- نحن مختلفين في أشياء كثيرة، في شخصياتنا وفي أفكارنا وفي طريقة حياتنا وفي علاقاتنا بالناس، وحتى في علاقتنا بربنا
- ولماذا تزوجتم إذن؟
- بهرتني فيه صفة، وأعمتني عن باقي الصفات
- هذا ما نحذر منه كثيرا... عموما هذا شيء قد حدث ولا يجدي البكاء عليه الآن... ولكن ما نتيجة خلافاتكم الآن؟
- كل منا لا يطيق الآخر، وكل منا مصر على موقفه
- هل هو العناد؟
- ربما، وربما يكون قلق كل منا على شخصيته وكرامته خشية أن يهدرها الآخر.... ثم لماذا يصر هو على أنني مخطئة وعليّ أن أتغير لأوافق طباعه وطريقة تفكيره؟.. أليس في هذا استبدادا واستعلاءا وعنجهية؟.. وبالمناسبة أنا أكثر منه نجاحا في العمل وفي الحياة وفي العلاقات الاجتماعية، وهو يقلق كثيرا من ذلك، ويريد مني اعترافا بأنني الأقل وأنني الأجهل، وأن أسلم له قيادي
- أرى أن الأمر قد تحول إلى تنافس وصراع وليس فقط خلاف بين زوجين
- هو فعلا كذلك
- وماذا عن أحوال الأبناء بينكما في تلك الظروف؟
- يعانون أكثر منا فهو يريد أن يربيهم على طريقة أبيه وأمه وهي طريقة بدائية ومع ذلك هو معجب بها جدا، وأنا أحاول أن أرتقي بهم بشكل عصري متفتح، هو يربي كيفما اتفق وأنا أربي طبقا لمعايير راقية أستقيها من قراءاتي ومن الدورات والدراسات التربوية التي أهتم بها، هو يرى أن أمه كانت أمية ومع ذلك استطاعت أن تربيه هو وإخوته أحسن تربية وتجعلهم مستشارين وأطباء ومهندسين ناجحين، وأنا أشك تماما في نجاحهم على الرغم من مناصبهم ووظائفهم، فالنجاح عندي هو في جودة الحياة ورقيها وتطورها. بصراحة لم يعد يجمعنا شيء غير الخوف على مصير الأبناء إن نحن افترقنا... حتى فراش الزوجية لم أعد أطيقه فطريقته فجة ولا يعرف كيف يتعامل مع امرأة رقيقة متحضّرة.
- والحل؟
- لا أعرف... بل إنني أهرب من هذا السؤال، وأعتقد هو أيضا يهرب، ولهذا تزداد الهوة بيننا اتساعا كل يوم، ولا يكاد أحدنا يدرك الآخر أو يشعر به
- هل تصارحتما بذلك؟
- لا
- ولم؟
- لقد يئسنا من الكلام والحوار، فدائما نصل إلى طريق مسدود وينتهي الأمر بشجار وخصومة، لذلك يتجنب كل منا الآخر
- هذا أخطر وضع يصل إليه زوجان
- وماذا أفعل غير ذلك إذا كان شرطه الوحيد أن أغير أنا رأسي وطباعي لأتوافق مع متطلبات "سيادته" وطبائع أمه وتوجيهات أبيه!!
كان هذا نموذجا لأسرة مأزومة (أي تحولت الخلافات فيها إلى أزمة يعاني منها كل أفراد الأسرة) انسدت فيها مسارات الحوار وطغى الخلاف على التفاهم واحتفظ كل طرف بموقفه وموقعه غير عابئ بمشاعر واحتياجات الآخر، والسبب المعلن هو اختلاف الأفكار والطباع والتوجهات والخلفيات الاجتماعية، فهل صحيح أن الخلاف أو الاختلاف ليس له حل خاصة إذا كان متعدد الجوانب وبين طرفين كليهما مصر على موقفه ويعتقد أنه على حق دائما وأن الآخر مخطئ على طول الخط؟..
أبعاد الخلاف في الأسرة المأزومة
هل ما رأيناه في النموذج السابق خلاف أم تعال أم جدال أم شقاق أم عناد أم صراع؟.. وهل يوجد حل لهذا الموقف المتأزم؟.. أم أن المصير المحتوم هو الفراق بين هذين الزوجين المختلفين المعاندين المتصارعين؟.. وهل الأفضل للأبناء بقاء الشكل الاجتماعي للأسرة على الرغم من الخلافات العميقة والدائمة بين الأبوين، أم الأفضل ابتعاد كل طرف عن الآخر حتى لا يعطيا نموذجا مضطربا للأسرة يتأثر به الأبناء سلبا ويعانون منه طول الوقت ويكرهون الحياة الأبوين "معا"، ويكرهون أيضا الحياة الزوجية، ويمقتون كلمة "أسرة"؟
وللإجابة على هذه التساؤلات دعونا نفهم معاني بعض المصطلحات التي وردت في ثنايا الحديث:
* الخلاف أو الاختلاف: هو أن ينهج كل شخص طريقا مغايرا للآخر في قوله أو فعله. وقد يرى البعض أن التعريف السابق ينطبق على الاختلاف فقط، أما الخلاف فهو حدوث مشكلة بسبب هذا الاختلاف.
* الجدل: هو المفاوضة على سبيل المنازعة والغلبة، مأخوذ من جدلت الحبل، إذا فتلته وأحكمت فتله، فإن كل واحد من المتجادلين يحاول أن يفتل صاحبه ويجدله بقوة وإحكام على رأيه الذي يراه. ففي الجدل يحاول كل طرف أن يحمل الآخر على رأيه الذي يتشبث به بشكل مطلق ولهذا لا يستطيع سماع الرأي الآخر أو تفهمه فهو بالنسبة له خطأ مطلق، ورأيه صواب مطلق. وهذا الموقف المجادل يثير مقاومة وعنادا لدى الطرف الآخر لأنه يشعر أنه يفقد حريته ويفقد إرادته وخياراته أمام الطرف المجادل إن هو استسلم لرأيه.
