كنت عائدا من عملي في وقت متأخر من الليل أشعر بضيق واختناق مما يحدث في غزة من مجازر وحشية، ومما أتابعه من إخفاقات وتورطات رسمية عربية في الأزمة تثير الخجل والغضب، وقد ضاعف من هذا الشعور أنني كنت أسير في طريق قد خبا فيه الضوء مما سمح بتنشيط محتوى ذاكرتي لأستعيد بوضوح شديد صورة رأس طفلة فلسطينية لا تتجاوز الثالثة من عمرها فوق ركام بيت حطمته القذائف الإسرائيلية، تلك الصورة التي بثتها وكالة الأنباء الفرنسية وتناقلتها صحف العالم لتهز ضمير وقلب أي إنسان مهما كانت جنسيته، وتتابع شريط الصور المخزون من فظائع العدوان الإسرائيلي قديما وحديثا في غزة وفي جينين وفي قانا وصابرا وشاتيلا، وسيناء وبحر البقر وبورسعيد والسويس والإسماعيلية، وتأكدت أن إسرائيل لم تترك مساحة في الذاكرة إلا وملأتها بصور القتل والدمار، وتعجبت من أولئك الذين يصافحونهم ويعانقونهم ويقبلونهم، كيف يفعلون ذلك، وكيف استطاعوا محو ذاكرتهم التي عايشت مثلنا تلك الأحداث.
وبينما أنا غارق في بحر الصور والأحداث وجدت فجأة من يناديني من خلفي فالتفت لأراه وقد بدا عليه أنه عائد من سفر طويل، يظهر عليه الإجهاد والجوع، ويتحدث بسرعة غير مألوفة، فظننت أن أعراض المرض النفسي قد عاودته مرة أخرى، ولكنه عاجلني قائلا:
0 أنا لسه راجع من رفح... آه يا دكتور لو شفت الوضع هناك.. ناس إيه وشباب إيه جايين من كل حته... كله عايز يدخل غزه يعمل أي حاجة يساعد بيها أهل غزة.. لكن للأسف ممنوع!!
- حمد الله ع السلامة... كتّر خيرك عملت اللي عليك.... تعالى أعشيك معايا
0 شكرا يا دكتور... أنا رايح أجيب فلوس من البيت وأرجع أسافر تاني.... أنا مش قادر اقعد في بيتنا وأنا شايف اللي بيحصل لأهالينا في غزه.... لا قادر آكل ولا أنام ولا اعمل أي حاجه.. شايف اللي بيحصل هناك... شايف وزراء الخارجية وهما قاعدين يضيعوا الوقت، ويترجوا الأنذال الأمريكان والأوروبيين في مجلس الأمن، وبيعطوا فرصة لإسرائيل لحد ما تخلص على المقاومة وتجيب عباس يقعد في غزة زي أمريكا ما جابت قرظاي في أفغانستان ونوري المالكي في العراق.... هي نفس الحدوته بس الكبار بتوعنا مش فاهمين، أو مش عايزين يفهموا، أو مريحين دماغهم، أو عاجبهم اللي بيحصل!!!
- طيب وانت ها تقدر تعمل إيه هناك؟ (كنت مشفقا عليه من تدهور حالته النفسية خاصة لو انقطع عنه العلاج لفترة، فقد خرج لتوه من أزمة نفسية)
0 حتى لو منعوني المهم أني قريب هناك وجاهز للدخول لغزه في أي وقت.. على الندهه يعني.. أصل انا حاسس ان حاجه مكتومه جوايا مش قادر عليها، وحسيت براحه كبيره لما وصلت هناك..... تفتكر يا دكتور ممكن نعمل إيه للي بيحصل هناك ده... ها نفضل ساكتين كده وبنتفرج على الإسرائيليين وهما نازلين فيهم قتل وحرق؟؟!!
- ..........
سلمت عليه ودعوت له بخير (كما كنت أفعل حين يزورني في العيادة) ورجوته أن ينتظم في أخذ العلاج وأن يحضر للمتابعة في موعدها، فشكرني وتحرك مسرعا ليحضر بضع جنيهات يسافر بها إلى رفح مرة أخرى.
