تعليقا ومواكبة لتصريحات الشيخ القرضاوي وتداعياتها، وسعيا نحو مواقف أكثر موضوعية وتوازنا تقوم على حقائق أكثر مما تتكئ على مشاعر، وتروم تحقيق المصالح أكثر مما تتجه لتطييب الخواطر، نفتح هذا الملف تنظيفا لجروح قد يتسمم بسببها البدن الإسلامي والعربي في حالة تجاهلها أو تغطيتها بمرهم عازل يزيد القيح من تحته.
ومما حفزني على كتابة هذه الدراسة ما قرأته للشاعر عبد الرحمن يوسف في جريدة الدستور بتاريخ 2 أكتوبر 2008 م تحت عنوان: "حوار مع السيد حسن نصر الله" (القصيدة مقطع من ملحمة شعرية بعنوان: اكتب تاريخ المستقبل)، وسأقتطف منه بعض الأبيات للدلالة على حالة الانبهار الهائلة (والتي تكاد تصل إلى التقديس) بشخص السيد حسن نصر الله، والتي يشاركه فيها –كما سمعت ورأيت وقرأت وعايشت– عدد غير قليل من مثقفي العالم الإسلامي (سنة وشيعة):
ودخلت الحضرة وحدي...
لا أدري ما سر الضوء الطالع في عيني
كشمس تنبع من أرض لسماء!
لم أبصر في عمري شمسا بعمامة...
ما بالي أشعر أني أدخل غار حراء...
والشمس تخفّت خلف غمامة...
...........
ونظرت لذاك الفارس وهو يشد لثامه...
فتكثف بعض ضباب الرهبة
فوق زجاج الرؤية
حتى غيّر من شكل الأشياء...
لكن حضور السيد يضفي الصفو على الأجواء ...
.............
ولكن... دخلت في الحضرة بعض ثعابين الصحراء...
قالوا من دون حياء:
فلنقم حد الحرابة
ذاك شتّام الصحابة
ففزعت كما طفل
يتعرف معنى الموت – بدون مقدمة – بوفاة جميع ذويه... !
ونظرت إلى السيد...
فإذا بذراع السيد قد ألقت بعصا...!
(فإذا هي تلقف ما يأفكون)!
وبدأت بشعر:
يا صانع النصر المبين
يا من نصرت المسلمين
...........
أنا ما جالست سوى طيف لشهيد...!
لأحبة بيت رسول الأمة لان...
وعلى الأعداء حديد...
فرجعت أهرول...
أهتف...
أصرخ في كل الآذان:
بشّرت "نصر الله" بالنصر اقترب
وأذقت أعداء الجنوب من العجب
بوركت يا نسل الحسين قصائدي
ترنو إليك وبحر أبياتي اضطرب
عجزت صواريخ اليهود ولؤمها
عن أن تمسك رغم أطنان الغضب
وبنو العمومة حقدهم متربص
فاحذر بربك من صواريخ العرب!
ولقد سمعت بأذني ورأيت بعيني، أحد أشهر مقدمي البرامج الحوارية في القنوات الفضائية العربية يقول: أتمتى أن أقضي يوما مع السيد حسن نصر الله أو مع السيد أحمدي نجاد لكي أرى كيف يعيش الرجال، كيف يأكلون وكيف يفكرون وكيف ينامون وكيف يقررون.......
وقبلهم انبهر الدكتور أحمد راسم النفيس بشخصية الإمام الخميني وبانتصار الثورة الإيرانية فكان ذلك مدخله إلى التشيع فقرأ وكتب حتى أصبح من منظري الشيعة والدعاة إليها في مصر والعالم، وقد عرفته في بداية حياتي الجامعية رئيسا لاتحاد طلاب كلية طب المنصورة، وأميرا لجماعة شباب الإسلام بالكلية.
والمنبهرون من شباب ومثقفي أهل السنة بانتصارات الشيعة في السنوات الأخيرة ربما يكون لهم بعض العذر في ذلك، فهي انتصارات تستحق الاحترام، ولكن عليهم أن يتذكروا تاريخا طويلا من الانتصارات الضخمة والمعجزة لدى أهل السنة، وإمكانية تحقيق المزيد منها في الحاضر والمستقبل حين تخطي عقبات كثيرة توضع في طريق المارد الإسلامي خوفا من صحوته.
أرقام ودلالات:
يبلغ عدد المسلمين مليار وأربعمائة ألف، غالبيتهم الساحقة من السنة، أما عدد الشيعة فهناك اختلاف كبير حوله، حيث يذكر البعض أنهم حوالي150- 200 مليون، ولكن هناك إحصائيات تذكر أنهم أقل من ذلك في العالم كله، واليكم بعضا من هذه الإحصاءات:
يذكر ابن الخطاب الحجازي (2006 ، شبكة أنا المسلم للحوار الإسلامي) أن الشيعة يشكلون 6% من سكان السعودية، و43% من سكان العراق، و 85% من سكان إيران، ونسبة عالية من سكان البحرين، بينما لا توجد شيعة في مصر (على الأقل حسب الإحصاءات الرسمية).
