الأحلام والقراءة التكاملية للنص البشري
تقول أن أحلامها –كلها – تتحقق في الواقع، وأنها تأتي مثل فلق الصبح!! وحين حاولت أن أصحح لها ما قالته ليكون: "بعض أحلامي يتحقق" رفضت بشدة وأصرت على أن كل أحلامها تتحقق وأنها تعيش حالة من القلق والرعب بسبب ذلك لأنها تنتظر كل يوم أن ترى في الواقع ما رأته في المنام، خاصة تلك الأحلام المفزعة التي تتضمن حدوث مكروه لزوجها أو أبنائها.
وبقدر اعتقاد هذه السيدة في تحقق أحلامه، تعتقد أيضاً في آراء المفسرين؛ ولذلك فهي تتابع برامج تفسير الأحلام على الفضائيات وتتحدث إلى المفسرين وتأخذ كلامهم بكل الجدية والمصداقية، وتتشكل قراراتها وحياتها بناءً على أحلامها وتفسير أحلامها على الرغم من فشل الكثير من قراراتها المبنية على هذا العالم المجهول.
بل إنها تدّعي رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه أمرها بأشياء وهي تقوم بتنفيذها حرفياً على أنها أوامر دينية لا تقبل المناقشة، وقد أدى هذا إلى اصطدامها بكثيرين ممن حولها بسبب فرضها لأحلامها على حياتهم ومصائرهم، وهي تستند فيما تفعل إلى أقوال بعض المنتسبين إلى العلم أو الدين.
وما زال الأمر محيراً، فهناك عدة تساؤلات حول الأحلام لم تحسم قديماً أو حديثاً، ورغم أنه كانت هناك الكثير من المحاولات للإجابة عنها إلا أنها كانت في غالب الأحيان تنزع إلى المغالاة والتطرف. فمثلاً هناك فريق يؤكد أن الأحلام كلها رسائل وإدراكات غيبية تصل للإنسان أثناء نومه، وهذه الرسائل تأتي أحياناً من الملائكة وتأتي في أحيان أخرى من الشياطين. وتطرف بعض القدماء في هذا المفهوم الغيبي وحولوا كل الأحلام إلى قصص وأساطير وخيالات وأماني وكرامات لا تستند إلى دلائل تاريخية أو دينية ولا يمكن الاعتماد عليها كأساس متين يمكن الاطمئنان إليه والانطلاق منه إلى مزيد من البحث لوضع لبنات جديدة على هذا الأساس.
وهناك فريق آخر يمثله علماء النفس المحدثون (وخاصة التحليليون) ينكرون تماماً الجانب الغيبي في الأحلام (وفي غير الأحلام) ويؤكدون أن الأحلام ما هي إلا حديث نفس مرتبط باحتياجات الإنسان ورغباته ومخاوفه.
أما الفريق الثالث ويمثله علماء الفسيولوجيا فقد وضعوا الأحلام قيد التجارب المعملية والقياسات الكهربية والإلكترونية ورأوا بعض الحقيقة واختزلوا الأمر كله على ما رأوه بأعينهم وأنكروا كل ما لم يستطيعوا أن يروه بالوسائل المتاحة، وهذا الفريق يرى أن الأحلام ما هي إلا استجابات فسيولوجية لمؤثرات خارجية أو داخلية. والغريب في الأمر أن كل فريق من هؤلاء يتنكر تماماً لرؤية الفريقين الآخرين ويؤكد أن رؤيته هي الصحيحة والوحيدة.
ولكننا إذا وسعنا نظرتنا للأحلام ثم حاولنا استخدام أي رأي من الآراء السابقة على حدة فإننا نجد أنه يفسر بعض الأحلام ولا يفسر بعضها الآخر. إذن، فلنحاول الآن طرح بعض التساؤلات لعلنا نظفر بإجابات أكثر حسماً وشمولاً وتتناسب مع مرحلة تطورنا العلمي:
السؤال الأول: من أين تأتي مشاهد الأحلام؟
السؤال الثاني: كيف نفسر تكوين الأحلام والرؤى والتي تمتد من أفكار وصور فوضوية لتصل في بعض الأحيان إلى أحلام مرتبة للغاية ولها أغراض ومقاصد واضحة؟.
السؤال الثالث: كيف نفسر حدوث الأحلام التنبؤية؟
السؤال الرابع: ما هي معيارية العلاقة بين الحقائق الدينية والحقائق العلمية في موضوع الأحلام؟
أما عن مصدر مشاهد الأحلام، فنحن أمام الاحتمالات التالية أحدها أو مجتمعة أو متبادلة:
1- منبهات فسيولوجية من الجسم والبيئة المحيطة:
كأن يكون الشخص جائعاً فيحلم أنه يأكل، أو يسلط على عينيه ضوء أحمر فيحلم أنه يشاهد حريقاً هائلاً... أو أن شخصاً ينام وتحت جنبه جسماً صلباً فيرى في نومه أن أحداً يطعنه بحديدة. وكلّنا جرّب حين نتناول عشاء ثقيلاً فقد نحلم بكابوس مخيف، وحين تمتلئ المثانة بالبول في ليالي الشتاء الباردة قد نحلم أننا نتبول، وقد يحدث فعلاً!.