وقبل أن أصل إلى بيتي دار في رأسي حوار كان قد دار، أيضا مع أحد مرضايا النفسيين الطيبين، والذي ذهب ليصلي في الجامع الأزهر كعادته فقابله أحد أفراد الأمن، وطلب منه بطاقته، ثم منعه أن يدخل المسجد وطلب منه أن يذهب فيصلي في أي مكان آخر، فاستسلم للأمر ورجع، ولكنه لم يستطع التخلص من شعوره بالضعف إزاء هذا الموقف وظل يلوم نفسه ولا يرى النوم لعدة أيام، ويقول:
لماذا رجعت وتراجعت؟.. لماذا لم أصر على الدخول للصلاة والمشاركة في المظاهرة التي حدثت هناك بعد الصلاة؟؟.. ولماذا صمم آخرون على الوصول إلى المسجد والمشاركة في المظاهرة لإعلان تأييدهم للمقاومة الصامدة في غزة.. كان أفضل لي أن أعتقل مثلهم، على الأقل كنت سأحترم نفسي، وأقول لطفلي الصغير حين يكبر أنا لم أسكت وقت حدوث المجزرة الإسرائيلية وتصفية المقاومة بل فعلت ما استطعت.
لقد تأكدت من صفاء ونقاء نفوس المرضى النفسيين وازداد حبي لهم، فهم على الرغم من معاناتهم وضعفهم ومشاكلهم، وفشلهم في إدارة حياتهم أحيانا، إلا أنهم أكثر صراحة وصدقا وحبا... وأكثر شفافية وإخلاصا.
وحضرني في نفس اللحظة صوت وصورة أحد المستشاريين السياسيين الكبار (تعرفه بأنه قصير القامة والمقام والنظر) وهو يتحدث في أحد الندوات لمجموعة من النخبة، وكان منطقه براجماتيا ملتويا ومليئا بكل معاني الانتهازية والنذالة، ويتخلى عامدا في حديثه عن كل القيم الدينية والوطنية والقومية النبيلة ويعتبرها شعارات عفى عليها الزمن ويفخر في المقابل بواقعيته وحكمته وموضوعيته، ويروج لفكرة "مصر أولا وأخيرا" بشكل أناني مفرط في الانغلاق مع أنه يدّعي انتماؤه للقوميين العرب.
وكلما حاوره أحد مذكرا إياه بالدور التاريخي والقيمة الحضارية والثقافية لمصر في محيطها العربي والإسلامي فضلا عن المحيط العالمي، كان يبدو عليه الضيق، فهو يعتبر هذه الأمور شعارات جوفاء خرقاء، وأن العالم قد تغير وتغيرت فيه القيم والمفاهيم، وتغيرت موازين القوى، وأن علينا أن ندرك ذلك ونتعامل معه، ولا مفر أمامنا من قبول إسرائيل والتعامل معها، والتسليم بالقوة الأمريكية المهيمنة على العالم بلا منازع، وأن نكون متعقلين في كل قراراتنا ولا تدفعنا مشاعرنا (سواء كانت دينية أو وطنية أو قومية) ولا تغرينا شعاراتنا القديمة لأن نأخذ مواقف عنترية ندفع ثمنها غاليا، وأن نهتم في المقام الأول والأخير بالحفاظ على أرواحنا وأرواح شعبنا وعلى لقمة عيشنا وعيشه، وكان يغلب عليه نغمة الموظف الذي يحاول بكل ما يملك المحافظة على وظيفته وعلى راتبه آخر كل شهر.