* الشقاق: وهو يحدث حين يشتد الجدل بين طرفين يؤثر كل منهما الغلبة على صاحبه ولا يفكر أحدهما في الحق أو الصواب، ويتعذر بينهما التفاهم أو الاتفاق على أي شيء، هنا يحدث الشقاق بمعنى أن يكون كل واحد في شق من الأرض، وكأنما أرضا واحدة لا تسعهما
* العناد: وفيه يحرص كل طرف على أخذ الموقف المضاد للآخر دائما، وهدفه من ذلك إثبات تميزه عن الآخر ومحاولة إحداث حالة من الغيظ والمكايدة له.
* الصراع: هو حالة حرب باردة أو مشتعلة بين طرفين يحرص كل منهما على إيذاء الآخر وإضعافه أو إلغائه
وقد يكون من المهم أن يعرف كل من الزوجين ما هي المرحلة التي وصلا إليها: أهي خلاف أم جدل أم شقاق أم صراع، ليس هذا فقط بالنسبة للزوجين بل أيضا لمن يقوم بالوساطة أو التحكيم أو الإصلاح بينهما، فالاستبصار بدرجة المشكلة وحدتها هو أول خطوات الحل الصحيح.
وثمة بديهية جدير بنا أن نسلم بها في بادئ الأمر ونهايته وهي أن الاختلاف من طبائع البشر وطبيعة الأشياء، وهو في حالة حسن إدارته يؤدي إلى التنوع والثراء، وهذه حكمة الله في الكون حيث يقول تعالى في كتابه الكريم: "وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ...."(هود: 118، 119).
وللإمام الشافعي قاعدة ذهبية في فقه الخلاف يقول فيها: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، وللفيلسوف الفرنسي أيضا كلمة ذهبية في هذا الشأن يقول فيها: "قد أختلف معك في رأيك، ولكنني مستعد لأن أدفع حياتي ثمنا لحريتك في التعبير عن هذا الرأي".
وحين نرى الخلاف والاختلاف من هذا المنظور، ونتعامل معه بهذا الأدب الراقي فإننا نريح أنفسنا ونريح غيرنا ونتفادى الكثير من الصراعات المؤلمة في حياتنا. وهذا لا يعني تشجيع الخلاف الدائم بين الزوجين دونما مساحة معقولة من الاتفاق، بل إن مساحة الاتفاق والالتقاء هي صمام الأمان للتعامل مع مساحة الاختلاف، ولذلك كان التعارف في فترة الخطبة مهما لرؤية التناسب بين تلك المساحات من الاتفاق والاختلاف ومدى مناسبتها لاستمرار الحياة الزوجية، وإذا ثبت أنه لا توجد أي مساحة للاتفاق في فترة الخطبة فلم الإقدام على الزواج إذن؟.. ولم نعرض أبناءنا للعيش بين قطبين متنافرين تماما لا يوجد بينهما أي رابط؟
فإذا تأكدنا من التوازن بين مساحات الاتفاق والاختلاف، فدعمنا الأولى وأدرنا الثانية بشكل عاقل وراق ونبيل فإن الحياة الزوجية تمضي في سلام، أما في حالة سوء إدارة الاختلاف فذلك بداية الصراع المدمر للطرفين.
ولكل مرحلة من مراحل الحياة الزوجية طبيعة لخلافاتها فمثلا تكثر الخلافات في السنة الأولى حول طبائع كل من الطرفين ومحاولة توفيقها مع طبائع الطرف الآخر، أما بعد السنوات الأولى فتكثر الاختلافات حول طريقة تربية الأبناء، وفي مرحلة منتصف العمر تزداد الخلافات المتعلقة باهتمامات وعلاقات كل طرف خارج المنزل وخاصة العلاقات بالجنس الآخر.
وقد تتباين الاختلافات طبقا للمستويات الاجتماعية والاقتصادية فمثلا تكثر الخلافات حول العمل والمصروفات والأزمات المادية وكيفية حلها لدى الطبقات الفقيرة والمتوسطة، بينما تظهر الخلافات الثقافية والوجدانية لدى الطبقات الأعلى.
القاعدة الوجدانية
وقد يتورط الزوجان أو من يصلح بينهما في اعتبار أن المشكلة تكمن في الخلافات العائلية أو المادية أو الفكرية أو العقائدية أو الثقافية أو في اختلاف الآراء والتوجهات، وينسون أن العلاقة الزوجية هي علاقة وجدانية في أغلبها، وأن التوافق والتصالح يرتكزان أساسا على قاعدة من الحب إذا غابت كان من الصعب تعويضها، وأصبحنا نتوه في تفاصيل خلافات لا حد لها، وكلما حسمنا خلافا ظهر خلاف آخر بلا نهاية.
فوجود علاقة حب بين الزوجين كفيل بإذابة الكثير من الخلافات والعيوب، بل إن المحب قد لا يرى عيوب محبوبه، وإذا رآها فإنه يصغرها أو يبررها أو يدافع عنها وربما أحبها بحبه لصاحبها. أما إذا غابت تلك القاعدة الوجدانية فإن كل كلمة تثير خلافا، وكل موقف يفجر شجارا، وكل عيب يبدو متضخما، وكل مشكلة تبدو معقّدة وبلا حل، وهذا مصداق للمثل الشعبي "حبيبك يبلع لك الزلط، وعدوك يمنى لك الغلط".
