على الرغم من فرحتي بما ناله بوش من إهانة شديدة وهو ينحني مرتين كي يتفادى وجهه الارتطام بحذاء منتظر الزيدي، إلا أنني شعرت بقلق شديد إزاء تداعيات الحدث، ذلك القلق الذي يعود إلى قراءة الأفعال وردود الأفعال لدى الأفراد والجماعات إزاء حدث مدو، تلك القراءة التي تعكس طريقة التفكير، ومنهجية اتخاذ القرارات والمواقف. وقد راعني ذلك الإجماع والإعجاب بما فعله منتظر الزايدي إلى الحد الذي تخصص فيه إحدى القنوات ساعات طويلة لإعادة المشهد وتستضيف الكثير من الرموز ليعبروا عن فرحتهم وابتهاجهم بالفعل البطولي الذي حدث ولم يشذ أحد عن هذا الموقف العام.
فما فعله الزيدي عمل فيه الكثير من المعاني المكثفة والمكدسة، فمن ناحية بوش هو شخص يستحق كل الإهانة والازدراء، فهو مسيلمة هذا العصر الذي كذب هو وجهاز مخابراته على العالم كله ليقوم بتحطيم العراق (وقبلها أفغانستان)، ويؤدي بغبائه وشططه الأغشم إلى قتل أكثر من مليوني شخص ووجود أكثر من خمسة ملايين أرملة ويتيم، وخروج حوالي مائة نعش يوميا في العراق من جراء حوادث القتل العشوائي والفتنة الطائفية التي أججها، ومع هذا يخرج علينا من وقت لآخر بابتسامة بلاستيكية صفراء وبوجه متبجح ليعلن أنه نشر الديمقراطية والسلام في أرض العراق وحارب الإرهاب في العالم، وحين يفتضح كذبه يحاول أن يلقي بالمسئولية على جهاز مخابراته ويعتذر عن عدم صدق معلوماته عن أسلحة الدمار الشامل (بعد ماذا؟)، وكأنه يعتذر عن هفوة بسيطة أصاب بها شخصا في قارعة الطريق، ولا يدري كم دمر من حضارة وكم قضى على حياة بشر، وكم أدخل الأحزان إلى البيوت والفتنة إلى كل ركن في العراق.
إذن فبوش يستحق الضرب بالحذاء عن جدارة، فهو لم يتصرف كرئيس دولة محترم، يقف أمام الشرعية والقوانين ويحترم رأي اللجنة التي تشكلت من الهيئة الدولية للطاقة النووية والتي رأيناها وشاهدناها بأسماعنا وأعيننا تنفي وجود أسلحة دمار شامل في العراق، ومع هذا ركب رأسه ودخل كخرتيت أهوج إلى أرض العراق فدمر ما فيها ومن فيها وترك بلدا بأكمله على بركان لا يعلم إلا الله متى يهدأ.
أما من ناحية منتظر الزيدي، فهو شاب عراقي عاش المأساة كمواطن عراقي انتهكت كرامة بلده، وتدنست أرضه بأحذية الاحتلال الغليظة والبغيضة، ثم عاش المأساة بعمق أكثر ولآفاق أوسع وهو يعمل كمراسل لقناة البغدادية ليس له هم إلا رصد المآسي التي يعيشها الشعب العراقي يوما بعد يوم، فهو يعايش حوادث القتل والتخريب، وحملات المداهمة والتعذيب في السجون على أيدي الأمريكي المحتل أو العراقي المتواطئ، ويعايش دموع الأرامل والثكلى واليتامى، وتمتلئ نفسه كل يوم بالغضب المكتوم، وربما يشعر بالغضب تجاه نفسه إذ يكتفي بعمل تقارير عن المأساة الإنسانية التي يعيشها أهله وناسه دون أن يغير شيئا من هذا الواقع.