وإذا جردت جميع النسب في الدول تجد أن الشيعة يشكلون حوالي 19% من تعداد العالم الإسلامي، وبالتالي فإنهم في حدود 150 مليون إلى 250 مليون والله أعلم منهم كثير علمانيين زهدوا في مذهبهم واتجهوا اتجاها غربيا، ولا يتفق سيف العيسى (2006) (المصدر السابق) مع هذه الأرقام المذكورة فيقول: "هناك دراسة منشورة عام 1990 أشارت إلى وجود حوالي 105 مليون شيعي في العالم، بنسبة تقترب من 8.4% من مجمل المسلمين، منهم حوالي 65.5 مليون شيعي إمامي إثنا عشري، أي بنسبة حوالي 62.45% من مجمل الشيعة و5.22% من مجمل المسلمين. ويبلغ عدد الشيعة في العالم العربي طبقاً لنفس الدراسة حوالي 10 ملايين نسمة" (ناجي نعمان، موسوعة المجموعات العرقية والمذهبية في العالم العربي، بيروت، دار نعمان للثقافة، 1990، ص 217).
ويواصل سيف العيسى قراءته النقدية الإحصائية لهذه الدراسة الأخيرة (رغم أنها أقل من سابقتها) بقوله: "والله أعلم ربما صاحب الدراسة غير عادل، وأذكر أني سمعت رفسنجاني يقول بأن الشيعة 200 مليون في العالم وهذا الكلام قريب جدا يعني خلال 15 سنة زادوا 95 مليون!! يعني كل سنة يولد 6 مليون... كيف؟؟
إذن تعالوا نراجع الأمر:
إيران 69 مليون لنفرض أنهم كلهم شيعة (في الحقيقة 10%سنة أي 7 مليون تقريبا)، والعراق 20 مليون لنفرض أنهم كلهم شيعة (في الحقيقة 55% سنة أي 11 مليون)، وأذربيجان 7 مليون كلهم شيعة، والبحرين مليون لنفرض أنهم كلهم شيعة (السنة 40% أي 400 ألف)، والسعودية لنقل أنهم 5 مليون (وهذه مبالغة ضخمة فهم لا يتعدون 5% من السكان أي أقل من مليون)، وسوريا كلها 19 مليون لنفرض أنهم كلهم شيعة (في الواقع السنة يتعدون 85%)، ولبنان كله 4 مليون لنفرض أنهم كلهم شيعة (في الواقع 25 % سنة، 35% شيعة، 35% نصارى، 5%ديانات أخرى أي أن الشيعة مليون ونصف)، وباكستان لنقل أنهم 15 مليون وهذا مبالغ فيه (باكستان 150 مليون نسمة، أغلبية سنية ساحقة)، ولنقل شيعة متفرقين في العالم 5 مليون (وهذا لا يعقل أصلا)، إذن لكان المجموع 145 مليون نسمة".
من استعراض هذه الأرقام ندرك التوزيع الديموجرافي للشيعة على مستوى العالم، وعلى مستوى العالم العربي (ولو بشكل تقريبي)، وهذا سيفيد الباحث حتما في تقدير الثقل النسبي لكل من السنة والشيعة وتقدير احتمالات التنافس أو الصراع أو الوفاق أو التعايش بين الطرفين، وتقدير الثقل الديني والثقافي وربما السياسي والاجتماعي للطرفين بعيدا عن الهالات البراقة والدعاوى الجذابة. ونعد القارئ بتوخي أكبر قدر ممكن من الموضوعية في هذه الدراسة، ونعتذر مقدما عن أي تحيز خارج عن الإرادة، فهذه طبيعة البشر أن يتحيزوا لما يعتقدون أنه الصواب.
ومراجعة النسب العددية، ومراجعة التراث العلمي للمسلمين توضح أننا لسنا أمام فريقين متكافئين عددا وتراثا وتأثيرا، بل نحن أمام تيار أساس هو تيار أهل السنة يتقاطع معه تيار فرعي صغير (عددا وتراثا) هو تيار أهل الشيعة، وهذه الصورة ضرورية حتى نفهم أين الأصل وأين الفرع وحركية العلاقة بينهما.
سذاجة دعوى التقارب مقابل واقعية وضرورة دعوى التعايش:
وعلى مدى قرون عديدة كانت هناك صراعات مذهبية ظاهرة أحيانا وخفية في أحيان أخرى بين السنة والشيعة، وظهرت في أوقات كثيرة دعوات للتقارب نادى بها العقلاء والمعتدلون في الطرفين، ولكنها كانت تنتهي إلى طريق مسدود، وبعد كل محاولة فاشلة يأتي فريق آخر ويحاول من جديد على أمل أن يدرك من القضية ما فات الآخرين ولكن يتكرر نفس الفشل.
وكان هناك تصور خاطئ بأن السنة والشيعة هما جناحي الطائر الإسلامي ولابد من ترابطهما وتصالحهما وتساويهما في الحركة كي يطير، وهذا غير صحيح بناءا على اعتبارات العدد والثقل والتأثير كما ذكرنا آنفا، وعدم صحة هذا التصور لا تعني الاستغناء عن الشيعة في المعادلة الإسلامية، وهذا ما دعا المخلصون من علماء المسلمين إلى بذل الجهد للتقريب بين الشيعة والسنة.