وهناك اعتقاد خاطئ لدى كثير من الناس وهو أن الزوجين يجب أن يكونا متشابهين، وحبذا لو كانا متماثلين أو متطابقين، وإذا لم يكونا كذلك في البداية فعليهما أن يسعيا أو يسعى أحدهما لتحقيق ذلك، وإذا لم ينجحا في ذلك فإن النتيجة هي الجدال أو الشقاق أو الصراع ليؤدي ذلك في النهاية إلى الطلاق. والحقيقة أن العلاقة بين الزوجين ليست علاقة تشابه وتطابق بقدر ما هي علاقة توافق وتكامل، فقد يكونا مختلفين ولكنهما متكاملين، وأقرب مثال لذلك هو علاقة موج البحر بالشاطئ، فالموج قد يكون في بعض الأحيان صاخبا هادرا، ولكنه يصل إلى الشاطئ فيهدأ ويرق ويستريح، فكلاهما يزيد الآخر قوة وجمالا على الرغم من اختلافهما.
واقتصار حبنا على من يشبهنا هو نوع من الحب النرجسي أي أننا هنا نحب أنفسنا حبا هائلا ولا نحب إلا كل ما هو شبيه لنا على اعتبار أننا النموذج المثالي في الجمال والكمال، أما النوع الآخر من الحب وهو "الحب الغيري" فيعني أننا نحب الآخر بصفاته التي ربما تختلف عن صفاتنا ومع هذا يحدث بيننا وبينه نوع من التكامل والتناغم يثري وجودنا ويثري الحياة.
تجاهل الخلاف
وقد يتجاهل الزوجان أو أحدهما ما بينهما من اختلافات أو خلافات ظنا منهما أنها لا تستحق الاهتمام أو يأسا من الوصول إلى أي درجة من الاتفاق خاصة إذا كان أحد الطرفين يصر دائما أنه على حق، وأن الحوار هدفه إثبات ذلك للطرف الآخر. وتجاهل الاختلاف تهوينا أو يأسا يؤدي إلى تراكمات سلبية على المستوى الفكري والوجداني تؤدي إلى تسميم العلاقة الزوجية وتوسيع الفجوة يوما بعد يوم، وقد يصل الأمر بعد فترة إلى حالة اللارجعة.
وقد يحاول الأهل أو الأصدقاء التقليل من أهمية الخلافات خاصة حين يتوسطون للصلح بين الزوجين، وقد يكتفون بحلول الترضية السطحية لأحد الطرفين أو كليهما (كأن يقبل كل منهما رأس الآخر)، وكأنهم هنا يضعون المرهم على الجرح الغائر المتقيح أو على السرطان فيحدث نوع من الراحة المؤقتة يعقبها تفجر أخطر للخلافات مع عواقب أكثر سوءا. وقد يكون التجاهل تفاديا للطلاق المؤكد حيث يعلم الطرفان أو أحدهما أن فتح ملفات الخلافات بينهما سيؤدي حتما إلى مواجهة حادة لا تنتهي إلا بالطلاق.
متى يكون الحوار حلا؟!
وبما أن الاختلافات حتمية بين البشر في كل مراحل حياتهم وفي كل مستوياتهم الاجتماعية والاقتصادية، إذن لابد من وجود آليات مناسبة للحل تعمل طول الوقت خاصة إذا تحولت الاختلافات إلى خلافات (أي أصبحت تسبب مشكلة)، ولنأخذ مثالا لذلك أننا نلبس ملابسنا في البداية نظيفة، ومع الحركة والعمل والاحتكاك يصيبها التلوث والبقع، ونحن هنا لا نتخلص منها لهذا السبب ولكن نضعها في الغسّالة فتعيد إليها نظافتها ثم نمر عليها بالمكواة فنعيد لها رونقها وجمالها، وهكذا الحياة الزوجية تحتاج لآليات تنظيف وتنسيق وتجميل لكي تظل براقة طازجة متألقة. وحين تسأل أحدا عن هذه الآليات تسمع مباشرة كلمة "الحوار"، تلك الكلمة التي لاكتها الألسنة حتى فقدت معناها، وأصبح الشباب يستخدمها للدلالة على السخرية والخداع فيقول لك: "فلان بيحوّر عليّ".. أو يصف شخصا بأنه "محوراتي".. أو يقول لك محتجا ومتعجلا "إحنا مش ها نخلص من الحوار ده بقى".
إذن فالحوار ليس حلا سحريا طول الوقت لمشاكلنا بل قد يكون هو نفسه أحد مشاكلنا، إذ ليس كل حوار إيجابيا بالضرورة، وهذا يستدعي منا مراجعة مسألة الحوار وأثره في الحياة الزوجية بشكل خاص.
فالحوار في اللغة بمعنى المحاورة أي المجاوبة، والتحاور هو التجاوب (الرازي 666 هـ). وفي معناه الاصطلاحي هو تفاعل لفظي أو غير لفظي بين اثنين أو أكثر من البشر بهدف التواصل الإنساني وتبادل الأفكار والخبرات وتكاملها. وهو نشاط حياتي نستخدمه في كل وقت، وقد يكون إيجابيا فتصلح به حياتنا وقد يكون سلبيا فنشقى به أيما شقاء، فقد نتحدث مع بعضنا كثيرا ونتحدث في كل شيء وعن كل شيء ولكننا نتألم ونشقى مع هذا الحوار وتتدهور حياتنا به نظرا لقيامه على أساس أعوج. وهذا يستدعي منا أن نراجع أهداف الحوار ومرجعية الحوار ومستويات الحوار وبعض ألوان الحوار السلبي في حياتنا الزوجية لكي نعرج في النهاية إلى خصائص الحوار الإيجابي.