والمفترض بالشكل الرسمي أن بوش رئيس دولة في مؤتمر صحفي، وله حصانة رئيس الدولة واحترام الزائر، وأن منتظر الزيدي صحفي مراسل لقناة فضائية عراقية ليس له إلا تقديم سؤال وتلقي الإجابة عليه، ولكن في لحظة فارقة سقطت الأقنعة، وظهرت الذوات الحقيقية، وحدثت المواجهة، فجورج بوش ليس رئيس دولة محترم، فهو لم يحترم الشرعية الدولية بل داسها طوال سنوات حكمه البغيضة والتي تعتبر أسوأ فترة في التاريخ السياسي والعسكري الأمريكي، وهو شخص أدمن الكذب والخداع؛
وقد خرب العراق بدم بارد (وقبلها أفغانستان)، وجاء ليزور الخرابتان اللاتي صنعتهما يداه قبل أن يرحل إلى غير رجعة، وهو فوق هذا يمثل رأس سلطة الاحتلال في العراق وهذا يسلبه –على الأقل في نظر الزيدي- صفة الضيف أو الزائر لبلده، ويعطيه صفة المدمر المحتل القميء المخادع، وهنا ينخلع منتظر الزيدي من صفته الصحفية والإعلامية المحايدة والملتزمة بضوابط المهنة وتتلبسه روح المواطن العراقي المهزوم والمقهور والمستذل، وهاهو قاهره ومذله أمام عينيه وعليه أن ينتقم، وليس معه سلاح ينتقم به غير ذلك الحذاء الذي تركوه له بعد تفتيشه بشكل مهين عدة مرات (كان يتم إعادة تفتيش الصحفيين والمراسلين كل ساعة وهم في انتظار المؤتمر الصحفي لمدة طويلة)؛
وهنا تتحرك يداه لتلتقط "فردة حذائه" وتلقيها في وجه الطاغية المحتل، ثم تتحرك مرة أخرى لتلاحقه ب"فردة الحذاء" الأخرى لعلها تطفئ غليله، ولا يكتفي بذلك بل يواكب هذا الفعل بكلمات سمعت بعضها بوضوح وتاه بعضها الآخر وسط الزحام واللكمات والصفعات التي تلقاها من أفراد الحرس، وكان من بين ما قال:
"هاي قبلة الوداع ياكلب"... "وهاي دموع الأرامل والثكالى واليتامى"، وعلى الرغم من تلغرافية الكلمات (والتي لا تسمح الظروف بأكثر منها) إلا أنها تلخص ما يدور في نفس الزيدي في هذه اللحظة، فهو يرى في بوش كلبا (بما تحويه كلمة كلب من العدوانية والنجاسة في الثقافة العامية الدارجة)، ويرى أنه لا يستحق وداعا غير هذا الاحتقار والاشمئزاز والإهانة والقهر، وهذا ما يمثله الحذاء من معاني أيضا في الثقافة العربية، ثم يتذكر آثار ما فعله بوش وما يراه الزيدي من مآس بشكل يومي في تغطيته الإعلامية للحياة اليومية العراقية من دموع الأرامل واليتامى، فيشعر بالرغبة في الثأر مرة أخرى فيلتقط "فردة" حذائه المتبقية ويلقيها في وجهه.
إذن فهذه هي المواجهة بين الذوات الحقيقية وليس بين الذوات المهنية، أو الذوات الرسمية، فكل من بوش ومنتظر الزيدي سقط قناعه المهني والرسمي وظهرت ذاته الحقيقية، وقد ظهر هذا جليا في المواجهة بينهما، فمنتظر الزيدي يوجه حذاءه بغضب شديد (لا يتماشى مع ما يجب أن يتحلى به من هدوء وحيادية كمراسل إعلامي)، كما أن تصويبه كان غاية في الدقة والعنف (بما لا يتوقع ممن يعمل في مهنة أساسها العقل والفكر وليس اليد أو القدم أو الدقة في التصويب هكذا)؛
أي أنه هنا يتصرف كمقاوم متدرب تدريبا جيدا على التصويب، ومشحونا بطاقة انتقام هائلة يحتاجها المقاوم كي يستمر في طريق الكفاح المسلح ولا يبالي بما يمكن أن يلحق به من أذى، فبالتأكيد كان يعرف الزيدي باحتمالات تصفيته جسديا في اللحظة الأولى التي يتحرك فيها نحو حذائه فالتعليمات الأمنية في مثل هذه الظروف تقضي بالضرب المباشر والقاتل نحو أي شخص يتحرك حركة مريبة أو غير طبيعية، ومع هذا غامر بحياته وفعل ما أراد.