2- مشاهد قادمة من خلايا المخ مباشرة:
وهنا يمكن أن نميز عدة أنواع:
أ- مشاهد ناجمة عن تنبه خلايا مخية مفردة: ويكون انطباعها ومضة أو عتمة أو صوت مفرد أو حس مفرد، وهي تشكل الهلاوس الجسمية والحواسية المعروفة في أول النوم وأثناءه.
ب- إدراكات ناجمة عن تنبه مجموعة خلايا مخية ذات وظيفة: وهنا يظهر الحلم ممثلاً لوظيفة هذه المجموعة من الخلايا فيكون صوراً في حالة كونها خلايا بصرية، أو يكون صوتاً في حالة كونها خلايا سمعية، أو يكون تذوقاً في حالة كونها خلايا تذوقية... وهكذا.
3- مشاهد من الذاكرة: يرى بعض العلماء أن المشاهد التي يراها الشخص أثناء أحلامه إنما هي مشاهد رآها قبل ذلك في يقظته وهي مخزونة في الذاكرة حتى منذ الطفولة المبكرة. ولكن في كثير من الأحيان يرى النائم في حلمه مشاهد وصوراً وأشخاصاً وأماكن لم يرها في يقظته، فمن أين أتت هذه الأشياء؟
حاول فرويد الإجابة على هذا السؤال بأن قال إنه تحدث عملية تجميع وتكثيف لجزئيات من أشياء مختلفة شاهدها الإنسان فعلاً في يقظته، ونظراً لعلميات التكثيف والإزاحة والإسقاط والمونتاج التي تحدث فإنه ينتج مشاهد تبدو غريبة على الشخص وكأنه لم يرها وهو فعلاً لم يرها كاملة بصورتها هذه وإنما رأى أجزاءها متفرقة في أوقات وأماكن مختلفة ولكنه جمعها في الحلم فأعطت أشكالاً جديدة عليه. وهذا الرأي ليس عليه دليل علمي تجريبي يثبته بالإضافة إلى أنه ليس مقنعاً تماماً لأن الذي يتتبع أحلامه يجد انه حتى جزئيات الحلم أحياناً تكون غريبة عليه وهو لم يرها من قبل.
وجاء يونج (Carl Justaf Jung) ليفسر هذه النقطة فقال: إن الإنسان الحالي يحمل في جيناته أرشيفاً كاملاً للأحداث والذكريات التي حدثت لأجداده السابقين من ملايين السنين، وأن الصور الغريبة التي يراها في الأحلام إنما هي من ذلك المخزون البشري الذي تراكم عبر الأجيال، والإنسان يرتب هذه الصور حسب تكوينه الشخصي ورغباته ومخاوفه، ولذلك قال يونج: الإنسان عربة يركبها أسلافه. ويونج يؤيد هذا الرأي بقوله بأن الإنسان يولد وبه خبرات لم يسبق له تعلمها من قبل وإنما هي تأتي من خلال المخزون التاريخي الطويل لخبرات الأجيال السابقة. وأيضاً هذا الرأي لا يقوم عليه دليل وعليه الكثير من الاعتراضات ليس هنا مجال عرضها.
ونحن إذا استعرضنا رأي فرويد نجد أنه يعزو مشاهد الأحلام إلى خبرات الشخص ذاته في حياته وخاصة فترة الطفولة الأولى، ونجد يونج يعزو تلك المشاهد إلى مخزون الأجيال البشرية السابقة والذي وصل إلى الإنسان الحالي بالتسلسل عن طريق الجينات الوراثية (وهذا الرأي الأخير متأثر إلى حد ما بالنظرية الداروينية)، ولكن ثمة رباط مشترك يربط بين فرويد ويونج في هذه المسألة وهو استبعادهما لأية رسائل غيبية تصل للإنسان أثناء نومه وتشكل بعض صور الرؤى والأحلام، وهذا يتماشى مع النظرة المادية لعلماء القرن العشرين للإنسان والتي تنكر تأثره بعالم الغيب.
أما الدراسات الحديثة فإنها لم تنكر مشاركة الوارد الإدراكي القادم من الذاكرة، بل تؤيده وتميز فيه بين نوعين:
أ- الوارد الإدراكي حديث العهد بالقدوم (ذاكرة متوسطة):
مثل أفكار ومعلومات وانفعالات وخبرات وردت في فترة اليقظة السابقة للنوم. ويبدو أن معظم الأحلام تتعلق بهذا النوع من الوارد، حيث أنه يتم استرجاع المعلومات المتوسطة هذه وذلك كما يلي:
تسحب المعلومة من الذاكرة المتوسطة وترسل إشارة إلى خلايا الطبقة الخارجية من القشرة الدماغية حيث يعاد ترميز الإشارة وتصدر بشكل إصدار موجي مرمّز، حيث تدرك من جديد في مركز الوعي الآني أو في مركز اللاوعي المكمّل له، ثم يعاد إدخالها في مناطق متعددة مختلفة من الذاكرة البعيدة بحسب محتوى المعلومة، فمثلاً حادثة نهارية ذات محتوى انفعالي من جهة وتعلّمي وإمتاعي من جهة أخرى، وتفكيري أيضاً، فتدخل ضمن عدة تصانيف مرة بحسب المحتوى الانفعالي، ومرة التعلّمي ومرة التفكيري وهكذا.