أهداف الحوار
1 – محاولة فهم الآخرين (وليس تعليمهم أو إثبات أنهم على خطا)
2 – إقناع الآخرين بوجهة نظر معينة (وليس إجبارهم على تبني رؤيتنا الشخصية على أنها الحق المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه)
3 – الوصول إلى صيغة من التفاهم والتعايش والتكامل (وليس إلى تحقيق أهدافنا الشخصية وإثبات وتثبيت رؤانا الخاصة)
4 – الارتقاء بالوجود البشري عن طريق تبادل وتكامل وتراكم الخبرات (وليس إثبات أننا الأعلم والأقدر والأحكم)
مرجعية الحوار
كلما كانت هناك مرجعية قوية وأرضية مشتركة كلما كان الحوار أكثر إيجابية وثراء وتكاملا، وعلى العكس كلما ضعفت هذه المرجعية أو تشتت أو تعارضت كلما تعطلت مسارات الحوار أو ضاقت وأصبح الحوار أقرب إلى الضجيج. وهذا يعيدنا إلى فترة الاختيار وفترة الخطبة حيث كنا نؤكد على وجود تكافؤ اجتماعي وثقافي وأرضية مشتركة بين الشريكين وحد أدنى من الأشياء المتفق عليها حتى تكون قاعدة لحوار إيجابي فيما بعد . والمرجعية هنا أشبه بالدستور الذي يتحاكم إليه الناس، والمعيار الذي يقيسون بها الأقوال والأفعال.
مستويات الحوار
1 - الحوار الداخلي (مع النفس): وفى حالة كون هذا الحوار صحياً فإنه يتم بين مستويات النفس المختلفة في تناغم وتصالح دون إلغاء أو وصم أو إنكار أو تشويه. أما إذا فشل ذلك الحوار النفسي الداخلي فإن الاضطرابات الناتجة ربما تدفع بموجات العنف المتراكمة إلى الخارج أو إلى الداخل فتكون مدمرة للآخرين أو للنفس ذاتها.
2 - الحوار الأفقي (مع الناس): وهو قدرتنا على التفاهم والتفاعل والتعايش ليس فقط مع من يتفقون معنا أو يشبهوننا بل أيضا مع المختلفين معنا والمغايرين لنا.
3 - الحوار الرأسي (مع الله): وتختلف طبيعة هذا الحوار عن المستويين السابقين حيث يتوجه الإنسان نحو ربه بالدعاء والاستغفار وطلب العون ويتلقى منه سبحانه إجابة الدعاء والمغفرة والمساعدة. وهذا المستوى إذا كان نشطاً وإيجابياً فإنه يحدث حالة من التوازن والتناسق في المستويين السابقين (أي في حوار الإنسان مع نفسه وحواره مع الآخرين).
قبول الاختلاف كسنة كونية أساس لنجاح الحوار
إن الاختلاف في وجهات النظر وتقدير الأشياء والحكم عليها، أمر فطري طبيعي وله علاقة بالفروق الفردية إلى حد كبير، إذ يستحيل بناء الحياة، وقيام شبكة العلاقات الاجتماعية بين الناس ذوي القدرات المتساوية والنمطية المتطابقة، إذ لا مجال –عندئذ- للتفاعل بين البشر. وقد يخطئ أحد الزوجان أو كلاهما حين يعتقد أن الحوار الآن سيحل كل الاختلافات ويوحد الرؤى للأبد بين الطرفين، ولهذا ينزعج حين يكتشف أن ثمة خلاف نشأ حول نفس الموضوع أو موضوع مشابه بعد فترة من الزمن، وأن الطرف الآخر يخطئ إذ لا يحقق كل توقعاته، ولا يتفق معه في كل أو معظم آرائه.
ألوان من الحوار السلبي
1) الحوار العدمي التعجيزي: وفيه لا يرى أحد طرفي الحوار أو كليهما إلا السلبيات والأخطاء والعقبات وهكذا ينتهي الحوار إلى أنه "لا فائدة" ويترك هذا النوع من الحوار قدرا كبيرا من الإحباط لدى أحد الطرفين أو كليهما حيث يسد الطريق أمام كل محاولة للنهوض.
2) حوار المناورة (الكروالفر): ينشغل الطرفان (أو أحدهما) بالتفوق اللفظي في المناقشة بصرف النظر عن الثمرة الحقيقية والنهائية لتلك المناقشة وهو نوع من إثبات الذات بشكل سطحي.
3) الحوار المزدوج: وهنا يعطي ظاهر الكلام معنى غير ما يعطيه باطنه وذلك لكثرة ما يحتوي من التورية والألفاظ المبهمة.. وهو يهدف إلى إرباك الطرف الآخر.. ودلالاته أنه نوع من العدوان الخبيث.
4) الحوار السلطوي (اسمع واستجب): وهو نوع شديد من العدوان حيث يلغي أحد الأطراف كيان الطرف الآخر ويعتبره أدنى من أن يحاور، بل عليه فقط السماع للأوامر الفوقية والاستجابة دون مناقشة أو تضجر. وهذا النوع من الحوار فضلا عن أنه إلغاء لكيان (وحرية) طرف لحساب طرف آخر، فهو يلغي ويحبط القدرات الإبداعية للطرف المقهور وربما يدفعه ذلك لممارسة العدوان السلبي على الطرف القاهر المستبد.
5) الحوار السطحي (لا تقترب من الأعماق فتغرق): حين يصبح التحاور حول الأمور الجوهرية محظورا أو محوطا بالمخاطر، يلجأ أحد الطرفين أو كلاهما إلى تسطيح الحوار طلبا للسلامة أو كنوع من الهروب من الرؤية الأعمق بما تحمله من دواعي القلق النفسي أو الاجتماعي. وفي هذا الحوار يتجنب الزوجان فتح الملفات الشائكة أو المسائل الحساسة فتبقى دائما بلا حل.
