فساد السلطة
من السلوك المضاد للمجتمع إلى اضطراب الشخصية
تتعدد صفات المرء بما يشكل في النهاية سمات شخصيته المميزة له، وكل سمة من سمات الشخصية توجد بمقدار ومن ثم يمكن تحديد وجود السمة المعينة على متصل مدرج من "قليل- عادي- معتدل– شديد" بما يتيح لنا تحديد شدة وجود كل سمة من السمات.
وتوازن هذه السمات من حيث تعددها، وعدم الشذوذ في حِدّة كل سمة سواء بالنقصان الشديد أو التطرف في الزيادة الشديدة هو الذي يسهم إلى حد كبير في أن يعيش الفرد سوياً بما يسمح له بالتوافق النفسي والاجتماعي.
فالعدوانية مثلاً سمة هامة من سمات الشخصية، إذا قلّت بدرجة شديدة أصبح صاحبها غير قادر على الدفاع عن نفسه ضد الخطر، وإذا وجدت هذه السمة بالقدر من "عادي- معتدل" أصبح الشخص قادراً على صد العدوان الخارجي ومواجهة العدوان بعدوان مضاد، أما إذا زاد مقدار هذه السمة لتصبح "شديد" تحول الشخص إلى عدوانياً يعتدي على الآخر.
ويتناول هذا المقال عدة مظاهر للشخصية وهي "الصراع مع السلطة بدءاً من السلطة الوالدية وحتى سلطة الدولة، ثم الاعتمادية، فالضبط الاجتماعي، وأخيراً الاغتراب النفسي والاجتماعي"، ويمثل التطرف الشديد في زيادة مقدار هذه السمات لدى الفرد مكوناً أساسياً لواحد من أهم الاضطرابات النفسية ذي الصلة المباشرة بانتهاك حقوق الآخرين وهو "اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع" والذي يعدّ مدخلاً ضرورياً لفهم ظاهرة الفساد لدى بعض المسؤولين في السلطة.
فإذا كان إجمالي شدة هذه المظاهر لدى الفرد تتراوح من "عادي– معتدل" فهي مقبولة بل ومحمودة أيضاً، وتعطي لصاحب الشخصية ميزات؛ إذ نجد لديه عدداً مقبولاً من الشكاوى مع السلطة، وكذلك قدراً مقبولاً من الشعور بالاغتراب، وقد ينشغل صاحب هذه الشخصية إنشغالاً أصيلاً بالمشكلات والقضايا الاجتماعية فيكون شخصاً فعالاً في مجتمعه؛ وقد يكون من الناشطين الاجتماعيين والسياسيين.
بينما إذا انخفضت هذه المظاهر في شدتها إلى "منخفض" ظهر خلل في الشخصية فنجد سمات مثل نزعة الشخص إلى الجمود وعدم الرغبة في التغيير والانصياع للعرف والطاعة العمياء للسلطة، كما يكون لديه أيضاً قدرة عالية على تحمّل رتابة الحياة والملل ويفتقد الدافع لاقتحام ما هو جديد، وقد يفقد الرجل صاحب هذه الشخصية في بعض الأحيان الاهتمام بالنشاط الجنسي.
أما إذا زادت هذه المظاهر في الشخصية إلى "شديد" فيحدث الخلل أيضاً لنجد سمات لدى الشخص مثل: التمرد والميل للاستعراض والخروج عن المألوف وعدم مسايرة الأعراف الاجتماعية، والصراع الدائم مع السلطة سواء السلطة الوالدية أو السلطة في العمل أو حتى سلطة الدولة.
كما ينكر صاحب هذه السمات المتطرفة في الشدة علامات القلق الاجتماعي لديه مدّعياً رباطة الجأش وهو غير ذلك، كما يدّعي أيضاً الرّقة واللطف في حين أنه عكس ذلك، وينكر اعتماديته على الآخرين، كما يعاني من الاغتراب الاجتماعي فنجده يشعر بالانعزال عن الآخرين وتنقص لديه مشاعر الانتماء، ويسهل عليه إلقاء اللوم على الآخرين قيما يقابله من صعاب، كما لا يجد الإشباع في علاقاته الاجتماعية. وهنا تزيد احتمالية دخول صاحب هذه الشخصية دائرة التصنيفات المرضية من وجهة نظر المتخصصين، فقد يعاني من "السلوك المضاد للمجتمع لدى البالغ".
وفي حال الزيادة المتطرفة في شدة هذه المظاهر، فقد يتم تشخيصه بأنه يعاني من "اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع" والذي ينتشر بنسبة 3% بين الذكور وبنسبة 1% بين الإناث وهي نسبة ليست بالضئيلة.
وحتى يجوز علمياً تشخيص الفرد بأنه يعاني من اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع يجب أن يكون عمره على الأقل ثمانية عشر عاماً، وألا يكون مريضاً بمرض نفسي آخر قد تتشابه أعراضه مع بعض من سمات هذه الشخصية. كما يجب توافر ثلاثة على من الأقل من الأعراض السبعة ذات الصلة بانتهاك حقوق الآخرين دون اعتبار لمشاعرهم، وهذه الأعراض هي:
1- الفشل في الانصياع للأعراف والتقاليد الاجتماعية، مع عدم احترام القانون ويظهر ذلك في انتهاكه المتكرر له. كما يفشل في المحافظة على علاقة حميمة ومسؤولة مع أسرة أو أصدقاء، وقد يصل به الأمر إلى تعاطي المخدرات والكحوليات والشذوذ الجنسي. وقد يرتكب أفعال من غير تفكير، حتى أنه لا يفكر في كيفية تجنب اكتشاف أمره.