فهل يعني التقارب أن يتخلى الشيعة عن بعض أو كل أصول مذهبهم ليرضوا السنة، أو أن يتخلى السنة عن بعض أصول مذهبهم ليرضوا الشيعة، أم يتخلى كل من الطرفين عن أجزاء متساوية من مذهبهما ليتقابلا في منتصف الطريق؟.. هذه كلها افتراضات ساذجة وغير موضوعية على المستوى النظري، إذ في مجال المعتقدات الدينية أو المذهبية تصعب هذه الاحتمالات خاصة إذا كانت تقترب من صلب المذهب أو محاوره الأساسية، أما على مستوى الواقع فقد فشلت كل محاولات التقريب رغم تكراراها ورغم الحماس الهائل الذي صاحب كل تلك المحاولات؛
وكان يتضح في نهاية كل محاولة أن الشيعة بحاجة إلى اعتراف من رموز علماء السنة بمذهبهم (على اعتبار أن السنة هم الأغلبية الساحقة، وهم التيار الإسلامي الأساس)، فإذا ظفروا بشيء من ذلك تراجعوا عن موضوع التقارب، وذلك ما حدث حين نالوا اعترافا من الشيخ شلتوت رحمه الله بالشيعة كمذهب يمكن للمسلم أن يتعبد به وهذا الاعتراف قد لاقى انتقادات ومعارضات من كثير من العلماء السنة بعد ذلك، واعتبروا أنه كان مبادرة فردية من فضيلته، وأن الأمر كان يحتاج لمزيد من الدراسة والمراجعة، وأن لا يصدر عن رغبة عاطفية في التقارب تقفز فوق اختلافات في أسس العقيدة وليس في فروع المعاملات.
إذن فليس من الحكمة وليس من المنطق أو المصلحة تضييع وقت في مسألة التقارب بين السنة والشيعة، لأن التقارب يعني التنازل من أحد الطرفين أو من كليهما، والتنازل عند الشيعة يعني اهتزاز الكثير من أركان مذهبهم إن أرادوا أن يكونوا مقبولين من غالبية علماء السنة، إذ عليهم حينئذ أن يكفوا عن سب الصحابة أو يكف معتدلوهم ومصلحوهم عن إنكار الصحابة وتجاهلهم أو تجنب أحاديثهم وتاريخهم (في أفضل الأحوال)؛
وأن يتنازلوا عن الركن السادس لديهم وهو عصمة الإمام، وأن يكفوا عن فكرة الإمام الغائب، وأن لا ينتقدوا القرآن الموجود أو يشككوا في كماله وأن يدعوا فكرة مصحف فاطمة، وأن لا يذكروا اسم سيدنا علي في الأذان، وكلها أمور أساسية لديهم لو تنازلوا عنها (فرضا) فربما تضعضع المذهب في نظر أتباعه لحساب الطرف الآخر.
أما أهل السنة فليس لديهم أي دافع للتنازل عن أي جزء من مذهبهم بدعوى التقارب مع الشيعة إذ ليس لهم مصلحة في ذلك وليسوا مضطرين له فهم الغالبية الساحقة من المسلمين ولديهم المصداقية الشرعية الراسخة على مدى القرون، ويعتبرون أنهم هم الأصل، وأن على الفروع الشيعية وغيرها أن تعود إليها إذا رغبت في توحيد الانتماء العقيدي، وأن الأصل ليس معنيا بالذهاب إلى الفرع أو استرضائه أو البحث عن المصداقية لديه.
ويتفاوت موقف أهل السنة من الشيعة بين منكر للمذهب الشيعي من أساسه (وهم السلفيون الذين يكفرون الشيعة ويعتبرونهم خارجين على إجماع أهل السنة والجماعة، أو على الأقل يكفرون علماءهم ومعتقداتهم ويعذرون عامتهم بالجهل، ويعددون مؤامراتهم ضد الإسلام والمسلمين في مراحل تاريخية عديدة، بل ويعتبرونهم أخطر على المسلمين من اليهود)، وبين من يعتبرهم مبتدعين في الدين ما ليس منه، وبين من يعتبرهم فرقة من الفرق الإسلامية، أو مذهبا إسلاميا خامسا.
وهناك فريق آخر من أهل السنة يرى أن الشيعة ليسوا سواء (كما أن السنة ليسوا سواء) فمنهم الغلاة الذين يسبون الصحابة ويقدسون الإمام علي ويرونه أحق بالنبوة بل وأحيانا يرفعونه لدرجة الآلهة، ومنهم المعتدلون الذين لا يفعلون شيئا من ذلك ولكنهم يعتقدون في عصمة الإمام، وفي مبدأ التقية، ويتجاهلون غالبية الصحابة ويسقطون أحاديثهم وتاريخهم من التراث العلمي الديني، ومنهم المصلحون الذين يدعون في شجاعة إلى ممارسة المراجعات حول الفكر الشيعي وربما المعتقدات الشيعية.
