جاء هذا العيد في موعده ككلِّ عامٍ حاملاً معه كلَّ ما يلتصق فيه من أفكارٍ ومعتقداتٍ وعاداتٍ ككلِّ عام، غير أن مشاعري وما يعتري نفسي تجاه هذا العيد ليست ككلِّ عام..
في الحقيقة دخلتُ هذا العيد دون أدنى تفاعلٍ مع أحداثه السارّة وأفكاره المشرِقة..
فالعيد يعني لي البهجة والحس الاجتماعي الراقي مع أقاربي وأصدقائي الذين أصبحت لا أراهم إلا في هذا العيد، والأهم تلك الحالة الروحية الصافية التي تسمو نفسي فيها مع تغريد المآذن ((الله أكبر.. الله أكــبر..))، ولكنها لم تفعل فعلها في هذا العيد!!
لمَ يا ترى، وما بال نفسي هذا العيد؟!
وحينما تأملت محاولاً أن أعي ذاتي Self Awareness وأن أمحصَّ ما يعصفُ فيها من مشاعرٍ وخواطرٍ تركتها هكذا متبلّدة أمام هذا الحدث وأنا الأخصائي النفسي الذي يجب أن يعرف ذاته حق المعرفة. وبعد جولةٍ في أعماق ذاتي وجدت جملةً من الأمور مرّت بي تركتني هكذا تحت وطئتها حتى الساعة واقفاً أمامها مذهولاً، وهي الآن في قفص الاتهام على أنها أفقدت نفسي تذوق طعم هذا العيد والإحساس ببهجته.
ومن جملة هذه الأمور خبر الحادثة المروّعة!!
حادثة السير في أواخر الشهر الماضي والتي راح ضحيتها ثلاثةٌ من الطبيبات النفسيات المصريات والرابعة لا زالت في العناية المشددة، واللاتي كان لي فرصة لقائهنَّ ولفترة قصيرة خلال مؤتمر الإسكندرية حول التعامل مع العنف والصدمات في عام 2006، وخاصة الدكتورة دعــاء حبيب التي لمست فيها اللطف والدافعية والرغبة الصادقة في مساعدة الباحثين الشباب أمثالي، وقد استمر التواصل الإلكتروني الفعّال معها فيما بعد المؤتمر واستمرت هي بتقديم الدعم والتشجيع بكلماتها الحانية الصادقة.
ثم بعد أن قررت الاشتراك في المؤتمر المعلن عنه في الإسكندرية (مؤتمر 0-5 سنة) والمنظم من قبل فريقها النشيط (د. أميرة و د. دعاء ود. دينا د.ماري)، وأرسلت للدكتورة أميرة والدكتورة دعاء بريداً إلكترونياً أُبين فيه رغبتي في المشاركة في المؤتمر، وجدت على هاتفي النقّال مساء يوم الخميس 20-11 رقماً غريباً من مصر الحبيبة لم أستطع حينها الرد عليه، وأظنه أنه كان رقمها أو رقم الدكتورة أميرة سيف الدين، حاولت الاتصال به متفائلاً أنها الدكتورة دعاء أو أميرة ولكن دون أن أجد إجابة، لأفاجأ صبيحة يوم الأحد بخبر الحادثة المروّعة!!
إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله..
بدايةً أجّلت المشاركة من خلال الشبكة النفسية العربية arbpsynet بمظاهر التعزية والتفاعل مع هذا الحدث المُفجِع مكتفياً بالمتابعة والمراقبة لرسائل التعزية الآتية من شتى الأطراف النفسية العربية، ربما لأني لا زلت مصدوماً ولا أجد كلماتٍ تناسب عظمة الموقف.
لقد قرأت مظاهر الصدمة والحزن والفاجعة باديةً في كلمات الزملاء من كل الأقطار العربية، وشعرت كم كان وقع الخبر على الزملاء مؤلماً وخاصة مجموعة MEKI التي أكن لها كل التقدير والاحترام. ثم تتالت ردود الأفعال العربية والعالمية التي تحاول امتصاص الصدمة وتحويلها إلى مسارات التكريم والتقدير لجهود تلك المجموعة الراحلة كآلية ناضجة راقية لامتصاص الفاجعة.
لكنّ نفسي –مع هذا- أحسّت بمرارة فَقْدٍ أخرى، من خلال حال البعض من الإخوة النفسيين العرب الذين فقدوا القدرة على استعمال اللغة العربية للتعبير عن مشاعرهم لغيرهم من العرب عبر الشبكة النفسية العربية واستبدلوها بلغةٍ أجنبية، وكلنا يعلم أن اللغة الإنكليزية مثلاً هي لغة العلم وكلنا يعلم أيضاً أن الإنكليزي والأمريكي والألماني والفرنسي والإسباني لمّا يريد أن يعبّر عن فاجعته لا يجد لسانه إلا لغة قومه ليستعملها مهما كانت لغة سامعيه، أما نحن العرب فليس لدينا لوحة مفاتيح (كيبورد) عربية أو لم نعتد بعد الكتابة بالعربية أو... لنستعمل لغةً أخرى نستعيرها من أهلها لتحكي مشاعرنا!!!
