى صيانة مكلفة طوال العام.
وعلى الرغم من ضياع أموال البنوك في هذه المدن والقرى والمنتجعات (كما ضاعت في توشكي) فإن أعداد السائحين لدينا (6 مليون) متواضعة مقارنة بتركيا (20مليون في السنة) أو أسبانيا (40 مليون في السنة) أو فرنسا (40 مليون في السنة). وإذا كنا دولة فقيرة يعيش أكثر من نصف سكانها تحت خط الفقر فكيف يتفق هذا مع كل البذخ الموجود في مارينا وغيرها، وهل في مثل ظروفنا الضاغطة الخانقة يصبح هذا الترفيه المترف أولوية تتجه إليها الأموال الطائلة بينما الناس في القرى والمدن والنجوع يقتلون بعضهم بعضا بحثا عن رغيف عيش؟..
وهل تفرغ المصريون للرفاهية والمرح بعد أن تجاوزوا كل مشكلاتهم؟؟.. وهل نحن الآن مجتمع وفرة وراحة واستجمام إلى هذه الدرجة؟؟؟!!!.... وهل بنى الصينيون والماليزيون والكوريون والإندونيسيون والأتراك مثل هذه المنتجعات السياحية أم بنوا قلاعا صناعية رفعت عمالهم في السماء إنتاجا ووفرة؟؟... وهل من بنى كل هذه القصور والفيلات للراحة والاستجمام والرفاهية يعرف أولويات المجتمع المصري واحتياجاته؟؟؟!!!.
وتلح فكرة ذبول مدينة بورسعيد التي خلت شوارعها من الناس وخلت محلاتها من المشترين وخلا جمركها من حاملي البضائع التي تستحق الرسوم الجمركية، ثم فكرة احتضار مدينة المحلة وانتظارها المصير الذي آلت إليه شركة إسكو في القليوبية والتي تم خنقها لعدة سنوات حتى أصبحت جاهزة للبيع البخس فبيعت، وهل تموت فعلا المدن أو تذبل أو تحتضر أو تختنق؟؟.
ومرة أخرى تطاردني مشاهد ساكني مقابر البساتين والتونسي والإمام الشافعي وباب الوزير والغفير والمجاورين والإمام الليثي وجبانات عين شمس، وأذكر على وجه الخصوص تلك الليلة الحالكة التي قضيتها العام الماضي بين سكان هذه القبور ضمن برنامج تليفزيوني يستكشف حياة هؤلاء الناس وهم يعيشون ويتزوجون وينجبون أطفالهم بين الموتى، وأعتقد أننا الشعب الوحيد الذي اضطر أن يعيش في القبور رغم وجود كل هذه القرى والمدن والمنتجعات السياحية لدينا.
هربت من كل ذلك وذهبت لحضور الندوة واستمتعت -كالعادة- بحديث أستاذي الفاضل العظيم الأستاذ الدكتور أحمد عكاشة وهو يستعرض اقتصاديات الصحة النفسية والعلاج الدوائي في ظروفنا الحالية وفي عصر العولمة، ثم مناقشات الزملاء وتعليقاتهم، وكان السؤال الذي يطاردني طول الوقت: وأين اقتصاديات حياتنا في بقية الجوانب، وماذا يقول جهابذة الاقتصاد لدينا عن كل هذا الإنفاق والبذخ في مدننا السياحية مقابل الشح الشديد والتقتير البالغ في التعامل مع احتياجات الفقراء والمعدمين.
وفي رحلة العودة وحين اقتربنا مرة أخرى من القرى المحيطة بالمحلة بدأنا نرى سكان مصر الأصليين في عشوائياتهم وفي فقرهم وبؤسهم وفي بيوتهم المبنية بالطوب الأحمر فقط وتعلوها أعمدة المسلح العارية انتظارا لفرج قريب يكسو هذه الأعمدة بالطوب الرخيص حين ميسرة لكي تشكل صناديق ضيقة تحوي أجسادا متهالكة ومقهورة ولا تملك من أمرها أو إرادتها شيء.
وكنت قد اشتريت كيسا من الحمص من استراحة في الطريق قريبة من مدينة طنطا، ولذا طلبت مني زوجتي –كنوع من الكرم– أن أعطيها تلك الأوراق التي كنت أكتب فيها ملاحظاتي وخواطري طوال الرحلة لكي تعمل منها قراطيس توزع فيها الحمص على رفاق الرحلة ولكنني خشيت أن تتسرب هذه الكلمات بين زملائنا في الباص فتفسد عليهم سعادتهم بالرحلة من المنصورةِ إلى المحلة إلى مارينا وبالعكس.
ويتبع..................: من المحلة إلى مارينا وبالعكس مشاركة
اقرأ أيضاً:
الانتصار البديل في الساحة الخضراء / الفهلوة اللغوية العصبية / إيجار قديم