وحين كنت أعد دراسة عن سيكولوجية الشيعة أمدني الأخ العزيز والعالم المحقق الدكتور محمد إسماعيل المقدم بمجموعة أشرطة ربما تزيد على عشرين شريطا بها تاريخ شامل للشيعة وعقائدهم وفرقهم ومشكلاتهم ومذاهبهم وتاريخ كامل لمحاولات التقريب، وهي مادة علمية غاية في الثراء أرجو أن يكون قد نشرها في كتاب لتعم الفائدة منها، وقد خلصت بعد سماعها إلى تهافت محاولات التقريب وفشلها نظرا لتباعد الرؤى بشكل جذري ونظرا لتمسك كل طرف بثوابته التي تضرب بجذورها في أعماق تاريخه العقدي والثقافي والاجتماعي.
وعلماء الأديان يعرفون أن سلامة العقيدة لدى معتنقيها تسبق أي اعتبارات سياسية، وهذا يعني أن كل طرف لن يفرط في أساسيات معتقداته مقابل تقارب سياسي، فالعقيدة لدى الناس مقدمة على السياسة. أما الحديث عن التعايش فهو الأقرب للموضوعية والواقعية إذ هو يتحقق دون الحاجة لأن يدع الآخر أو يغير مذهبه الذي ارتضاه قرونا، فالتعايش يقوم على تحقيق المصالح المشتركة ومراعاة المساحات المشتركة والتهديدات المحيطة، وليس من شك أن بين السنة والشيعة مساحات مشتركة وأن كليهما يتعرضان لتهديدات مشتركة من أمريكا وإسرائيل.
حقيقة التمدد الشيعي في العالم العربي:
لقد هز الخميني العالم حين قاد أكبر وأنجح ثورة شعبية في القرن العشرين أدت إلى تغيير البنية السياسية والاجتماعية والدينية في إيران بشكل جذري، وأدت إلى إرساء دعائم نظام يقوم على مبادئ الديموقراطية (انتخابات وتداول سلطة) وفي نفس الوقت يتشبع بالفكرة الإسلامية كما تراها الشيعة الإثناعشرية.
وقد جعل هذا النجاح الإمام الخميني شخصية شديدة التأثير والجذب لدى قطاعات غير قليلة من شباب العالم الإسلامي، وقد كانت للرجل كاريزما هائلة ونجاحات سياسية وعسكرية لا تنكر، كل هذا جعل أعدادا من الشباب السنة يعجبون بالمذهب الشيعي، ليس هذا فقط بل قد أعلن بعضهم تشيعه، وأصبحوا يجاهرون بذلك في وسائل الإعلام، ويدعون إلى المذهب الشيعي في بلاد السنة بشكل سري أحيانا وبشكل علني حين تسمح الظروف.
وتوالت الكاريزمات بعد الإمام الخميني حيث جاء محمد خاتمي رئيسا لإيران وهو يشكل رمزا للسياسي المستنير والمتوافق في ذات الوقت مع المبادئ الدينية الشيعية، فوسع بذلك الإعجاب بالشيعة ونجاحاتهم في الحفاظ على منظومتهم السياسية والاجتماعية، ووقوفهم أمام العالم الغربي وخاصة أمريكا دفاعا عن هويتهم وكرامتهم ومصالحهم، وقد حققوا من ذلك الكثير، على الرغم من حدوث أزمات كانوا يخرجون منها بمكاسب محسوبة في كل مرة.
وجاء أحمدي نجاد ليشكل رمزا لبطل قومي شيعي يكافح من أجل امتلاك بلاده للسلاح النووي أمام غطرسة القوة الأمريكية الباطشة والباغية والبليدة، واستطاع هو ومؤسسة الحكم في إيران أن يديروا المواجهة مع أمريكا والغرب بنجاح حتى هذه اللحظة.
ولم يتوقف ظهور الشخصيات ذات الكاريزما الهائلة على إيران، وإنما ظهرت كاريزما هائلة في لبنان ممثلة في حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله فهو يمتلك كل عناصر الشخصية الجذابة من طلاقة وجه وفصاحة لسان وقدرة على مخاطبة العقول والقلوب إضافة إلى مصداقية عالية في تصريحاته ومواقفه.
وقد ترسخت كاريزما حسن نصر الله باستشهاد ابنه في معركة تحرير جنوب لبنان ثم بنجاحه هو وحزبه في طرد الإسرائيليين من الجنوب اللبناني، ثم بعد ذلك صموده وانتصاره في معركته مع إسرائيل فيما يعرف بالأيام الستة.
وقد أدت هذه الأحداث إلى حالة من الانبهار بشخصية حسن نصر الله، ولم تتوقف هذه الحالة عند عامة الناس من السنة والشيعة بل امتدت إلى قطاعات كبيرة من المثقفين وجدوا في حسن نصر الله صورة القائد العربي المسلم المنتصر، وأصبح شخصية لها احترامها وتقديرها بشكل واسع لا يشذ عنه إلا قطاعات السلفيين.
ولم يتوقف الأمر عند بعض شباب السنة على الإعجاب بحسن نصر الله كزعيم سياسي وقائد عسكري منتصر بل تخطى الأمر إلى الإعجاب بمذهب الشيعة الذي يمثله فتواترت الأنباء عن دخول أعداد غير قليلة وغير معروفة على وجه التحديد من شباب السنة في المذهب الشيعي، وقد صاحب هذا نشاط شيعي لمد الجسور إلى داخل المجتمعات السنية بأشكال ظاهرة أحيانا ومستترة في أحيان أخرى.