ولأن حقيقة الانتماء تظهر عند الفاجعة والمحن فهل هي أزمة هوية وانتماء Identity عند أخصائيو النفس العرب لنحوقل؟!، أم أن القضية لا تخفي خلفها أي معنى آخــر فهي لوحة مفاتيح غير عربية وعادة كتابة باللغة الأجنبية فقط؟!..
هل هي مرارة الفقد والأسى ما أفقد عيدي هذا بهجته ومسرة؟!
لكن نفسي مرةً أخرى تساءلت:
هل فقد العيد طعمه ورونقه أمام عيناي جراء ما أُشبعت أذناي من القصص المأساوية للأسر العراقية وما تعرّضت له من محنٍ وصدماتٍ خلال الحرب في العراق؟!، هذه القصص التي تقارب الخيال والخرافة لقسوة تفاصيلها قصّها عليّ الكبار بلسانهم والأطفال بحالتهم السريرية النفسية التي تحقق المعايير الكاملة للاضطراب PTSD، وذلك خلال عملي كطبيب نفسي في مشروع الدعم النفسي والاجتماعي للاجئين العراقيين في سوريا التابع للهلال الأحمر السوري واليونيسيف.
فهل وجدت نفسي من أيام العيد الهادئة مكاناً للراحة والتأوّه والتنفيس المؤجل في زحمة أيام العمل التي لا تجد فيها نفسي فرصةً للتفريغ؟!..
بل أنتم الغنم!!..
عبارةٌ أطلقها علينا مساعد لسائق حافلة قديمة أقلّتنا من دمشق حيث عملي إلى بلدتي في شمال سوريا، وبسبب توجّه الحافلات الحديثة جميعها إلى رحلات الحج لم يكن توجد وسيلة نقل محترمة فاضطررت للسفر يتلك الحافلات القديمة، وخلال رحلة السفر التي لا تتوفر فيها وسائل الراحة وبعد وصولنا بالسلامة وبعد مشادّة كلامية معي إذ بهذا الشخص البدائي يقول لنا واصفاً حالنا بـ ((الغنم)) أو الخرفان كشتيمة، فما كان مني إلا أن غضبت في وجهه على هذه الكلمة، والتي كنت –صراحةً- خلال الرحلة أرددها في نفسي وأنا أرى الركاب كيف يصعدون وينزلون وكيف يتحكم بهم ويتاجر بهم سائق الحافلة ومساعده دون أيِّ رادع، تأملت في حالنا ورحلتنا في هذا العيد لأجد أن هذا الشخص البدائي أجاد بوصف حالنا لما نقلنا كما ينقل الغنم، نعم كنا في هذا الباص كالغنم.
هل هذه الكلمة الذي تفوّه بها هذا الرجل هي الواقع الذي صدمني وأفقد عيدي بهجته؟!
والأكيد..
أني في هذا العيد كنت بعيداً عن نصفي الآخر (خطيبتي)، علماً أنه العيد الثاني الذي يمر علي وأنا في شفاءٍ من حالة التوحد (العزوبة) التي عانيت منها لسنوات خلت..
فهل هذا الفراغ العاطفي المؤقت المفاجئ هو الذي أفقد عيدي لونه وطعمه؟!
هل هو حصار إخواننا في غزة أم أحداث العراق أم غياب بعض الإخوة عن هذا العيد أم..
أم أن كل في الأمر كما يقول عامة الناس ((عيد الأضحى للحجاج والأطفال))، وليس لنا نحن البالغين -حتى في الأعياد- أية فرحة؟! هل هذا صحيح؟! أتمنى ألا يكون كذلك..
وأخيراً أقول إنَّ نفسي -كأيةِ نفسٍ بشرية- كالبحيرة الوادعة في أعماقها الكثير من الأسرار، ولكن لا يُرَ على سطحها إلا انعكاس شمس هذا العيد، والذي بدا الآن كامداً شاحباً هزيلاً..
أتمنى أن يأتي العيد القادم على أمتنا ونحن آمنين نعي أنفسنا ونفهم ذاتنا، رعــاةً أمينين للأمم، في عافيةٍ تامةٍ من التوحد الموحش إلى حضن التآلف المؤنس..
مع خالص أمنياتي لكم بكل الخير..
أخوكم الدكتور ملهم زهير الحراكي
تمت في يوم الخميس رابع أيام عيد الأضحى 11-12-2008
ويتبع >>>>: نفسي وهذا العيد... تبعات نفسية1
واقرأ أيضاً:
الصخرة، بيروت، التوحد، الوحدة وأنا / أحلام طبيب نفسي2 / من وجد شيئاً أو فقده قد يعطيه أو لا يعطيه