إن هذه العملية من إدخال المعلومات في مواضعها المناسبة وإعادة تصنيف محتوى الذاكرة يتم في الأحلام وأثناء النوم، بحيث تنتقل الخبرات النهارية من الذاكرة المتوسطة إلى الذاكرة البعيدة، وهذا الأمر يفسّر لنا عدم إمكانية حدوث تقدم في التعلم بدون أحلام. ويبدو أن الذاكرة المتوسطة لها قدرة استيعابية محددة ينبغي تفريغها قبل أن تستقبل معلومات جديدة.
ونستطيع أن نضرب مثلاً لهذه العملية بمكتبة كبيرة مقسمة إلى كثير من الأقسام وكل قسم يحتوي على نوعية من الكتب، ويعمل في هذه المكتبة عدة موظفون، وهم يستقبلون ما يصل إليهم من كتب جديدة أثناء ساعات النهار، ولكن نظراً لانشغالهم بالإعمال الأخرى في المكتبة (كاستقبال الجمهور وتسجيل أسمائهم والقيام بخدمتهم) فإنهم يضعون ما يصلهم من كتب جديدة في حجرة صغيرة إلى جانب المكتبة.
وفي المساء عندما تغلق المكتبة أبوابها أمام الجمهور يعكف الموظفون على نقل الكتب الجديدة من الحجرة الصغيرة إلى أقسام المكتبة المختلفة حيث يضعون كل كتاب في القسم الخاص به، وهم بالطبع أثناء نقلهم وتوزيعهم لهذه الكتب لا بد أنهم يقرؤون عناوينها وبعض محتوياتها إذا لزم الأمر حتى يعرفوا أين يضعوها في مكانها المحدد لها.
وهذا يفسر لنا ظاهرة نقابلها كثيراً في حياتنا وهي أن بعض الناس يشكون من أنهم يرون في أحلامهم معظم أحداث النهار التي مرّت بهم وكأنهم يشاهدون شريطاً سينمائياً! وهذه الظاهرة يلاحظ أنها تحدث في بعض الأشخاص العصابيين بتواتر أكثر حيث أن أحداث النهار التي تمرّ بهم تستقبل وهي مثقلة بشحنات انفعالية كبيرة، ولا يتم تصنيفها وإدخالها في الذاكرة في مكانها المناسب وفي وقتها، لذلك تستدعى مرة أخرى من الذاكرة المتوسطة أثناء النوم حيث يكون الجهاز النفسي والعصبي أكثر هدوءاً فيتمكن من ذلك. أما الأشخاص المتوازنون نفسياً وانفعالياً فإنهم يستقبلون أحداث النهار بشكل منظم ويتخذون بشأن معظمها قرارات عقلية هادئة وحاسمة، وبذلك يمكن تصنيفها وإدخالها في الذاكرة في وقتها وبشكل هادئ ومنظم.
ب- الوارد الإدراكي المخزون قديم العهد (ذاكرة بعيدة):
وهنا لا يسترجع المرء أحلاماً من ذاكرته البعيدة، إلا ما ترك أثراً انفعالياً أو تعلّمياً واضحاً وهذا الأمر يحصل حتى في اليقظة حيث لا نستطيع نسيان حادث مروع أو فشل ذريع أو معلومة مهمة، ويبدو أن العملية نفسها تستمر أثناء النوم للأمور الحديثة والقديمة على حد سواء ويفسر ذلك بأننا حتى في اليقظة عندما نكون في حالة راحة (بدون وارد خارجي إدراكي) نلاحظ أننا جلسنا نتذكر ونعاود ترتيب أحداثنا وأمورنا باستمرار، ويبدو أن النوم يسهّل هذه العملية أكثر لانخفاض الوارد الإدراكي إلى أقل مستوى، أما الترميز والتكثيف والاستعاضة فتفسر جزئياً بالتشوه الناجم عن ضعف نشاط القشرة الدماغية وجزئياً عن آليات الدفاع النفسية التي ذكرها فرويد.
وفي رأي الدكتور راتب عبد الوهاب السمان فإن الأحلام المرتبة ذات المعنى والرمزية الهادفة هي نوع من إعادة ترتيب الأمور والتفكير الذاتي.. ويكون محتواها رمزياً ومشوهاً لتشوه وسيلة العرض (القشرة الدماغية) ويكون الترتيب والحلول المختلفة هي: خطط ومشاريع حل الأمور المعلقة والاحتمالات الممكنة والنتائج المتوقعة (كما نتصور في اليقظة أننا حللنا مشاكلنا كلها أو ما نسميه أحلام اليقظة)، فأحلام اليقظة والأحلام المرتبة هما شيء واحد، مع اختلاف أساسي هو أنها في اليقظة غير مشوهة وغير رمزية (لأن القشرة الدماغية تعمل بكامل طاقتها) بينما في النوم رمزية ومشوهة ومتقطعة لضعف نشاط الترميز الموجي القشري.