أما بوش فقد أظهر براعة لا تتوقع من رئيس جمهورية في تفادي ضربتي الحذاء، فقد راوغ في المرة الأولى وراوغ أيضا في المرة الثانية، وأدى الدور كمحترف قتال أو محترف إجرام في الأفلام السينمائية (وهو مالا يتوقع من رئيس جمهورية أكبر دولة مشغول بهموم عالمية ومحلية هائلة)، ولكنه البعد المراوغ والمحترف في الشخصية والذي ينفي معاني البراءة عنها. ولم يكتفي بوش بتفادي الحذائين ببراعة، وإنما وقف بعدها مبتسما ابتسامة صفراء خالية من أي معنى وخالية من أي تعبير إنساني طبيعي في مثل هذا الموقف، وهي بالمناسبة ليست شجاعة أو ثباتا نبيلا، وإنما هي بلادة حس، وموت ضمير، وانعدام كرامة، ولم تصل إليه الرسالة، وذكر في غباء شديد أن من فعل هذا يبحث عن الشهرة.
هذا هو الحدث –كما حدث – بين شخصين خلع كل منهما في لحظة المواجهة أقنعتهما المهنية والاجتماعية، ولم يتوقف الأمر عند الشخصين، وإنما امتد ليشمل أعدادا هائلة من الشعوب العربية والإسلامية، خلعت كل أقنعتها المهنية والاجتماعية، وخلعت عن بوش قناعه وراحت تعبر عن فرحتها الغامرة بما حدث، والعجيب أن من بين هذه الشخصيات مسئولين في الإعلام، وشخصيات لها وزنها ولها وقارها، وقبل هذا لها التزاماتها المهنية والرسمية.
ولم يشذ عن هذا الموكب إلا إبراهيم عيسى، حين كتب في مقاله الافتتاحي في الدستور يرفض ويستنكر ما فعله منتظر الزيدي، وقد تعمد صديقي الحبيب إبراهيم عيسى أن لا يذكر اسم من قام برمي بوش بالحذاء، وهذا يعكس مدى استنكاره لهذا الفعل، واعتباره أن هذا يخرج عن التقاليد المهنية المحترمة ويخرج أيضا عن أدب الحوار السياسي، كما يخرج عن حدود عهود الأمان التي تعطيها الدولة لضيوفها، وهي عهود واجبة الوفاء؛
ولقد فرحت كثيرا بأن ثمة صوت له اعتباره يخرج عن الإطار العام ويستنكر ما حدث ويراه بمنظور آخر ولا يتأثر بمشاعره بل يعود إلى مرجعيات مهنية وأخلاقية راسخة يجب أن لا تغيب في غمرة فرحنا بإهانة بوش وما يمثله من معاني قميئة، ولكنني في ذات الوقت أشفقت على صديقي العزيز الذي أعرف صدقه وأمانته وقدرته على القراءة النقدية للحدث واختراق الغيوم للوصول إلى جوهر الأشياء، أشفقت عليه من الحملات التي ربما يتعرض لها بسبب نزعه ثوب البطولة من على أكتاف منتظر الزيدي، والذي أصبح بطلا شعبيا عربيا يعتبره الجميع رمزا للبطولة العربية، وأنه قد استعاد الكرامة العربية بهذا الفعل الرمزي المسكون بالمعاني الكبيرة، وأنه أوصل رسالة بعلم الوصول إلى الشيطان الأكبر وإلى كل من يتعلق بذيله، وهذا في نظرهم عمل بطولي يستحق صاحبه الخلود في الذاكرة العربية.
كما أوضح عيسى أن ما حدث لا ينتمي إلى شرف المقاومة والصراع مع الغاصب أو المحتل وضرب أمثلة من سلوك حماس وحزب الله في ترفعهم عن مثل هذه السلوكيات على الرغم من سخونة الصراع بينهم وبين إسرائيل وأمريكا. وربما يضاف إلى ذلك الغيرة على الثقافة العربية والإسلامية أن يلتصق بها الغدر والتهور واستخدام أساليب غير مشروعة في الحصول على الحقوق المشروعة، وأن تتأكد صفة الإرهاب لديها، أو على الأقل خرق القواعد المتفق عليها دوليا ومهنيا.
وقد شجعني رأي إبراهيم عيسى على الخروج من ضغط المجموع، والعودة إلى الثوابت لقراءة الحدث في إطارها، وذلك ضمانا للموضوعية والثبات في تقدير الأمور، فنحن كعرب بلا شك تأخذنا مشاعرنا وننسى تلك المرجعيات والثوابت، ولا نتذكرها إلا إذا كنا نحن الضحايا.