وأذكر أنني شعرت وهو يتحدث بحالة احتباس وضيق شديدين مع رغبة في القيء، وشعرت بالخطر أن يكون هذا تفكير المستشارين السياسيين الكبار لدينا، وتأكد بعد ذلك كيف تؤثر أفكار واتجهات هذا المستشار على مسار الأمور في الأحداث المختلفة الكبير منها والصغير.وهذا التوجه الذي يمثله هذا المستشار وغيره من المستشارين وبعض المفكرين والمثقفين الداجنين أو المستأنسين، ويجد قبولا من أصحاب القرار، قد شكل فجوة هائلة بين الإرادة السياسية الرسمية وبين الشارع المصري والعربي، وهذه الفجوة تتسع يوما بعد يوم، مما خلق حالة من الاغتراب بين الناس وبين حكوماتهم، وانقطعت خطوط التواصل وحل محلها شك واتهام وتوجس وعدم مصداقية ومظاهر عدائية متبادلة . وبما أن السلطة الرسمية في العالم العربي تملك القرار، وتملك التنفيذ بشكل مطلق لا يشاركها فيه أحد، لذلك انسدت منافذ التعبير الشعبي الحقيقية، وأصبح الناس يتساءلون:
ماذا يجب علينا أن نفعل تجاه ما يحدث؟؟... هل نكتفي بالدعاء لإخواننا الفلسطينيين، كما ينادي كثير من الدعاة الطيبين المسالمين؟؟... هل نبرئ ذمتنا بإخراج بضعة جنيهات نتبرع بها للمقاومة؟؟... هل نكتب مقالا ناريا نؤجج به مشاعر الناس ليصطفوا خلف الفلسطينيين الشجعان في مواجهتهم غير المتكافئة مع الجيش الإسرائيلي؟؟.. هل نذهب لننام في العراء قريبا من معبر رفح ننتظر السماح بالدخول؟؟.. وإذا دخلنا فماذا نفعل ونحن لا نعرف مسالك غزة ولا نعرف ماذا سنفعل هناك؟؟.. هل نذهب لنموت والسلام؟؟.. أم نذهب للتخلص من مشاعر الذنب التي تؤلمنا ونحن نشاهد أشلاء إخوتنا وأحبائنا في غزة ونسائهم وأطفالهم تختلط بالنار والدخان والحجارة في جحيم الآلة العسكرية الإسرائيلية التي افتقدت كل المعاني الأخلاقية فضلا عن المعاني الإنسانية؟؟
الناس حيارى ومذهولين، فالمثقفون منهم يعرفون مدى بشاعة ما يحدث، وغير المثقفين يشعرون بشكل غامض ربما بأن شيئا جللا يدور، وأن نتائجه كارثية، إذا تحقق السيناريو الذي ترمي إليه إسرائيل ويساعدها فيه كل القوى الغربية والعربية على السواء بالصمت أو بالمباركة أو بالمشاركة أو بالتواطؤ أو بالتفهم أو بالتحالف الظاهر أو الباطن.
وإذ تتراكم المشاعر لدى الناس بينما لا يجدون مسارات يعبرون بها عن أنفسهم، أو يتحركون من خلالها لفعل شيء ما، هنا تحدث انسدادات في نفوسهم، وتتراكم بداخلهم مشاعر غضب، أو حزن، أو إحساس بالذنب، أو إحساس بالقهر، أو إحساس بالخزي، أو إحساس بالنذالة، أو إحساس بالعار، أو فقدان الرجولة، أو انعدام النخوة والشهامة والمروءة (إذ كيف ترى مجموعة أوغاد يقتلون إخوانك، وأنت تحوطهم من كل ناحية وتمتلك أوراق ضغط وفعل كثيرة ومع هذا تقف متفرجا لا تفعل شيئا). وكلما اشتدت سخونة المعركة في غزة وزادت المشاهد البشعة التي تعرضها الفضائيات للوحشية الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني كلما ازدادت المشاعر المتراكمة، وفي ذات الوقت يزداد القمع الأمني والسياسي لتلك المشاعر، وهنا نحن أمام احتمالين:
الأول: أن يحدث انفجار هائل لتلك المشاعر في لحظة بعينها ينكسر فيها حاجز الخوف أو يزيد الضغط الداخلي بشكل مؤثر،
الثاني: أن يكبت الناس مشاعرهم، ويتحولوا إلى حالة من اللامبالاة والإحباط المزمن، ويزيد لديهم العدوان السلبي والعدوان البيني (بينهم وبين بني جلدتهم)، أي يتحول الغضب والعدوان إلى الداخل فيشل حركة النفس والمجتمع، ويشل إرادة مجموع الناس ليتناسب ذلك مع شلل الإرادة الرسمية العربية (المقصودة أو المفروضة).