ومما أدى إلى تنامي ظاهرة التحول إلى المذهب الشيعي حالة الاستبداد السياسي في العالم العربي، وحالة الفساد التي أصابت أجهزة الحكم، وحالة التردي في الأوضاع العامة، وحالة الاستسلام والخضوع للإرادة الأمريكية والتي وصلت في كثير من الدول العربية إلى حالة من التبعية الذليلة للمشروع الأمريكي الصهيوني.
وفي هذه الظروف الصعبة والأحوال المتردية كان الشباب العربي (السني في أغلبه) يقارن بين زعمائه المنطفئين المنكفئين الموالين لأمريكا وإسرائيل والمنبطحين أمامهما وبين الشخصيات الكاريزمية اللامعة المنتصرة على الجانب الشيعي فتهتز في نفسه كثير من ثوابته، وربما لا يستطيع تحت تأثير الانبهار أن يفرق بين الانتصارات السياسية والعسكرية من ناحية وبين الأمور العقيدية من ناحية أخرى فيعتقد أن الشيعة انتصروا في معاركهم بسبب مذهبهم الديني وأن السنة خسروا معاركهم وتردت أحوالهم بسبب مذهبهم الديني أيضا. وهذه بحق معادلة غير موضوعية إذ ليس شرطا أن يكون النجاح السياسي أو العسكري دليلا على صحة عقيدة دينية بعينها.
وواصل الشيعة تمددهم في ظروف سيئة يمر بها العالم العربي خاصة والعالم الإسلامي بوجه عام، فهاهم يستفيدون من انهيار المنظومة السياسية والعسكرية والمجتمعية في العراق لكي يحكموا من قبضتهم على مقاليد الأمور هناك على الرغم من كونهم يشكلون 43% من سكان العراق وقد ساعدهم على ذلك توحدهم من ناحية ومناصرة إيران لهم بقوة من ناحية أخرى.
وقد ارتكبت فظائع مؤلمة في الصراع الشيعي السني وصلت إلى محاولات الإبادة الجماعية أو التطهير العرقي لمجموعات كبيرة من السنة تحت غطاء من الدعم الإيراني والصمت أو التواطؤ الأمريكي. وفي لبنان أصبح حزب الله في ظروف حرب تحرير الجنوب يمتلك قوة عسكرية ضخمة ربما لا توازيها أية قوة أخرى في لبنان ولا حتى قوة الجيش اللبناني، وأصبح بإمكان الحزب السيطرة على مقاليد الأمور في لبنان – إن هو أراد ذلك – وقد فعلها فعلا منذ شهور قليلة حين قامت ميليشياته ببروفة للسيطرة على لبنان ونجحت فعلا هذه البروفة ثم تراجع الحزب عن الاستمرار في السيطرة ربما لأسباب إقليمية أو دولية أو لنواح تكتيكية.
ولكن المؤكد أن حزب الله أصبح هو القوة الأكثر قدرة وسيطرة في لبنان، قوة تراجعت أمامها سائر القوى الأخرى حين احتدت المواجهة كما قلنا منذ عدة شهور فيما سمي بصراع الموالاة (مجموعة 14 آذار ومن معهم) والمعارضة (ممثلة في حزب الله بشكل أساسي).
وحزب الله لا يتحرك في فراغ وإنما هو حزب محظوظ يتكئ على دعم إيراني وسوري هائل ويتحرك في فراغ سياسي لبناني يسمح له بالتمدد في أمان لدرجة أنه أصبح يملي إرادته على الحكومة اللبنانية، وحين تجرأت الحكومة وطالبت بمعرفة أسرار الخطوط التليفونية لحزب الله، وقف الحزب في وجهها وقام بالسيطرة على لبنان ليظهر قوته ثم انسحب تكتيكيا بعد أن أعطى الإشارة المطلوبة وأبلغ الرسالة للجميع.
وفي دول الخليج راح الشيعة ينظمون صفوفهم استعدادا للحصول على مساحات أكبر من الحقوق والنفوذ، واستثمروا المناخ الدولي المؤيد لحقوق الأقليات (حقا أو كذبا)، وأصبحوا ورقة تبتز بها أمريكا حكومات الخليج، وبالمقابل راحت المجتمعات الخليجية ذات الأغلبية السلفية تنظر بتوجس للتجمعات الشيعية.
وعلى الرغم من اعتبار مصر دولة عربية وإسلامية خالية من الشيعة إلا أن العقود الأخيرة منذ قيام الثورة الإيرانية وحتى الآن تشهد انضواء أعداد من الشباب السني تحت المذهب الشيعي اندفاعا –كما قلنا– وراء انبهار بشخصيات الخميني وخاتمي وأحمدي نجاد وحسن نصر الله، وإعجابا بنجاحات المنظومات الشيعية في الحصول على حقوقها وإدارة أزماتها مع أمريكا بالذات، في الوقت الذي تعاني فيه المجتمعات السنية من مشكلات هائلة في نظم الحكم الاستبدادية التي قهرت شعوبها وسلمت إرادتها لأمريكا وإسرائيل، واضطربت هويتها أيما اضطراب. وقد شكل هذا تهديدا بانتشار شيعي في بلاد السنة بعضه يحدث بشكل تلقائي وبعضه يحدث بجهود منظمة ومقصودة من هيئات شيعية فيما يسمى بتصدير النموذج الشيعي أو تصدير الثورة الإيرانية لبقية العالم الإسلامي.