فهل صحيح أن منتظر الزيدي خالف آداب مهنته وخرج عن إطاره الأخلاقي والقانوني حين قذف ضيف بلاده بالحذاء في وجود رئيس وزراء البلاد بجانبه؟... وهل هذا تجاوز لعهد الأمان الذي أخذه الضيف وهو يقف في مؤتمر صحفي وليس في ساحة قتال؟.... وهل صحيح أن منتظر الزيدي لا يجب أن يستعمل في هذا المكان غير قلمه وكاميرته ومن ورائهما عقله؟..... وهل صحيح أن بوش يأخذ صفة الضيف الزائر الذي يجب إكرامه، وأن له عهد الأمان خاصة وأنه جاء ليصدق على معاهدة أمنية مع السلطات العراقية؟؟....... وهل يجوز للناس أن يفرحوا ويبتهجوا كل هذا الابتهاج بهذا الفعل، وأن يكون فرحهم هذا مشجعا لاستخدام الأحذية في التعبير عن الرأي في المؤتمرات الصحفية، وفي مناقشات المجالس النيابية؟...... كل هذه أسئلة يتوجب طرحها، حتى نرى الطريق بوضوح وحتى لا تضيع من بين أيدينا القواعد والثوابت والمرجعيات فننسى بعد وقت يطول أو يقصر، ماذا يجب ومالا يجب.
وهذا يستدعي إعادة قراءة للموقف مع تحييد المشاعر (هنا والآن، وليس وقت الحدث). فإذا اعتبرنا بوش ضيفا رسميا على العراق، وإذا اعتبرنا الحكومة العراقية حكومة وطنية منتخبة بنزاهة، فإنه من التجاوز أن يخرج منتظر الزيدي على قواعد مهنته، ويعتدي على ضيف بلاده، ويهين كل الحاضرين ويظهر هو وبلده والثقافة التي يمثلها في مظهر غير حضاري وغير لائق.
أما إذا قرأنا الحدث على خلفية أن الرئيس بوش هو رأس سلطة الاحتلال الأمريكي للعراق، وأن السلطة الحالية ليست وطنية مائة بالمائة، وأن فيها ومنها متواطئون مع الاحتلال، وأن الاتفاقية الأمنية ما هي إلا تكريس للاحتلال بشكل أكثر خبثا وتكريسا للتبعية لأمريكا، فهنا يختلف المشهد، إذ لا كرامة لمحتل، ولا عهد لمغتصب جاء ليكرس مزيدا من الاغتصاب، ولا أمان لشخص تسبب في انهيار العراق بأكمله وموت ما يقرب من مليوني شخص (نفس الرقم الذي قتله التتار بقيادة هولاكو)، وترمل ويتم أكثر من خمسة ملايين امرأة وطفل، وفي هذه القراءة الثانية يصبح منتظر الزيدي بطلا قوميا أهان رأس الاحتلال، وأيقظ الوعي الشعبي العراقي حين خرجت الجموع الهادرة في اليوم التالي للحدث تندد بالاحتلال الأمريكي وتحرق العلم الأمريكي وصور بوش، وكأن هذه الجموع اكتشفت فجأة خطيئة الاحتلال الأمريكي بعد هذا الفعل الفرد لمنتظر الزيدي، وتذكروا ضحاياهم وأراملهم وأيتامهم.
ولك عزيزي القارئ الحرية في أن تقرأ الحدث كما تشاء، وأن ترجع إلى فقهاء القانون الدولي، وأن تذهب لمراجعة كتب الفقه للإطلاع على قواعد التعامل مع الأعداء في الأوضاع والحالات المختلفة، وبناءا عليه تضع بوش والزيدي في الموضع الذي تريده، ولكن بشرط أن لا تنساق وراء مشاعرك وتنسى ثوابتك المهنية والأخلاقية والوطنية والدينية، وتنسى أهدافك القريبة والبعيدة، وأن لا تكتفي بالانتصارات الرمزية بديلا عن الانتصارات الحقيقية، وطرد المستعمر من الأرض وليس فقط رميه بالحذاء، وانتزاع كل ظالم أو مستبد من مقعده مهما كانت هويته أو جنسيته، وذلك بالطرق المشروعة.
وفي كل الأحوال علينا أن نستشعر آلام منتظر الزيدي والشعب العراقي، وأن لا نكتفي بالقراءة الباردة للموقف مبتعدين بأيدينا عن سخونة الدم العراقي النازف (حتى هذه اللحظة وربما لسنوات قادمة) وحرارة دموع الأرامل والثكلى واليتامى، وليعش بوش وأذياله وأمثاله تحت حذاء التاريخ.
اقرأ أيضاً:
من المحلة إلى مارينا وبالعكس مشاركة / جمال حمدان: المحنة... العزلة... العبقرية / حذاء منتظر الزيدي / الاحتباس النفسي