وهذا يفسر لنا بعض الأحلام التي تكون فيها حلول لمشاكل أتعبتنا في وقت اليقظة، فهذه المشاكل بمعطياتها المختلفة مخزونة في الذاكرة، وهي تسحب من الذاكرة أثناء النوم لإعادة النظر فيها فتظهر بعض إمكانيات الحل المختلفة أثناء النهار، وهذا يمكن أن يفسر لنا بعض الأحلام التنبؤية والتي تكون ناتجة عن حسابات يقوم بها المخ بناءً على معطيات لديه، تلك الحسابات التي تحدث أثناء النوم وفي جو من الهدوء والصفاء والاسترخاء فيصل من خلالها المخ إلى توقعات قد تكون صحيحة كلياً أو جزئياً. ومع هذا لا ننسى أن هناك بعض الحلول لبعض المشكلات أو المواقف تكون خارجة عن هذا النطاق ولا ينطبق عليها المواصفات السابقة كرؤى الأنبياء والصالحين، وهذه لا تكون ناتجة عن الآلية السابق ذكرها وإنما لها آلياتها الخاصة.
4- مشاهد قادمة من مكان ما خارج حدود الإنسان:
هناك نسبة من الأحلام (يطلق عليها الرؤى في الغالب) تكون لها مواصفات خاصة مثل التنبؤ بما سيكون أو كشف شيء مجهول.. إلخ، وهذه المشاهد تختلف عن الأحلام العادية في أنها تكون واضحة ومرتبة وغير مشوهة ويتذكرها الشخص بدقة وتتحقق في الواقع كما رآها الشخص أثناء نومه، ويبدو أن هذه الرؤى عبارة عن رسائل غيبية تصل إلى وعي الإنسان مباشرة عن غير طريق الحواس المعروفة- ولا تحتاج إلى تصنيف أو ترميز في القشرة الدماغية (لأنها لا يحدث لها التشوه المعتاد)، وهي تستقبل بواسطة مستقبلات خاصة (لا نعرف كنهها حتى الآن) تفك شفرتها بالكامل فتكون رؤيا مباشرة كأمر أو نهي أو تحذير ولا تحتاج في هذه الحالة إلى تأويل، أو تفك هذه الشفرة جزئياً فتكون رؤيا رمزية تحتاج إلى تأويل.
نظرية المستقبلات:
لقد كان كلامنا السابق معظمه عن محتوى الأحلام والآن نحاول أن نتأمل ظاهرة الأحلام نفسها (مستفيدين بذلك من الأبحاث والمعطيات العلمية الحديثة) لعلنا نجد ما يربط بين محتوى الأحلام وظاهرة الأحلام.
ثبت علمياً أن الجنين الذي يبلغ من العمر 29 أسبوعاً يقضي 84% من فترة نومه في الأحلام (وهو مازال في بطن أمه)، وتقل هذه النسبة بعد الولادة حتى تصل إلى 38% عندما يكون عمر الطفل 3 شهور ثم تقل نسبة الأحلام إلى 20-25 % من وقت النوم عندما يصبح عمر الطفل سنة كاملة وتثبت هذه النسبة هكذا بقية العمر بحيث أن الإنسان البالغ يقضي 20-25% من وقت نومه في الأحلام.
وقد كان علماء النفس المحدثون -وعلى رأسهم فرويد– يعتقدون أن الأحلام تحدث بشكل عشوائي استجابة لرغبات اللاشعور المكبوتة والمرفوضة، وأن هذه الرغبات هي التي تنشئ الحلم من البداية، ثم جاء بعض علماء الفسيولوجيا وقالوا "لا": إن المثيرات الداخلية (كالجوع والعطش والجنس وامتلاء المثانة والرغبة في التبرز... إلخ) والمثيرات الخارجية (كالصوت والضوء واللمس) هي التي تنشئ الأحلام وتشكل أيضاً محتواها. وكان كلام علماء النفس افتراضياً ظنياً من بدايته إلى نهايته أما كلام علماء الفسيولوجيا فقد كان يستند إلى بعض التجارب، فمثلاً كانوا يسلطون ضوءاً أحمر على عين النائم ثم يوقظونه فيتذكر أنه كان يحلم بنار تشب في المكان أو يسمعونه صوتاً في أذنه فيذكر أنه كان يحلم بمعركة تقرع فيها طبول الحرب ويسمع فيها أصوات انفجارات.. وهكذا، ولكن لم تكن هذه الملاحظات تثبت في كل الأحيان.
ثم اكتشف جهاز رسام المخ الكهربائي (EEG (Electroencephalogram ففتح باباً واسعاً أمام الدراسة المعملية لنشاط النوم والأحلام فقد ثبت من خلاله أن هناك نوعين من النوم:
1- نوم تصاحبه حركات عين غير سريعة (وهو النوم العميق وفيه أحلام قليلة وغير واضحة): ويشكل 75-80% من وقت النوم.
2- نوم تصاحبه حركات عين سريعة (ولنسمه النوم الحالم حيث تكثر فيه الأحلام): ويشكل 20-25% من وقت النوم. وأن فترات النوم الحالم تتخلل ساعات النوم بصورة دورية ومنتظمة، وتتكرر كل ليلة بنفس الشكل والترتيب (وكأنه بصمة مميزة لكل شخص) بصرف النظر عن اختلاف الرغبات النفسية للشخص وبصرف النظر عن المؤثرات الخارجية. وأن الرغبات النفسية والمثيرات الخارجية إذا صادفت إحدى فترات النوم الحالم فإنها تشارك في محتوى الحلم وتدخل ضمن أحداثه ولكنها لا تنشئ الحلم من البداية.