التمدد السلفي في العالم العربي والإسلامي:
وفي المقابل كان هناك تمددا سلفيا موازيا انطلق من السعودية أساسا ثم من دول الخليج الأخرى وانتشر إلى بقية العالم الإسلامي وخاصة مصر. وقد حدث شيء من التمدد السلفي بشكل تلقائي حيث ذهب عدد كبير من أبناء مصر إلى السعودية وبقية دول الخليج ورأوا النموذج السلفي في ظروف جعلتهم يميلون إلى الإعجاب به واعتناقه (بعضهم عن اقتناع حقيقي بالنموذج وبعضهم الآخر كنوع من التوحد مع الأقوى والأغنى)، وحدث أيضا هذا التمدد بشكل مقصود حيث نشط دعاة السلفية لنشر دعوتهم وساعدهم على ذلك وجود المال ووجود الفضائيات.
وكان هناك حرص خاص على انتشار الدعوة السلفية في مصر فالسياسيون والعسكريون في دول الخليج يعتبرون مصر عمقا بشريا واستراتيجيا مهما في حالة حدوث مواجهة مع إيران؛
أما علماء الدين السلفيون فهم يقدرون وزن مصر الثقافي والدعوي، ولهذا قدموا كل العون للتيار السلفي في مصر لكي ينهض ويقوى وينتشر، وربما توافقت المصالح بين الأجهزة المعنية في دول الخليج والأجهزة المقابلة في مصر لإعطاء مساحات متزايدة لتمدد التيار السلفي وذلك لسحب البساط من تحت أقدام تيارات الإسلام السياسي (الإخوان المسلمون على وجه الخصوص)، على اعتبار أن التيار السلفي ليس له –على الأقل في الوقت الحالي– أطماعا سياسية، وأنه يركز في الأساس على موضوعات العقيدة والعبادات، وهي موضوعات تعتبر أكثر أمانا من الناحية الأمنية والسياسية.
وكما كان للشيعة شخصياتهم الكاريزمية كان للتيار السلفي أيضا شخصياته ذات الجاذبية الشعبية والدعوية الكبيرة أمثال: الشيخ محمد حسان، والشيخ محمد حسين يعقوب، والشيخ أبو إسحاق الحويني، والدكتور محمد إسماعيل المقدم، والشيخ أسامه عبد العظيم، والشيخ عائض القرني وغيرهم.
إلا أن هذه الشخصيات محاصرة في المجال الدعوي وممنوع تحولها إلى كاريزمات سياسية، أو حتى إلى قيادات اجتماعية، فحركتهم محسوبة ومرصودة بدقة شديدة. وقد استطاعت تلك الشخصيات الموهوبة والمحبوبة والمؤثرة توسيع دائرة الانتماء السلفي من خلال الكتب والخطب وأشرطة الكاسيت ثم أخيرا وبشكل أقوى من خلال الفضائيات المتعددة وعلى رأسها قناة الناس. ليس هذا فقط بل إن السماح الأمني المحسوب قد ساعد على ذلك بشكل واضح نكاية في تيارات إسلامية أخرى لها مطالب في الجانب السياسي والاجتماعي.
وخارج الإطار السلفي كانت هناك كاريزمات إسلامية أخرى على رأسها: الدكتور يوسف القرضاوي ويعتبر المرجعية الإسلامية الأكثر مصداقية ووسطية واعتدالا ورسوخا واحتراما، والداعية الشاب النشط والمجتهد والمحبوب عمرو خالد الذي أثر تأثيرا واسعا في مجموعات هائلة من الشباب والفتيات خاصة في الأوساط الاجتماعية الأرقى، والدكتور طارق السويدان الذي وظف مبادئ الإدارة والتنمية البشرية لخدمة الدعوة. وقد حاول القرضاوي الانتقال من المجال العلمي المجرد والمجال الدعوي الإرشادي فقط إلى العمل المؤسسي ذو الصفة العالمية فقام على تأسيس الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
أما عمرو خالد فقد حاول أن ينتقل من مجرد الدعوة المجردة إلى مجال التنفيذ من خلال مشروعه النهضوي صناع الحياة. ووجد طارق السويدان فرصة جيدة في إنتاج الأشرطة حول موضوعات السيرة النبوية والشخصيات الإسلامية، وأخيرا كانت قناة الرسالة منفذا إعلاميا هائلا للفكر الوسطي العصري المستنير الذي يمثله.
ولكن كلا من القرضاوي وعمرو خالد وطارق السويدان لم يمكنوا من أن يتحولوا إلى قيادات سياسية أو اجتماعية على أرض الواقع إذ ظلت حركتهم مرصودة ومحاصرة في حدود معينة بناءا على اعتبارات أمنية وسياسية تهم أنظمة الحكم القائمة، ولو كانوا أعطوا الفرصة لربما حققوا نجاحات هائلة في مجالات أوسع ولأصبحوا كاريزمات وقيادات سنية بالغة التأثير تنافس الكاريزمات الشيعية التي تحدثنا عنها. وفي المقابل لو أن حسن نصر الله نشأ في أحد الدول العربية الأخرى لكان مصيره السجن أو التصفية ولما تمكن من تحقيق بطولاته وكاريزمته.
