أخي العزيز وائل
بعد أن قرأت مدونة: "التكليف عند المريض النفسي" أمس تذكرت بأنني قد قمت بجولة في كتب التراث –منذ سنتين- بحثا في حدود الوصاية على السفيه، ومن هو السفيه في عرف الفقهاء، وما هو حدود السفه في التصرف كما وصفه أسلافنا العظماء، وإليك نتيجة بحثي في كتب الفقه والحديث الإسلامي، وستلاحظ مدى الصعوبة والاختلاف بين العلماء في تحديد الأفعال الدالة على السفه في التصرف لفرض الوصاية على أموال وأملاك شخص ما وصم بالسفه:
من سنن البيهقي الكبرى جزء 28
باب الحجر على البالغين بالسفه قال الله تعالى "إن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ"(البقرة:282). قال الشافعي: فأثبت الولاية على السفيه والذي لا يستطيع أن يمل، وأمر وليه بالإملاء عليه.
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أنبأ أبو الفضل الحسن بن يعقوب العدل حدثنا محمد بن عبد الوهاب الفراء قال: سمعت علي بن عثام يقول حدثني محمد بن القاسم الطلحي عن الزبير بن المديني قاضيهم عن هشام بن عروة عن أبيه: أن عبد الله بن جعفر اشترى أرضاً بستمائة ألف درهم، قال: فَهَمَّ عليٌ وعثمان أن يحجرا عليه، قال: فلقيه الزبير فقال: ما اشترى أحد بيعاً أرخص مما اشتريت قال: فذكر له عبد الله الحجر قال: لو أن عندي مالاً لشاركتك، قال: فإني أقرضك نصف المال، قال: فإني شريكك، قال: فأتاهما علي وعثمان وهما يتراوضان، قال: ما تراوضان، فذكرا له الحجر على عبد الله بن جعفر، فقال: أتحجران على رجل أنا شريكه، قالا: لا لعمري، قال: فإني شريكه، فتركه.
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول حدثني عمرو الناقد ثنا أبو يوسف القاضي يعقوب بن إبراهيم ثنا هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الله بن جعفر أتى الزبير بن العوام فقال: إني اشتريت كذا وكذا، وإن علياً يريد أن يأتي أمير المؤمنين عثمان، يعني فيسأله أن يحجر علي فيه، فقال الزبير رضي الله عنه: أنا شريكك في البيع، وأتى على عثمان فذكر ذلك له، فقال عثمان رضي الله عنه: كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير؟.
قال الشافعي رحمه الله: فعلي رضي الله عنه لا يطلب الحجر إلا وهو يراه، والزبير رضي الله عنه لو كان الحجر باطلاً قال: لا يحجر على بالغ حر، وكذلك عثمان، بل كلهم يعرف الحجر في حديث صاحبك.
أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان ببغداد أنبأ عبد الله بن جعفر بن درستويه حدثنا يعقوب بن سفيان حدثنا أبو اليمان ثنا شعيب قال وأنبأ حجاج بن أبي منيع عن جده عن الزهري قال حدثني عوف بن الحارث بن الطفيل وهو ابن أخي عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لأمها أن عائشة رضي الله عنها حدثت أن عبد الله بن الزبير قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة: والله لتنتهين عائشة رضي الله عنها أو لنحجرن عليها، فقالت: أهو قال هذا، فقالوا: نعم، فقالت عائشة رضي الله عنها: هو لله علي نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبداً، فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت هجرتها إياه،
فقالت: والله لا أشفع فيه أحداً أبداً ولا أحنث في النذر الذي نذرته، فلما طال ذلك على ابن الزبير كلم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث وهما من بني زهرة فقال لهما: أنشدكما الله لما أدخلتماني على عائشة فإنها لا يحل لها أن تنذر قطيعتي، فأقبل به المسور وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما حتى استأذنا على عائشة رضي الله عنها، فقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته أندخل؟، فقالت عائشة رضي الله عنها: ادخلوا، فقالوا: كلنا، قالت: نعم ادخلوا كلكم، ولا تعلم أن معهما ابن الزبير فلما دخلوا دخل ابن الزبير الحجاب فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي، وطفق المسور وعبد الرحمن يناشدانها إلا ما كلمته وقبلت منه، ويقولون:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عما قد علمت من الهجرة، وإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالي فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج طفقت تذكرهما وتبكي وتقول: إني قد نذرت والنذر شديد، فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير، ثم أعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة، ثم كانت تذكر نذرها ذلك بعد ما أعتقت أربعين رقبة، ثم تبكي حتى تبل دموعها خمارها. رواه البخاري في الصحيح عن أبي اليمان.
قال الشيخ فهذه عائشة رضي الله عنها لا تنكر الحجر، وابن الزبير يراه و قد كان معروفاً على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم من غير أن يروى عنه إنكاره.
ودل على ما أخبرنا أبو علي الروذباري أنبأ إسماعيل بن محمد الصفار حدثنا أحمد بن الوليد الفحام حدثنا عبد الوهاب وأخبرنا أبو الحسين بن بشران أنبأ إسماعيل الصفار حدثنا يحيى بن جعفر حدثنا عبد الوهاب بن عطاء أنبأ سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك أن رجلاً كان على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم يبتاع وكان في عقدته ضعف، فأتى أهله نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبي الله احجر على فلان فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف، فدعاه نبي الله صلى الله عليه وسلم فنهاه عن البيع فقال: يا نبي الله إني لا أصبر عن البيع، فقال صلى الله عليه وسلم: إن كنت غير تارك البيع فقل: ها وها، ولا خلابة. لفظ حديث الروذباري. (لا خلابة: تعني لا خداع ولا غش).
وفي رواية ابن بشران: أن رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبايع والباقي سواء. وكان النبي صلى الله عليه وسلم حين رآه لم يره بمحل الحجر عليه، وفي ترك إنكار الحجر دليل على جواز الحجر.
من صحيح البخاري جزء 8 :
باب: من رد أمر السفيه والضعيف العقل، وإن لم يكن حجر عليه الإمام. ويذكر عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: رد على المتصدق قبل النهي ثم نهاه. وقال مالك: إذا كان لرجل على رجل مال، ولا عبد لا شيء له غيره فأعتقه، لم يجز عتقه. ومن باع على الضعيف ونحوه، فدفع ثمنه إليه، وأمره بالإصلاح والقيام بشأنه، فإن أفسد بعد منعه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال. وقال للذي يخدع في البيع: (إذا بايعت فقل لا خلابة). ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ماله.
من مستدرك الحاكم للنيسابوري جزء 7 :
حدثني علي بن حمشاد العدل، ثنا أبو المثنى معاذ بن معاذ العنبري، ثنا أبي ثنا شعبة، عن فراس، عن الشعبي، عن أبي بردة،عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم رجل كانت تحته امرأة سيئة فلم يطلقها، ورجل كان له مال فلم يشهد عليه، ورجل آتى سفيهاً ماله وقد قال الله عز وجل: "وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ....."(النساء:5).
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه لتوقيف أصحاب شعبة هذا الحديث على أبي موسى وإنما أجمعوا على سند حديث شعبة بهذا الإسناد ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين وقد اتفقا جميعاً على إخراجه.
ويتبع >>>>>: الوصاية على السفيه من فتح الباري1
واقرأ أيضاً:
أفكار بحثية عن الإعجاز العلمي لكتاب الله الكريم / سنريهم آياتنا في الآفاق