ولنسأل أنفسنا الآن:
ما هي وظيفة الأحلام؟
* أهي نوع من المعرفة المستقبلية (التنبؤ)؟
والإجابة: لقد كانت هناك فعلاً بعض الأحلام والرؤى لها صفة التنبؤ وقد ثبتت هذه الأحلام والرؤى في الكتب السماوية وثبتت أيضاً تاريخياً. وقد حدث هذا مع الأنبياء مثل إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام، ويوسف عليه السلام، ورؤيا فتح مكة التي رآها رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام.. ولم تقتصر هذه الرؤى التنبؤية على الأنبياء والرسل وإنما امتدت لتشمل بعض الناس مثل رؤيا الملك الريان بن الوليد (البقرات السبع والسنبلات السبع) في قصة يوسف عليه السلام، ومثل ما نسمعه من رؤى بعض الصالحين التي تتحقق كما رأوها.
ولكن هل كل الأحلام لها هذه الصفة التنبؤية؟
والإجابة: لا. فإن هذه الأحلام التنبؤية تشكل نسبة نادرة جداً بالنسبة لبقية الأحلام.
*هل الأحلام استجابة لرغبات نفسية داخلية وتصويراً رمزياً لمخاوف الإنسان ورغباته؟
والإجابة: نعم. هناك نسبة كبيرة من الأحلام تعبر فعلاً عن رغبات الإنسان النفسية ومخاوفه.. ويمكن ربطها بشكل منطقي بظروف الإنسان وحياته ومشكلاته.
ولكن هل هذه هي كل الأحلام؟
والإجابة: لا.
* هل الأحلام استجابة للمؤثرات الفسيولوجية الداخلية أو الخارجية أو كلاهما معاً كما ذكرنا من قبل؟
والإجابة: نعم. فما من شك أن بعضنا أو معظمنا قد مرّ بتلك التجربة حين يكون جائعاً فيحلم بأنه يأكل وحين يكون عطشاناً يحلم بأنه يشرب وحين يلح عليه دافع الرغبة الجنسية يعيش في حلمه مواقف جنسية.. وهكذا.
ولكن هل كل المؤثرات الفسيولوجية تؤثر بنفس الدرجة؟
والإجابة: لا. والدليل على ذلك أن الأم حين تكون نائمة تسمع أصواتً كثيرة وربما صاخبة إلى درجة كبيرة وهي لا تصحو من نومها، ولكنها إذا سمعت صوتاً خافتاً صادراً من طفلها الذي ينام في الحجرة المجاورة فإنها تهب من نومها لترى ماذا يريد طفلها. إذن فحتى المؤثرات الفسيولوجية لا تؤثر في النوم والأحلام تأثيراً عاماً وإنما هو تأثير انتقائي.
ومع هذا فهل هذه المؤثرات الفسيولوجية تشكل كل الأحلام؟
والإجابة: لا.
ولنعد مرة أخرى إلى البداية قليلاً قبل أن ننطلق عبر مسارنا إلى الغاية، فنسأل أنفسنا: إذا كان الجنين يحلم وهو في داخل الرحم ويقضي 84% من وقت نومه في الأحلام، والطفل الرضيع أيضاً يحلم، فما وظيفة الأحلام إذاً في هذا السن المبكر؟
إذا قلنا أنها بلا وظيفة في هذا السن فهذا عبث لا يقبله التفكير العلمي ولا يقبله التفكير الديني.
وإذا قلنا أن الأحلام في هذا السن أحلام تنبؤية فالإجابة غير مقنعة.. وإذا قلنا أن وظيفة الأحلام عند الجنين والطفل هي تنفيس عن الرغبات المرفوضة اجتماعياً وتعبير عن المخاوف والآمال والطموحات.. فإن تلك إجابة عبثية ساخرة.
إذن فكيف نرى وظيفة الأحلام والرؤى بعد طرح هذه التساؤلات الكثيرة واستعراض هذه الحقائق العلمية المتواضعة؟.. هنا سيحتاج منا الأمر الاستفادة من المعطيات العلمية التي هي نتاج الجهد البشري, وأيضا الاستفادة من النصوص والتفسيرات الدينية لكي نصل إلى تصور متكامل لهذه الظاهرة التي يصعب إدراكها بشكل كلي من خلال المنهج العلمي التجريبي وحده, مع الوضع في الاعتبار الاختلاف بين المنهجين:
العلمي التجريبي (القائم علي الدليل والبرهان والقابل للنقد والتمحيص والشك وإعادة النظر) والمنهج الديني (القائم على التصديق واليقين القلبي والعقلي بناءً على قاعدة إيمانية صدقت بالرسالة وبالرسول وبالمرسل فلم يعد لديها مجالاً للشك طالما استوثقت من صحة السند وسلامة المتن)، والناس ليسوا سواء في درجات قبولهم للمنهجين.
إن الإنسان مخلوق يعيش على الأرض ويتعامل مع الأشياء المادية المحيطة به، ولكنه ليس مقطوعاً عن العوالم الغيبية الأخرى العلوية منها (الإلهية) والسفلية (الشيطانية). والإنسان في يقظته يكون مشغولاً بالمؤثرات المادية التي تقع على حواسه (البصر والسمع والشم واللمس والتذوق) لذلك فهو في يقظته يعيش الواقع المادي القائم.. وربما يستطيع أن يحلّق بروحه مع الله في لحظات تأمله وخشوعه إذا بلغ درجة عالية من الصفاء الروحي والقوة الإيمانية.. أو أن يتلقى اتصالاً خاصاً من الله عن طريق الوحي (في حالة الأنبياء).. وهذه حالات خاصة تستقبل فيها الرسائل العلوية في اليقظة.