السيناريو والسيناريو البديل:
حين نمعن القراءة بشكل موضوعي جيد وبعيدا عن المداهنات والمجاملات الدبلوماسية والتعبيرات الوجدانية عن وحدة الصف ووحدة الأمة سنة وشيعة، فإننا نرى أن مسرح المنطقة يتجهز لحالة من الاستقطاب الشيعي السني، أو بالأدق الشيعي السلفي، فدول الخليج (ذو الأغلبية السلفية) تنظر بتوجس نحو إيران، ليس هذا فقط بل تنظر بتوجس نحو مجموعات الشيعة بداخلها وتنظر بقلق نحو تمدد الشيعة وتمكنهم في العراق ولبنان.
أما إيران فلها حساباتها في المنطقة والتي قد تخلوا من البراءة السياسية وقد تحمل أطماعا في نشر المذهب الشيعي، أو على الأقل التمكين له، والاستفادة من ظروف تدهور الأحوال السياسية والاجتماعية في الدول المجاورة، والاستفادة من انتصاراتها السياسية والعسكرية؛
والاستفادة من تأثير الشخصيات الشيعية الكاريزمية على شباب السنة. ويساعد مبدأ التقيّة (أن يظهر الشخص غير ما يبطن) الشخصيات الشيعية على تفادي المناطق الصادمة والموضوعات الحساسة في أحاديثهم فنجد مثلا أحمدي نجاد وحسن نصر الله لا يتطرقون في أحاديثهما إلى المسائل الحساسة على المستوى العقيدي مثل عصمة الإمام والموقف من الصحابة وغيرها، ويكتفون بحديث عام يظهر وكأنه ليس ثمة فرق بين السنة والشيعة يستحق الحذر أو النظر (على الرغم من وجود فروق هائلة وصادمة)، وهذا يجعلهما مقبولين بشكل واسع لدى شباب السنة في العالم العربي.
وتحاول دول الخليج منذ سنوات عديدة أن يكون لها عمق ديني وثقافي واستراتيجي في مصر وبعض الدول العربية الأخرى (كما ذكرنا من قبل) تحسبا لمواجهة محتملة مع إيران أو مع الشيعة عموما في أي وقت، وربما يشكل الصراع مع الشيعة لديها أهمية تسبق مسألة الصراع مع إسرائيل لأسباب عديدة ليس هنا مجال لسردها، وتنظر هذه الدول الآن بحذر وترقب لمحاولات إيران المستميتة امتلاك السلاح النووي وتعتبر ذلك تهديدا لها بالأساس خاصة وأنه لم يثبت لديها أن إيران تحارب إسرائيل على الأقل بشكل مباشر؛
كما يزعجها ذلك التحالف الإيراني السوري وتعتبره اختراقا للصف العربي. ومن هنا تكدس دول الخليج أنواعا وكميات هائلة من الأسلحة التقليدية، وهذه الأسلحة قد استجلبت لحماية هذه الدول من الخطر الإيراني وليس من الخطر الإسرائيلي حيث لم يثبت دخولها في أي صراع مباشر مع إسرائيل، بل إن بعضها يرتبط بعلاقات ظاهرة وباطنه مع الكيان الصهيوني فضلا عن علاقاته الإستراتيجية والمفصلية والحيوية مع أمريكا.
إذن فنحن في الحقيقة أمام قطبين يسعى كل منهما إلى امتلاك ناصية القوة التقليدية أو غير التقليدية خوفا من الآخر وتحسبا لغدره (أعرف أن هذا الأمر صادم لبعض مطيبي الخواطر ومهدئي النفوس على الجانبين، ولكنها الحقيقة المرة التي يجب مواجهتها بشجاعة وموضوعية)، وهناك قوى إقليمية وعالمية من مصلحتها تأجيج هذا الصراع ودفعه إلى نقطة الاشتعال، وقد فعلت هذا من قبل حين أشعلت الصراع بين العرب يتقدمهم صدام العراق وبين إيران في مهد الثورة الخومينية، واستمر الصراع ثمان سنوات، وحين فشل الطرفان في القضاء على بعضهما كما كان مقدرا من القوى الدافعة إلى الصراع قامت أمريكا بالقضاء على قوة العراق تحت حجة القضاء على صدام وما يمتلكه من أسلحة الدمار الشامل المزعومة.
ونحن نسوق هذا لنؤكد أن الصراع ليس بعيدا وليس متوهما، ولنرد على أصحاب النوايا الحسنة وعلى الذين يغلبون مشاعرهم على عقولهم، أو يقنعون بتطييب الخواطر وكلمات المجاملة بين الطرفين (على غرار ما يحدث في مصر في مؤتمرات ولقاءات الوحدة الوطنية).