والناس قد تعودوا على الحل الثاني (الكبت واللامبالاة والإحباط والغضب المكتوم والعدوان السلبي والعدوان البيني، وما يتبع ذلك من الانصراف إلى اللهو والعبث مع قنوات التليفزيون ومواقع الإنترنت وصالات الاحتفالات حيث لا تستطيع أن تغمض عينيك)، واستخدموا هذا الحل في مواجهة تزوير الانتخابات، وفي مواجهة إلغاء الإرادة الشعبية أو تزييفها، وفي مواجهة غلاء الأسعار، وفي مواجهة الفقر، وفي مواجهة التطبيع الإجباري مع إسرائيل، وفي مواجهة تصدير الغاز للعدو الصهيوني رغم الرفض الشعبي والحكم القضائي، وفي مواجهة الاستبعاد والتهميش لكل القوى السياسية والشعبية المختلفة مع الرؤية الحكومية، وفي مواجهة الكوارث التي يتسبب فيها الكبار وينجون من الحساب ويهربون إلى الخارج ليعيشوا في قصور ويستمتعوا بما نهبوه من أموال الشعب.
ولكن هل ينجح هذا الحل في هذه المرة بالذات؟.. هل سيحتمل صبر الناس هذا القتل اليومي البشع للأطفال والنساء وتمزيقهم وعرضهم على شاشات التليفزيون قطع لحم بشرية؟؟.. هل سيتحملون إبادة هذا العدد الضخم في غزة كل يوم؟.. هل سيتحملون تصفية الفصائل المقاومة كلها لصالح إسرائيل وأمريكا، وإنهاء القضية الفلسطينية للأبد، أو تسويتها بشروط إسرائيلية وأمريكية مهينة؟؟... هل سيتحملون دخول عباس ورفاقه إلى قطاع غزة فوق دبابة إسرائيلية أو أمريكية أو حتى متعددة الجنسيات المعادية للمصالح العربية والإسلامية؟؟... هل سيتحملون ويبتلعون تلك التصريحات التي أطلقها ساركوزي عن أن النظام المصري يقول:
"لا يجب أن تنتصر حماس"، وهو ما يعني صراحة أنه "يجب أن تنتصر إسرائيل"؟؟.. هل يحتمل الناس سكوتا أو مشاركة أو تواطؤ في كل مراحل هذه المواجهة الساخنة بين المقاومة الفلسطينية الحقيقية وبين إسرائيل؟؟.. هل يحتمل الناس هذا التحالف الظاهر مع رؤى إسرائيل وأمريكا في الصراع مع المقاومة مهما تكن الأخطاء المزعومة لحماس؟؟.. هل يحتمل الناس تشوه صورة مصر في الخارج والهجوم على سفاراتها على اعتبار سكوتها أو تعاونها أو تحالفها مع المعتدي الإسرائيلي؟؟... هل يقدر الناس على تغيير قناعاتهم ومعتقداتهم الدينية والتاريخية والوطنية والواقعية بأن إسرائيل هي العدو الأول لهم؟؟.. وهل يستطيع الناس بناءا على متطلبات الموقف الرسمي أن يمسحوا ذاكرتهم وينسوا اعتداءات وإهانات وانتهاكات وبشاعات العدو الصهيوني على مدى ستين عاما، وحتى هذه اللحظة؟؟.
إن الموقف الرسمي المصري بشكل خاص والعربي بشكل عام، إذ ينحاز أو يتقبل أو يتفهم أو يستوعب أو يتعاون، أو يسكت عن العدوان الإسرائيلي تحت أي ذريعة من الذرائع، إنما ينفصل عن التاريخ وعن الجغرافية وعن وعي الناس ومشاعرهم ودينهم وثقافتهم، وهنا يحدث الاغتراب والمفارقة، ويسير كل طرف عكس الآخر، وهذا وضع شديد الخطورة وللأسف هو حادث الآن لدى قطاع هائل من الناس سواء منهم المثقفين أو العوام، والنتيجة إما انفجارا وإما احتباسا، وحيث أنه لا توجد في الوقت الحالي مظاهر للانفجار، فيبقى احتمال الاحتباس هو الأقوى.