أما الرسائل السفلية فيمكن أيضاً استقبالها في اليقظة في حالات خاصة ولقلة من الناس عن طريق الاتصال بشياطين الجن.
أما عموم الناس فهم في يقظتهم يعيشون الواقع المادي المحيط بهم فقط والذي يقع تحت إدراك الحواس، أما العوالم الغيبية فلا يرونها ولا يسمعونها وإنما يؤمنون بما جاء عنها عن طريق الأنبياء والرسل (أو يؤمن بها بعضهم).
فإذا نام الإنسان ضعف تأثير المؤثرات الخارجية ولكن مع هذا تظل هناك الكثير من المستقبلات تعمل كأجهزة رادار تلتقط الكثير من المؤثرات الخارجية والداخلية، ولتبسيط الأمور سوف تقسم تلك المستقبلات إلى ثلاثة أنواع:
1- مستقبلات فسيولوجية.
2- مستقبلات نفسية.
3- مستقبلات غيبية: وهذه تنقسم إلى نوعين:
أ- مستقبلات غيبية علوية (إلهية وملائكية).
ب- مستقبلات غيبية سفلية (شيطانية).
أما عن المستقبلات الفسيولوجية فقد ثبت وجودها وعرف أن أي نشاط فسيولوجي يتم عن طريق مستقبلات (Receptors) خاصة بهذا النشاط.
وبخصوص المستقبلات النفسية فليست معروفة تشريحياً على وجه اليقين لأن العمليات النفسية ذاتها كالذاكرة والتفكير والإدراك ليس معروفاً حتى الآن أين تتم وكيف تتم ولكن كل الشواهد تؤكد وجود وحدة عمليات مركزية تستقبل وترسل المعلومات من خلال المخ والجهاز العصبي ولا بد أن عمليات الإرسال والاستقبال هذه تتم عن طريق مستقبلات (Receptors) خاصة. وقد يقول قائل بأن المستقبلات النفسية هي هي المستقبلات الفسيولوجية ولكنها أكثر تعقيداً وتركيباً.
ويبقى النوع الثالث وهو المستقبلات الغيبية والتي تستقبل الرسائل القادمة إلينا من عالم الغيب غير المنظور. والكلام في هذا النوع سوف يستدعي استخدام مصطلحات دينية على الرغم من أن علم النفس الغربي ومن امتلأت رؤوسهم به يتنكرون لمثل هذه المصطلحات في المجالات العلمية (الله، الغيب، الملائكة، الشياطين)، وإذا ذكرت هذه المصطلحات أمامهم أمسكوا وظنوا أن المتحدث به شيء من الجنون أو الهوس الديني، رغم أنهم لا يملكون دليلاً واحداً يلغي وجود هذا العالم الغيبي، بل إن كل الأدلة تشير إلى وجوده.
إذاً فليوطن القارئ المستنير وعالم النفس المستنير نفسه على استخدام تلك المصطلحات بلا خجل في الأوساط العلمية دون خلط لها بالمعارف والعلوم التجريبية، وبوعي يفرق بين آليات المنهجين التجريبي والديني، كما ذكرنا من قبل.
وبما أن كل نشاطات الإنسان المعروفة والملموسة تتم عن طريق مستقبلات إذن فليس بمستبعد بل إنه من المنطقي أن تكون هناك مستقبلات تستقبل رسائل غير منظورة في ظروف خاصة. وبما أننا في مجال الغيب الخارج عن إدراك حواسنا فلنسترشد في هذه الناحية بالنصوص الدينية الصحيحة.
روى أبو الأحوص عن عطاء بن السائب عن مرة عن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة. فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله وليحمد الله، ومن وجد الآخر فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم"
ولمة الملك أو لمة الشيطان يمكن أن تكون في اليقظة أو تكون في المنام، ولكنها تكون في المنام أقوى حيث تقل المؤثرات المادية وتصبح النفس أكثر قدرة على استقبال المؤثرات الغيبية بأنواعها.
وأخرج البخاري رحمه الله: عن أبي قتادة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "الرؤيا الصادقة من الله والحلم من الشيطان".
وأخرج عن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول:
" إذا رأى أحدكم رؤية يحبها فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها وليحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان، فليستعذ من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره".
وأخرج من طريق أخرى عن أبي قتادة قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: "الرؤيا من الله والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم الحلم يكرهه فليبصق على يساره وليستعذ بالله منه فلن يضره".
وأخرج من طريق أخرى عن أبي قتادة قال: قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "الرؤيا من الله والحلم من الشيطان. فمن رأى شيئاً يكرهه فلينفث عن شماله ثلاثاً وليتعوذ من الشيطان فإنها لا تضره".
وأخرج من طريق أخرى عن أبي سلمة قال: لقد كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت أبا قتادة يقول: وأنا كنت أرى الرؤيا تمرضني حتى سمعت النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: "الرؤيا الحسنة من الله، فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب، وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان، وليتفل ثلاثاً ولا يحدث بها أحداً فإنها لا تضره".