ومن البديهي أن ثمة مصالح هائلة تتحقق للحلف الأمريكي الصهيوني من هذه المواجهة على المستويات السياسية والعسكرية، وربما يكون في ذلك إنقاذا للاقتصاد الأمريكي المتدهور حين تحتاج دول الخليج للسلاح الأمريكي وللخبرة الأمريكية وربما للحماية الأمريكية من الخطر الإيراني. وقد تستخدم أمريكا القوة البشرية والاقتصادية السنية في تحجيم إيران (كما حاولت قبل ذلك في حرب العراق وإيران). إذن هذا هو السيناريو الأسوأ الذي تبدو بوادره في كثير من الأشياء في المنطقة.
وإذا سألنا: وهل هناك سيناريو آخر يجنب المنطقة مزيدا من الدمار والخراب ويفوت على الحزب الأمريكي الصهيوني هذه الفرصة التاريخية؟
نعم إنه سيناريو التعايش والمصالح المشتركة بين السنة والشيعة على الرغم من اختلافهما المذهبي، فهم على الأقل أبناء قبلة واحدة، ولديهما مصالح مشتركة وعدوهما مشترك. وهذا يستلزم التوقف عن محاولات الاختراق أو التكفير بناءا على قاعدة: "لكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات إلي مرجعكم جميعا"، وقاعدة "التعاون بين أهل القبلة على اختلاف مذاهبهم".
فالمخرج: ليس تقاربا سنيا شيعيا، وإنما تعايشا سنيا شيعيا يضع في الاعتبار المساحة الدينية المشتركة أيا كان الخلاف حولها: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، الاشتراك في الطقوس والعبادات، ولو لم يقتنع البعض بذلك فلينظر إلى المصالح والتهديدات المشتركة. والتعايش لا يشترط أن يغير طرف معتقداته وأفكاره لكي يتقبله الآخر، ولهذا فهو أقرب إلى الموضوعية والواقعية، وهو يجنبنا الدخول في تجارب فاشلة للتقارب نخرج منها أكثر إحباطا وحذرا وتوجسا.
زلة لسان أم درء فتنة عقيدة:
ذكر الأستاذ أحمد كمال أبو المجد في كلمته بالملتقى الإسلامي في رمضان أن تصريح الشيخ القرضاوي حول الشيعة ربما يكون زلة لسان فهل هو فعلا كذلك، أم أن الشيخ القرضاوي بما له من رؤية واسعة وخبرة عميقة بما يحدث في العالم الإسلامي رأى مشاهد فتنة عقيدية حقيقية تجتاح العالم السني فوقف وقفة العالم يدرء تلك الفتنة ويفرق في ذات الوقت بين موقفه السياسي وموقفه العقائدي الشرعي.
والسؤال التالي: أين تقع تصريحات الشيخ القرضاوي الأخيرة في هذا السياق حول بدعية الشيعة وحول محاولاتهم اختراق المجتمعات السنية؟...
والإجابة هي أن القرضاوي لم يصرح بذلك بداية، وإنما كان يرد على تساؤلات في حديث صحفي، وهو كعالم دين لا يستطيع أن يغلب المصالح السياسية على الأمور العقدية والفقهية، فالأولويات هنا لا تستقيم، ولهذا فقد أعلن الرأي الفقهي باستقامته واعتداله ووسطيته المعهودة، وأوضح موقفه السياسي في تأييد حزب الله في حربه ضد إسرائيل، وهنا يكون قد وفق بين الرأي الفقهي الشرعي الذي لا يحتمل مداهنة أو مجاملة والرأي السياسي الذي يراعي المصلحة ويراعي مساحات القرب والبعد بين الأطراف المختلفة.
وما قاله القرضاوي ليس زلة لسان – كما عبر الدكتور أحمد كمال أبو المجد – وإنما هو موقف عالم رأى افتتان عدد غير قليل من شباب أهل السنة بالشخصيات الشيعية ذات الكاريزما الآسرة ورأى انبهار ذلك الشباب بالنموذج السياسي والانتصارات العسكرية والسياسية الشيعية، ورأى خلطا بين النجاح السياسي وصحة العقيدة فكان لزاما عليه أن يضع الأولوية لدرء فتنة العقيدة على فتنة السياسة، وهو نفسه صاحب المواقف السياسية الناضجة في تأييد إيران في صراعها مع أمريكا وتأييد حزب الله في صراعه مع إسرائيل، ولكنه مع كل هذا لا يملك السكوت عن فتنة عقيدية حادثة بالفعل (خاصة في أوساط الشباب والمثقفين الذين انبهروا ببطولات زعماء الشيعة) وعن اختراق شيعي تلقائي ومقصود يراه أصحاب العقول الراشدة.
والرائد لا يكذب أهله، ولو كره المجاملون أو الخائفون أو مقدمو السياسة على العقيدة، أو مقدمو الخميني وحسن نصر الله وأحمدي نجاد (رغم احترامنا لمواقفهم في وجه الغطرسة الأمريكية والعربدة الإسرائيلية) على أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم.
اقرأ أيضاً:
سيكولوجية الشيعة وإمكانات التعايش2 / السنة والشيعة ومفهوم الأمة الواحدة / أقول لهم نصرٌ.. فيقولون شيعة / تفسير الأحلام بين العلم والخرافة / الفلوس والنفوس : الحالة النفسية للمتعاملين في البورصة