وهذا الاحتباس تمارسه وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية حين تحاول أن تغطي على الموضوع أو تتجاهله أو تغطيه إعلاميا بأقل من حجمه، ويمارسه أيضا المواطن العربي الذي يجلس ليشاهد قناة الجزيرة (على اعتبار أنها أقوى القنوات العربية وأكثرها جرأة وموضوعية ومصداقية لدى المشاهد) وهي تعرض مشاهد المأساة بينما هو يجلس في بيته يتناول طعام العشاء بين أبنائه، ثم يطلب الشاي ليحبس به على الطعام الدسم، ثم يتناول الحلوى، أو يتسلى ب "قزقزة اللب"، وأبناؤه الصغار يلعبون حوله، وقد يتساءلون عما يحدث ولماذا يحدث حين يرون صور الأطفال القتلى، فيتفق الجميع على تغيير قناة الجزيرة حتى لا يصابوا بالغم مما يرونه معروضا على الشاشة.
ويحدث الاحتباس لدى المثقف الواعي المتابع للأحداث والمدرك لأبعاد المؤامرة ثم هو يكتفي بالتنظير والمشاركة في الحوارات الإذاعية أو التليفزيونية بديلا عن فعل حقيقي على الأرض يغير مفاهيم الناس ومشاعرهم وسلوكياتهم نحو الأفضل والأنفع والأقوى والأصدق.
كما يحدث الاحتباس لدى الناس الطيبين أصحاب القلوب الرقيقة والمشاعر المرهفة الذين يشاهدون القوات الإسرائيلية تمزق أجساد أهل غزة (الذين هم أهلنا)، ويرون الطائرات الإسرائيلية ترمي بصواريخها وقذائفها على الأحياء السكنية فتحيلها ركاما يختلط فيه اللحم البشري بالنار والدخان والتراب، فيتحسرون وربما يبكون، ثم ما يلبثوا أن ينصرفوا إلى شئون حياتهم ليعاودوا البكاء مع كل نشرة، وهم لا يعرفون ماذا يفعلون ليوقفوا هذه المجزرة البشعة.
ويحدث الاحتباس لدى الشباب الذي حاول أن ينظم مظاهرة (مثل بقية شعوب العالم الحر وغير الحر) فيجد نفسه ممنوعا من الوصول إلى مكان المظاهرة، أو مكبلا من يديه ورجليه ومرميا في قاع عربة الترحيلات ومحبوسا لعدة أيام أو شهور ليخرج بعدها كسير النفس ويقرر الابتعاد نهائيا عن هذه الأمور ويلعن ساس ويسوس ومسوس وما تصرف منها، أو تقرر أسرته إبعاده رغما عنه، فيعيش بقية عمره ليأكل عيشا، وربما لا يجد حتى هذا العيش.
ويحدث الاحتباس لمن يرى في مصر دولة كبيرة وعظيمة حضاريا وتاريخيا وثقافيا وعربيا وإسلاميا ومسيحيا، ثم يجد مواقفها الرسمية تتسم بقصر النظر، والخوف والتردد والارتعاش، والسكوت المشبوه، والتهتهة السياسية، والحركة ضد بديهيات التاريخ والجغرافية والثقافة والدين والواقع والعادات والتقاليد العربية والإنسانية، واتباع المثل القائل: "عش جبانا تمت مستورا".
ويحدث مرض الاحتباس لدى من يكتفون بالدعاء على اليهود ليل نهار في قنوتهم وبصوت عال (بأن يخرب بيوتهم وييتم أطفالهم ويثكل أمهاتهم ويرمل زوجاتهم)، ثم يجدون أن الواقع كما هو لم يتغير فيشكون في إخلاصهم أو يستبطئون إجابة الدعاء، ويعاودوا الكرة بالدعاء ومزيد من الدعاء لعل الواقع يتغير يوما ما!!.