قال المهلب: "سمى الشارع الرؤيا الخالصة من الأضغاث صالحة وصادقة وأضافها إلى الله. وسمى الأضغاث حلماً وأضافها إلى الشيطان، إذ كانت مخلوقة على شاكلته، فألم الناس بكيده وأرشدهم إلى دفعه، لئلا يبلغ أربه في تحزينهم والتهويل عليهم. وقال أبو عبد الملك: أضيفت إلى الشيطان لكونها على هواه ومراده.
وقال ابن الباقلاني: يخلق الله الرؤيا الصالحة بحضرة الملك، ويخلق الرؤيا التي تقابلها بحضرة الشيطان، فمن ثم أضيفت إليه. وقيل أضيفت إليه لأنه الذي يخيل بها ولا حقيقة لها في نفس الأمر".
وفي الأحاديث السابقة يضع الرسول (صلى الله عليه وسلم) أمر الرؤى والأحلام في نصابه الصحيح بعيداً عن الحيرة والغموض، فهو يشجع على التحدث بالخير الطيب منها فهو إما أن يكون بشرى إلهية أو ملائكية أو يكون حديث نفس طيبة، وأن كل ما هو خير يستحق أن يحدث به ويستبشر به أما إذا كان الحلم بما هو مكروه فالمطلوب التحول والاستعاذة بالله وعدم الحديث به لأنه إما أن يكون رسالة سفلية شيطانية أو يكون حديث رغبات خبيثة وهذه الأشياء السلبية تواجه بالاستعاذة منها وإهمالها وإبعادها عن وعي الإنسان.
مسؤولية الإنسان عن محتوى أحلامه:
حين ينام الإنسان يفقد إرادته وقدرته على الاختيار والتوجه ويصبح في هذه الحالة مستقبلاً سلبياً لا حيلة له ولا اختيار.. ولكن الاختيار يتوقف على توجهاته في حالة اليقظة، فمن كانت توجهاته علوية روحانية إيمانية فإنه يغلب عليه استقبال الرسائل العلوية أثناء نومه (ولا يستبعد مع ذلك بعض وساوس الشيطان) ومن كانت توجهاته شيطانية في اليقظة فإنه يغلب عليه استقبال الرسائل السفلية أثناء نومه. ومن كان تائهاً حيراناً في يقظته فإن مستقبلاته أثناء نومه تكون أيضاً هكذا حيث تستقبل رسائل ومؤثرات مختلفة ومتناقضة ومبهمة.
إذن فالمستقبلات الغيبية أشبه بموجات الراديو والرادار، والشخص يضبط مؤشرات هذه الموجات (شعورياً أو لا شعورياً) قبل نومه على الموجة التي تناسبه ثم بعد أن يدخل في النوم يكون قد فقد إرادته واختياره ويكون مستقبلاً لمؤثرات فسيولوجية ونفسية وغيبية مناسبة لظروفه وشخصيته، ومن هنا تتضح مسؤولية الإنسان نحو محتوى أحلامه.
ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه كيف يوجهون أنفسهم نحو الله عند النوم فقد قال في الحديث الذي رواه البراء بن عازب رضي الله عنه: "إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل: اللهم أسلمت نفسي إليك وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أرسلت. فإن مت مت على الفطرة/ واجعلهن آخر ما تقول" (متفق عليه).
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه نفث في يديه وقرأ بالمعوذات ومسح بهما جسده (متفق عليه).
من هذه الأحاديث السابقة نلحظ اهتماماً شديداً بالتوجه نحو الله قبل الدخول في النوم وفقد الإرادة لتكون النفس مسلمة لله والجسد أمانة عنده، فلا يستقبل الإنسان أثناء نومه ما يؤذيه لأنه ضبط مستقبلاته في الاتجاه الصحيح.
الرؤية التكاملية للأحلام لدى علماء المسلمين:
ولقد كان مفهوم الرؤى والأحلام عند علماء المسلمين الأوائل أوسع وأشمل من ذلك المفهوم المبتور عند علماء النفس المحدثين (وإن كانت تغلب على رؤيتهم الجوانب الغيبية أكثر من الجوانب النفسية)، ونلمح ذلك في حديثهم عن الآليات المختلفة للأحلام والتي تشكل في مجملها كل الآليات التي عرفت عن الأحلام حتى اليوم (بعد كل هذه القرون الطويلة)، وهذه بعض الأمثلة:
نقل القرطبي في "المفهم" عن بعض أهل العلم: "إن لله ملكا يعرض المرئيات على المحل المدرك من النائم، فيمثل له صورة محسوسة، فتارة تكون أمثلة موافقة لما يقع في الوجود، وتارة تكون أمثلة لمعان معقولة، وتكون في الحالين مبشرة ومنذرة. وقيل أنّ الرؤيا إدراك أمثلة منضبطة في التخيل جعلها الله أعلاماً على ما كان أو ما يكون".