6) حوار الطريق المسدود (لا داعي للحوار فلن نتفق): يعلن الطرفان (أو أحدهما) منذ البداية تمسكهما (أو تمسكه) بثوابت متضادة تغلق الطريق منذ البداية أمام الحوار وهو نوع من التعصب والتطرف الفكري وانحسار مجال الرؤية.
7) الحوار الإلغائي أو التسفيهي (كل ما عداى خطأ): يصر أحد طرفي الحوار على ألا يرى شيئا غير رأيه وهو لا يكتفي بهذا بل يتنكر لأي رؤية أخرى ويسفهها ويلغيها. وهذا النوع يجمع كل سيئات الحوار السلطوي وحوار الطريق المسدود.
8) الحوار الموافق دائماً (معك على طول الخط): وفيه يلغي أحد الأطراف حقه في التحاور لحساب الطرف الآخر إما استخفافاً (خذه على قدر عقله)، أو خوفاً، أو تبعية حقيقية طلباً للراحة وإلقاء المسئولية كاملة على الآخر.
9) الحوار المعاكس دائماً (عكسك دائماً) حين يتجه أحد طرفي الحوار يمينا يحاول الطرف الآخر الاتجاه يسارا والعكس بالعكس وهو رغبة في إثبات الذات بالتميز والاختلاف ولو كان ذلك على حساب جوهر الحقيقة.
10) حوار العدوان السلبي (صمت العناد والتجاهل): يلجأ أحد الأطراف إلى الصمت السلبي عنادا وتجاهلا ورغبة في مكايدة الطرف الآخر بشكل سلبي دون التعرض لخطر المواجهة.
خصائص الحوار الإيجابي
وبما أن الحوار عملية تبادلية بين طرفين أو أكثر، وهو يتم من خلال عمليتين أساسيتين هما الإرسال والاستقبال إذن فلنحاول الآن أن نرى كيف يمكن أن يتم الحوار بشكل فعال من خلال تحسين كفاءة الاستقبال (السماع) والإرسال (التحدث):
1) الاستقبال (أدب الاستماع):
إن أهم شروط الحوار الناجح مع الآخرين حسن الاستماع والفهم لما يصدر عنهم، وهذا الاستماع الجيد يعطى فائدة مزدوجة للطرفين فبالنسبة للمتحدث يشعر بارتياح واطمئنان حيث يجد أن الطرف الآخر يحسن الإصغاء له ويعي ما يقوله، وهذا يعطى فرصة لدوام الحوار والتواصل بشكل جيد وسلس. وبالنسبة للمستمع فإن إنصاته وفهمه الجيد لما يقوله المتحدث يعطيه قدراً من المعلومات وإلماماً بالموضوع يسمح له بالرد المناسب والحوار المناسب. ولكن: ما هي الشروط الواجب توافرها لكي نحقق الاستماع الجيد؟..... والإجابة هي:
0 إقبال المستمع بوجه طلق هادئ نحو المتحدث.. مع إعطاء إيماءات المتابعة والفهم من وقت لآخر حتى يتأكد المتحدث أن المستمع معه دائماً.
0 عدم إظهار علامات الرفض أو الاستياء بشكل يقطع على المتحدث فرصة الاسترسال إلا إذا كان قطع الاسترسال مطلوباً لذاته.
0 عدم إعطاء ردود فعل سريعة ومباشرة قبل أن ينتهي المتحدث من كلامه.
0 عدم ملاحقة كلام المتحدث بكلام من المتلقي بشكل سريع، بل الأفضل السكوت للحظة للاستيعاب وإعادة النظر في كلام المتحدث ثم ترتيب الأفكار قبل التعليق.
0 الفهم الجيد لمحتوى الحديث مع محاولة إعادة ترتيبه إذا أمكن.
0 الإدراك الجيد للمشاعر التي يبديها المتحدث أثناء حديثه، فهذا الإدراك يعطى بعداً هاماً للحديث من خلال التعرف على الانفعالات المصاحبة للموضوع.
0 قراءة لغة جسم المتحدث كإشارات يديه وإيماءات رأسه وحركات جسمه.
0 أن يحاول المستمع ضبط انفعالاته تجاه ما يسمع وأن يتذكر دائماً أن كل شيء قابل للمناقشة والتحاور والأخذ والرد، وأن الانفعالات الحادة تقطع طريق التواصل الجيد وتعتبر إحدى علامات عدم نضج الشخصية.
0 أن لا يعتبر المستمع نفسه في موقف القاضي الذي يستمع فقط ليقيم محدثه ثم يحكم له أو عليه.
2) الإرسال (أدب التحدث):
حين يتحدث شخص أمام الناس بهدف توصيل رسالة أو مفهوم معين فعليه أن يضع في الاعتبار الأشياء التالية:
* شكل المتحدث ومظهره:
1- يستحب أن يكون المتحدث حسن الشكل، حسن المظهر ، مهندم الثياب في بساطة، وأن يخلو مظهره ولباسه من الأشياء الصارخة والملفتة للنظر حتى لا يشتت انتباه المستمع.
2- يجب أن يقبل المتحدث بوجهه نحو المستمع (أو المستمعين).
3- ويتأكد المتحدث قبل وأثناء وبعد الحديث أن أعضاء جسمه في حالة استرخاء وفى وضع مريح، فلا يأخذ أوضاعاً تؤدى إلى التوتر العصبي أو العضلي، أو تثير دهشة أو سخرية المستمع.
4- يحرص المتحدث على عدم المبالغة في إظهار الانفعال إلا لضرورة (كأن يثير حماساً معيناً في موقف يستدعى الحماس)، وأن لا يبالغ في حركات يديه أو جسمه أثناء التحدث.