ويحدث الاحتباس النفسي للكتاب والصحفيين الذين كتبوا وقالوا كثيرا، وتعرضوا بسبب ما قالوا لضغوط وتضييقات وملاحقات كثيرة ومرهقة، ولكن الأوضاع تظل كما هي بل ربما تزداد سوءا مع الوقت، والناس لا يتغيرون بل ربما يتغيرون للأسوأ، وهنا يتحول الكاتب نحو الناس يلومهم أو ينتقدهم أو يسبهم ويهينهم على خضوعهم واستسلامهم، ثم ينطفئ حماسه للتغيير شيئا فشيئا، أو يتحول إلى موضوعات أخرى، أو ينكفئ على نفسه ويكفر بتأثير الكلمة أو ييأس من التغيير.
ويصاب المفكرون بالاحتباس حين يجدون أفكارهم ترتد إليهم، ويكتشفون أنهم كانوا يخاطبون أنفسهم، ويعرفون مدى إقبال الناس عليهم حين يذهبوا لندوة فكرية فلا يجدون إلا عدد قليل من الحضور، بينما أي حفل لمطرب مبتدئ أو مطربة مدللة يرتاده الآلاف من الناس جلوسا ووقوفا ورقصا وطربا.
ويعاني دعاة الإصلاح من الاحتباس النفسي حين لا يجدون تجاوبا شعبيا معهم بل يجدون بدلا من ذلك تضييقا حكوميا ومطاردات أمنية واضطهادات وظيفية، وتفرق كلمة أصحاب الرأي، وسكوت أصحاب الرؤى يأسا أو إيثارا للسلامة.
ويصبح الاحتباس النفسي مزمنا حين يصاب النظام الحياتي بالجمود (على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي والديني)، ويدور الناس في حلقة مفرغة وفي دائرة ضيقة ومغلقة، وتعيش الوجوه نفس الوجوه وتتردد الكلمات نفس الكلمات، وتتكرر المشكلات نفس المشكلات والأزمات نفس الأزمات، والوعود نفس الوعود، ويظل الحال نفس الحال، وإذا تغير فللأسوأ، ولا يدري أحد متى يحدث التغيير وكيف يحدث؟
ومن مضاعفات الاحتباس النفسي، أن يتحول إلى احتقان نفسي مزمن، فترى الناس في حالة كرب، وقرف، وتوتر، وعصبية، وزهق، وسرعة غضب لأتفه الأسباب، وتراخي عن العمل، ورغبة في الانتقام والتشفي، ونشر الإشاعات والفضائح، والخوض في الأعراض، والتحرش الجنسي، وهبوط الذوق العام، والعنف والخشونة في التعامل، وانعدام الأخلاق، وانتشار الفساد، وتضييع الأوقات كلها أمام وسائل اللهو والتسلية هربا من الواقع وتغييبا للوعي، وإذا لم يكفي ذلك يستدعى الحشيش والبانجو والهيروين والكيمياء.
وقد تحدث انفجارات متفرقة من وقت لآخر تخفف من درجة الاحتباس، فيتم إغلاق فتحة الانفجار بسرعة وبعنف، ويتراكم الضغط مرة بعد مرة منذرا بانفجار هائل قد يكون مدمرا. ويبدو أن ثمة فلسفة عامة لدى من يطبقون على مقاليد الأمور تتجه نحو الإغلاق: إغلاق المعابر، وإغلاق الطرق، وإغلاق مسارات التفكير ونوافذ الرؤية ومنافذ الفعل واحتمالات التغيير، وعلى هذا يظل مرض الاحتباس وباءا مصريا وعربيا مزمنا لا يغيره إلا قمة عربية تنجح في إصدار قرارات حقيقية وتنفذها، أو يقظة شعبية تتيح الفرصة للحركة خارج الصندوق.
اقرأ أيضاً:
من المحلة إلى مارينا وبالعكس مشاركة / جمال حمدان: المحنة... العزلة... العبقرية / حذاء منتظر الزيدي / الفلوس والنفوس/ إعادة القراءة على كعب الحذاء