وقال الحكيم: "وكل الله بالرؤيا ملكا اطلع على أحوال بني آدم من اللوح المحفوظ، فينسخ منها ويضرب لكل على قصته مثلاً، فإذا نام مثل تلك الأشياء على طريق الحكمة لتكون له بشرى أو نذارة أو معاتبة. والآدمي قد تسلط عليه الشيطان لشدة العداوة بينهما، فهو يكيده بكل وجه، ويريد إفساد أموره بكل طريق، فيلبس عليه رؤياه، إما بتغليطه فيها، وإما بغفلته عنها".
ثم يأتي ابن القيم ليعطي مفهوماً كاملاً ومبسطاً لآليات الأحلام فيقول في معرض حديثه ورده على من ينكرون النواحي الغيبية في الرؤى والأحلام ويقصرونها فقط على حديث النفس: "وأبطل من قال أن هذه كلها علوم وعقائد في النفس تظهر لصاحبها عند انقطاع نفسه عن الشواغل البدنية بالنوم وهذا عن الباطل والمحال. وإن من الرؤيا ما يكون حديث النفس وصورة الاعتقاد، بل كثير من مرائي الناس إنما هي من مجرد صور اعتقادهم المطابق وغير المطابق... فإن الرؤيا على ثلاثة أنواع:
رؤيا من الله ورؤيا من الشيطان ورؤيا من حديث النفس. والرؤيا الصحيحة أقسام: منها إلهام يلقيه الله سبحانه في قلب العبد، وهو كلام يكلم به الرب عبده في المنام. ومنها مثل يضربه له ملك الرؤيا الموكل بها. ومنها التقاء روح النائم بأرواح الموتى من أهله وأقاربه وأصحابه وغيرهم. ومنها عروج روحه إلى الله سبحانه وخطابها له. ومنها دخول روحه إلى الجنة ومشاهدتها وغير ذلك، فالتقاء أرواح الأحياء والموتى نوع من أنواع الرؤيا الصحيحة التي هي عند الناس من جنس المحسوسات".
ثم يبين ابن القيم اختلاف الآراء في هذا الموضوع، وهو مع هذا يعرض لها كلها بموضوعية وشمولية ورحابة صدر واتساع أفق ثم يرجح بعضها على الآخر استناداً لما ورد في الأحاديث النبوية الشريفة فيقول: "وهذا موضع اضطرب فيه الناس: فمن قائل أن العلوم كلها كامنة في النفس وإنما اشتغالها بعالم الحس يحجب عنا مطالعتها، فإذا تجردت بالنوم رأت منها بحسب استعدادها.
ولما كان تجردها بالموت أكمل كانت علومها ومعارفها هناك أكمل.. وهذا فيه حق وباطل، فلا يردّ كله ولا يقبل كله، فإن تجرد النفس يطلعها على علوم ومعارف لا تحصل بدون التجرد، لكن لو تجردت كل التجرد لم تطلع على علم الله الذي بعث به رسوله وعلى تفاصيل ما أخبر به عن الرسل الماضية والأمم الخالية وتفاصيل المعاد وأشراط الساعة، وتفاصيل الأمر والنهي والأسماء والصفات والأفعال وغير ذلك مما لا يعلم إلا بالوحي، ولكن تجرد النفس عون لها على معرفة ذلك وتلقيه من معدنه أسهل وأقرب مما يحصل للنفس المنغمسة في الشواغل البدنية.
ومن قائل إن هذه المرائي علوم علقها الله في النفس ابتداء بلا سبب، وهذا قول منكري الأسباب والحكم القوي وهو قول مخالف للشرع والعقل والفطرة. ومن قائل أن الرؤيا أمثلة مضروبة يضربها الله للعبد بحسب استعداد ألفه على يد ملك الرؤيا فمرة يكون مثلاً مضروباً ومرة يكون نفس ما رآه الرائي فيطابق الواقع مطابقة العلم لمعلومه. وهذا أقرب من القولين قبله ولكن الرؤيا ليست مقصورة عليه بل لها أسباب أخرى كما تقدم من ملاقاة الأرواح وإخبار بعضها بعضاً من إلقاء الملك الذي في القلب والروع من رؤية الروح للأشياء مكافحة بلا وساطة".
وربما يظن البعض أو يتخوف أن الاعتقاد في هذه النواحي الغيبية سوف يعطل الأبحاث العلمية اكتفاءً بالمعلومات النقلية الدينية، واعتماداً على اجتهادات الفقهاء، وهذا ظن خاطئ، فكوننا نؤمن بأن هناك اتصالاً بين الإنسان وبين عالم الغيب (بطريقة لا نعلم كنهها)، وأن هذا الاتصال له مظاهر مرصودة دينياً وتاريخياً (لا يمكن إنكارها أو التعامي عنها)، فإن هذا لا يدعو أبدا إلى توقف الأبحاث العلمية لدراسة النوم والأحلام، حيث تبقى هناك الكثير من الظواهر البيولوجية والنفسية الجديرة بالدراسة والبحث والتأمل، وهذا مجال واسع متروك للجهد البشري والإبداع العقلي، بل إن الرؤية الكلية الشاملة والمتعددة المستويات محرضة علي ارتياد مساحات المجهول الهائلة المترتبة على هذه الرؤية.
يتبع ....................: وظائف الأحلام
اقرأ أيضاً:
الانتصار البديل في الساحة الخضراء / الفهلوة اللغوية العصبية / إيجار قديم / قانون الطوارئ الممتد والمتمدد / شكراً سيدتي الأولى على الزيارة