5- التوسط في سرعة السرد فلا يكون بالبطيء الممل ولا بالسريع المخل.
* مضمون الحديث:
إن لمضمون الحديث أثراً هاماً وعليه يتوقف مسار الحوار والمناقشة، فإذا كان مضمون الحديث ومحتواه جذاباً ومريحاً للمستمع استمر الحوار البناء وآتى التواصل ثمرته، أما إذا كان محتواه غير ذلك فإن الحوار يصبح دفاعياً أو هجومياً وتكون نتيجته سلبية على الطرفين.
وقد تابع أحد علماء النفس (Gibb،1966) عدداً كبيراً من المناقشات في عدد من المجالات المختلفة خرج منها بتصنيف مزدوج للمناقشة الدفاعية وكيف يمكن أن تكون مناقشة حيوية حوارية (بن مانع، عن كتاب الانكفاء على الذات)، وسوف نورد هذا التصنيف هنا باختصار للاستفادة منه في تحسين نوعية التواصل بين الزوجين:
1- التقييم مقابل الوصف: فكلما زاد التقييم من قبل الشخص المتحدث سواء كان مباشراً أو غير مباشر، أو كان كلامياً أم من خلال لغة الجسم من نبرات صوت أو حركات، كلما زاد الموقف الدفاعي لدى المستمع، وبالرغم من أن المستمع قد لا يقابل التقييم بسلوك دفاعي إلا أن هذا يتم في حالات قليلة بينما الغالبية تقابل التقييم بسلوك دفاعي، وإذا أردنا تجنب هذه الحالة فما على المتحدث إلا أن يتبع وصف الحالة المناقشة دون إشعار الآخرين بأنه يحاول تغيير وجهات نظرهم أو تقييم سلوكهم، عند ذلك يقابل هذا الحديث بارتياح وعدم تحفظ أو هجوم.
2- التحكم مقابل الاختيار: عندما يحاول المتحدث فرض وجهة نظره بطريقة الإقناع القوى بمختلف الطرق المباشرة وغير المباشرة، يزرع في المستمع مقاومة هذا التوجه ورفضه، لأن المستمع يستنتج من سلوك المتحدث هذا أنه ينظر إليه على أنه غير كفء لاتخاذ القرار المناسب بنفسه ومن ثم يأخذ موقفاً دفاعياً يجعل المناقشة تراوح مكانها. غير أن المتحدث عندما يعطى الانطباع في حديثة أنه يرغب في التعاون مع المتحدث إليه يفهم من هذا أن المتحدث يقدر قدرته على البحث عن حل والرغبة في التعاون وبالتالي فإن المستمع يشترك بطريقة تلقائية تعاونية في المناقشة ويسهم إسهاماً كبيراً في البحث عن حل بطريقة تنم عن المرونة وعدم الدفاعية، ومن ثم الحرية في مناقشة الموضوع.
3- استخدام الإستراتيجيات مقابل التلقائية: فعندما يقوم المتحدث باستخدام استراتيجيات مثل الغموض في الكلام، أو الدوافع المتعددة، أو يتكلم بتلقائية غير طبيعية فإن ذلك قد يعبر عن سذاجة وعدم مصداقية أو إمكانية خداع، وهنا نجد المستمع يتخذ موقفاً دفاعياً، ذلك أن الناس لا يريدون أن يكونوا ضحاياً للغموض والدوافع الذاتية. لكن المستمع عندما يدرك أن المتحدث يتكلم بتلقائية طبيعية وهى تلك التي تعنى الاستقامة والأمانة والاستجابة حسب طبيعة الأحوال المحيطة، فإنه يبادل المتحدث بنفس الطريقة، وهنا تنساب المعلومات المتبادلة ويتم فتح ميدان خصب لتنمية المهارات المختلفة.
4- عدم الاكثرات مقابل التعاطف: عندما يكون المتحدث غير مكترث بالموضوع قيد النقاش ويظهر البرود حياله، يفقد النقاش الحيوية والاهتمام، ويجعل المستمع غير متحمس، ويصبح مستمعاً سلبياً ومتحدثاً دفاعياً أو هجومياً. ولكن عندما يكون المتحدث متحمساً ومتعاطفاً مع الموضوع فإن ذلك يجعل المستمع جاداً في استماعه وحديثه، يتحدث بتلقائية ويدلى بمعلومات ذات علاقة كبيرة بالموضوع المناقش ويزداد إثراء النقاش وحيويته.
5- التعالي مقابل التساوى: عندما يحاول المتحدث أن يظهر أنه متفوق في شيء ما سواء في المكانة أو المال... الخ ، فإن ذلك يعنى بداية المواقف الدفاعية لدى الآخر وبداية التفكير في آثار ومضامين الحديث على المستمع وبالتالي نسيان الموضوع المناقش برمته. لكن المتحدث عندما يفصل للمستمع آثار المشكلة دون أي اعتبار لما ذكر أعلاه، وأن حل المشكلة عمل جماعي مشترك تحكمه الثقة والاحترام المتبادل، فإن أي فارق بين الأشخاص بعد ذلك غير ذي أهمية، وعند ذلك تصبح المناقشة غنية متدفقة بين أطراف النقاش.
6- التصلب مقابل المرونة: إن التصلب في رأى أثناء مناقشة موضوع أو مشكلة ما يعتبر في حد ذاته عائقاً في سبيل النقاش أو حتى يؤدى إلى توقفه. فقد يكون هناك أشخاص يظهرون أنهم ليسوا في حاجة إلى زيادة معلومات عن المشكلة بينما الواقع غير ذلك، وهذا مظهر من مظاهر التصلب يحول دون مباشرة الموضوع. إن مثل هذا العمل يجعل الآخرين يقومون بأنماط من السلوك الدفاعي، وهذا يجعل النقاش في أضعف مستوى له. لكن عدم التصلب، أي المرونة في التنازل عن الرأي عند اللزوم وتقبل آراء الآخرين، وفى الوقت الذي لا يعنى الأخذ بهذه الآراء، أمر ضروري في سبيل الوصول إلى آراء متفق عليها. ولعل أهم دليل على المرونة وعدم التصلب هو البحث عن حل للمشكلة وتقبل أي أطروحات للحل ووضعها موضع النقاش والتحليل والدراسة.
بعض النقاط التطبيقية في الحوار الفعّال
* نحن لا نسعى لأن يكون الحوار فقط إيجابيا ولكن ممتعا
* لن نترك الحوار للصدفة أو للضرورة ولكنه جزءا هاما وحيويا من اهتماماتنا وله مكان في الجدول اليومي للأسرة
* نحن لا نتحاور لفظيا فقط ولكن بكل اللغات اللفظية وغير اللفظية
* نحن ندخل في اهتمامات بعضنا البعض
* شعارنا: كل شيء قابل للتفاهم والتفاوض دون شروط مسبقة
* لا يوجد لدينا أحد لا يخطئ
* نتحاور بواقعية ونسعى للارتقاء "معا"
* لا نلف وندور حول الموضوع بل ندخل إليه مباشرة
* لا ننبش لبعضنا عن الأخطاء السابقة وإنما نركز فقط على المشكلة الحالية
* لا نتصيد الكلمات لندين الطرف الآخر أمام الغير فنحن أحباب قبل أن نكون خصمين
* كل منا يتحدث عن المشكلة حسب رؤيته لها ويحترم رؤية الآخر لنفس المشكلة
* لا ننسى نقاط الاتفاق ولا ننسى لحظات السعادة والانسجام بيننا
* نتجنب منطق حقي وحقك، أي المنطق التجاري، ونتذكر قول الله تعالى لنا: ".... وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ..."(البقرة:237)، فنحن كزوجين نتعامل بالفضل لا بالعدل
* من النبل والكرامة أن أحافظ على حق الآخر وأصونه حتى وأنا مختلف معه
* من الثقة بالنفس أن أعترف بأخطائي.. وأتمنى أن يشجعني شريكي على ذلك ويحترمه
* ليس بالضرورة أن نصل لحل نهائي وقت الغضب، وليس بالضرورة أن نصل لحل الآن
* لن نحاسب بعضنا البعض على تجاوزاتنا وقت الغضب
* لن نترصد الزلات والأخطاء
* نضع في الاعتبار أننا لا نعيش وحدنا بل بيننا أبناء نشترك في حبهم مهما كانت خلافاتنا
* أبناؤنا يتعلمون منا كيف نختلف وكيف نحل هذا الخلاف
* الخلاف جزء من حياتنا الطبيعية.. والصلح أيضا كذلك
* لن نمزق ملابسنا ونشوه بعضنا البعض في لحظات الخلاف.. ودائما نترك خط رجعة
* فلنتق الله في بعضنا فقد التقينا بكلمة منه
الطرف الثالث والخروج من الطريق المسدود
قد يصل الزوجان إلى طريق مسدود لسبب أو لآخر، فقد تكون أنماط الحوار بينهما سلبية، أو تكون مساحة الخلاف هائلة ويصعب تجاوزها، أو يكون الأمر تعدى مرحلة الخلاف إلى مراحل الجدال أو الشقاق أو الصراع، أو يكون أحد الأطراف مصرا على أن المشكلة في الطرف الآخر وعليه أن يتغير ليناسب احتياجاته وأنه لا يستطيع قبوله إلا بشرط التغيير كما يفهمه هو. وفي هذه الظروف يتوجب وجود طرف ثالث يضبط إيقاع العلاقة بين الطرفين المتنازعين، وهذا الطرف الثالث قد يكون من الأقارب أو الأصدقاء بشرط توفر الحيدة والنزاهة والأمانة والحكمة والخبرة بالحياة، وفوق كل هذا النية للإصلاح والصبر على الطرفين حتى يصلا إلى بر الأمان.
وفي حالة النزاعات الشديدة يعين حكمان أحدهما من عائلة الزوجة والآخر من عائلة الزوج وذلك طبقا للنص القرآني: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً"(النساء:35). وحين لا يتوافر حكمين فيهما صفة الحكمة والنية الحسنة في العائلتين، فربما نلجأ لتحكيم متخصص كقاض أو أخصائي اجتماعي أو نفسي أو طبيب نفسي ، والمتخصص تتحقق فيه (غالبا) الحكمة والحيادية والنزاهة وحسن القصد إضافة إلى الخبرة المهنية.
وعلى الحكم أو المصلح أن تكون لديه نيّة قوية للإصلاح مهما كانت المشكلات الظاهرة، وأن يكون قادرا على رؤية المستويات العميقة من الخلاف وأن لا ينشغل بالدخان عن النار الكامنة تحتها، ومن الأشياء الكامنة العلاقة العاطفية والعلاقة الجنسية، فتلك العلاقات حين تنسجم يتمكن الطرفان من تجاوز تفاصيل كثير من المشكلات، أما حين تضطرب فهنا تظهر أي مشكلة بسيطة وكأنها كارثة عصية على الحل.
وعلى الطرف الثالث أن يستبعد الطلاق من وعيه قدر الإمكان حتى لا يبرز كحل سهل حين تتعقد الأمور أو تصعب أمام عينيه، بل من الأفضل أن يترك اتخاذ قرار الطلاق للزوجين إذا كان لا بد من أخذه فهما أدرى بظروفهما من أي شخص آخر، وهما اللذان يتحملان مسئولية القرار في الحاضر والمستقبل. وهناك الكثير من الحالات حين ننظر إليها من الخارج نعتقد أن الطلاق واجب فيها بل حتمي، ومع هذا نجدهم قد عاشوا معا سنوات طويلة، وهذا ما يسمى "سوء التوافق المحسوب"، إذ على الرغم من علامات سوء التوافق الظاهرة لنا يبقى هناك أسباب تجعلهما يبقيان معا حيث تحقق العلاقة الزوجية أهدافا معينة أو تشبع حاجات لا يستطيعان الاستغناء عنها. ولهذا نقول دائما بأنه من الأفضل أن نترك قرار الطلاق يأخذه أحد الزوجان أوكليهما دون تدخل من الأسرة أو الأصدقاء أو الطبيب النفسي أو الأخصائي النفسي أو الاجتماعي حتى ولو كان هؤلاء يرون أن الطلاق أفضل للزوجين.
متى يصبح الطلاق حلا
هذا السؤال صعب للغاية أن يجيب عليه أحد في حالة بعينها، إذ أن الحياة الزوجية لها جوانب ومستويات متعددة قد لا يحيط بها الناظر إليها من الخارج مهما كانت قدرته وكان تخصصه، فدائما تبقى جوانب لا يعلمها إلا الزوجين نفسهما، وربما لا يستطيعان البوح بها حتى بعد الطلاق.
ومع هذا توجد علامات عامة تشير إلى أن استمرار الحياة الزوجية أصبح ضرره أكثر من نفعه للزوجين وربما للأولاد، وهنا يصبح الطلاق حلا مرا، ولكنه أفضل من حياة زوجية أكثر مرارة، فالطلاق هو بحق أبغض الحلال عند الله وأصعب الحلول عند الناس. ومن هذه العلامات نذكر:
* حين تنهار الأركان التي قام عليها الزواج وهي: السكن والمودة والرحمة
* حين لا يرى كل من الزوجين شيئا إيجابيا في الآخر ولفترة طويلة من الوقت (ليس فقط لحظة الغضب)
* حين يصبح ضرر وجود الزوجين "معا" أكثر من النفع
* حين تعجز الأسرة عن توفير جو آمن ومشاعر إيجابية للأبناء
* حين لا توجد أي درجة من التحسن في العلاقة بين الزوجين على الرغم من بذل جهود كثيرة ولمدة كافية، وعلى الرغم من وساطة ذوي الحكمة والخبرة والرأي
* حين تتعدد عوامل الخلاف وتتشابك بشكل يجعل من الصعب تجاوزها أو التعايش معها
إدارة أزمة الطلاق
حين يصر أحد الطرفان أو كلاهما على الطلاق، وتأكدنا أن ذلك لم يكن في لحظة غضب أو انفعال، وأن ثمة عوامل حقيقية تستوجب الانفصال، فإن المطلقين يحتاجان لإدارة أزمة الطلاق وكما احتاجا قبل ذلك لإدارة أزمة الخلافات الزوجية، وقد يقومان هما بإدارة الأزمة في حالة النضج الكافي، أو قد يستعينان بطرف أو أطراف أخرى للمساعدة، وفي كل الحالات نحتاج ما يلي:
* مصارحة الطرف الآخر باستحالة الاستمرار أو صعوبته دون الإساءة إلى شخصه
* الحديث عن الآثار المترتبة على القرار بالنسبة للزوجين وبالنسبة للعائلتين الكبيرتين والأهم من كل ذلك بالنسبة للأبناء، وكيفية مواجهة هذه الآثار بشكل يقلل من ضررها على الجميع
* وجود قناة تواصل جيدة تسمح بالتفاهم حول ما يستجد من مشكلات خاصة حين يبتعد الزوجان عن بعضهما
* ضمان بقاء الرعاية الوالدية المتوازنة (قدر الإمكان) للأبناء بعد الطلاق
* التفاهم في الحقوق والواجبات المادية على قاعدة التعامل بالفضل وليس بالعدل ".... وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ..."(البقرة:237)
* الاتفاق على حفظ الأسرار والخصوصيات بين الطرفين وعدم استخدامها كوسائل ضغط حين الغضب
* الانتباه لعدم استخدام الأبناء كوسائل ضغط أو لي ذراع في أي ظرف من الظروف
* عدم اللجوء إلى تشويه صورة الطرف الآخر مهما كانت الظروف وأن يكون الحديث أثناء إجراءات الطلاق عن موضوعات وليس عن أشخاص.
ولا ينسى الزوجان في حالة استمرارهما أو في حالة انفصالهما أن علاقتهما تمت بكلمة من الله وتنتهي أيضا بكلمة منه وأن الله يرى ويسمع ما يجري بينهما ويطلع على دخائل قلوبهما فليتق كل منهما الله في الآخر وليكن ودودا في علاقته، رحيما نبيلا في خصومته، ولا يستجيب لدوافعه الداخلية أو لتحريض خارجي فيبحث عن ثغرات أو نقاط ضعف لدى الطرف الآخر يعذبه أو يؤلمه بها إرضاء لرغبة الانتقام والتشفي لديه. وإذا ضبطت نفسك متلبسا بالتفنن في إيذاء الطرف الآخر وإذلاله فاعلم أن نفسك تهبط إلى منازل الخسة والضعف والضعة وعدم الثقة بالنفس، أما إذا كنت متسامحا ومتساميا فأنت بالتأكيد في منازل الفرسان النبلاء والأتقياء الصالحين فالناس لا تظهر معادنهم الأصلية إلا في مثل هذه المواقف.
واقرأ أيضًا:
اﻷسرار بين الزوجين .. كتاب مفتوح أم صندوق مغلق؟ / مقياس السعادة الزوجية / مقياس السعادة الزوجية للرجال / رومانسية الرسول