2- النصب على الآخرين، كما يبدو في كذبه المتكرر وخداعه لهم من أجل تحقيق فائدته الخاصة.
3- الاندفاعية في السلوك أو الفشل في أن يثابر في خطة قد وضعها.
4- سرعة الاستثارة والعدوان على الآخر، كما يظهر في مشاجراته الجسدية واعتداءاته.
5- لا يحرص على سلامة نفسه أو الآخرين، كأن يقود السيارة وهو مخمور.
6- الإصرار على عدم تحمل مسؤولية أفعاله فيستخدم المعايير الشخصية وليس الموضوعية لتبرير تجاهله للقوانين والأعراف الاجتماعية. كما يفشل بشكل متكرر في الاستمرار في عمله.
7- غياب الشعور بالذنب عندما يؤذي الآخرين أو يسيء إليهم أو يسرقهم.
إذا حدث وكان لدى الشخص سمات أقل من ثلاثة أعراض مما ذكر فإنه يعاني مما يطلق عليه "السلوك المضاد للمجتمع لدى البالغ"، وهو أمر أقل في الخطورة من أن يكون الشخص ذو شخصية مضادة للمجتمع.
كما لا يتأثر في هذه الحالة إنجاز الشخص الدراسي أو المهني، بل قد ينجح سياسياً واقتصادياً وفي حال صعوده لأي من مراكز السلطة، فقد يتحول الأمر ليستغل وضعه الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي لصالحه دون اعتبار لقيم ودون لوم للنفس أو مراعاة لصالح المجتمع، وقد يصل به الأمر في النهاية لو كان لديه الاستعداد ليسلك كما يسلك أصحاب الشخصية المضادة للمجتمع.
ولعل هذا يفسر لنا لماذا يتحول بعض المعارضين بمجرد وصولهم إلى كرسي السلطة إلى صورة نسخة طبق الأصل ممن كانوا يرفضونهم في السابق. ولهذا أيضاً نجد أنه في حال انتشار الفساد في المجتمع، يسعى بعض رجال الأعمال من أصحاب الشخصية المضادة للمجتمع للوصول إلى مناصب سياسية لاستغلال هذا المنصب لمصلحتهم الشخصية دون اعتبار لقيم ودون لوم للنفس أو مراعاة لصالح المجتمع.
فنجد نواب القروض وتارة أخرى نواب المخدرات، وغيرهم ممن يفضح أمرهم في فضائح جنسية، وآخرون يسعون لاستصدار القوانين التي لا تخدم إلا مصالحهم وأعمالهم الخاصة.
كما يساعد انتشار الفساد أيضاً على سعي الكثيرين إلى العمل في الوظائف السلطوية مثل الشرطة، بدءاً من المخبر وانتهاءً بالضابط، أو يسعى آخر لشغل أي منصب حتى لو كان سائقاً للوزير؛ المهم خدمة مصالحهم الخاصة وليس أداء مسؤوليات المنصب.
ينطبق الأمر بالمثل على البعض من كبار المسؤولين في بلادنا العربية؛ فما يمارسونه من سلوكيات لا تخرج عن كونها سلوكاً مضاداً للمجتمع، بل إن بعضهم لا يخفى على من حوله إدمانه للمخدرات، فيما يشير إلى أنهم لا يعانون فقط من "السلوك المضاد للمجتمع لدى البالغ"، بل وصل الأمر لديهم إلى حد "اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع".
إذا أمعنا النظر فيما سبق، فإنه يمكن تشخيص بعض من قيادات العالم بأن لديهم اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع، وفي مقدمة هؤلاء جميعاً نجد الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، وذلك لما لديه من سمات الشخصية الآتية:
أولاً: عدم الانصياع للقانون والأعراف الدولية؛ كإعلان حربه على العراق رغم الإجماع الدولي على رفض الحرب.
ثانياً: استخدام أشكال النصب والاحتيال للتحايل على دول العالم لتحقيق العدوان العراق وإدعائه بوجود أسلحة نووية.
ثالثاً: يتسم بالاندفاعية والتهور في اتخاذ القرارت العدوانية على الآخرين بدءاً من العراق، وحتى إيران وحماس والسودان.
رابعاً: شدة العدوانية واستخدامه الأسلحة المحرمة دولياً في حربه على العراق، ودعمه لإسرائيل في عدوانها على غزة.
خامساً: عدم الحرص على سلامة العراقيين المدنيين أو أهالي غزة أو حتى الشعب الأمريكي الذي يرسله للموت.
سادساً: الإصرار على عدم تحمل مسؤولية ما حدث في العراق أو ما يحدث في فلسطين؛ ومحاولة تبرير هذه الأفعال بمعاييره الشخصية من اعتبار الآخر هو محور الشر ومن ثم فكل ما يفعله بهم مباح.
سابعاً: كما نجد لديه انعدام الضمير وعدم الشعور بالذنب لكل هؤلاء القتلى من المدنيين في العراق وفلسطين وأفغانستان، بل والظهور أمام الرأي العام العالمي بمظهر البريء.
لم يستوف بوش الإبن ثلاثة معايير، بل استوفى المعايير السبعة التشخيصية لهذا النوع من اضطراب الشخصية. وهذه السمات السبعة مثلما تنطبق على بوش وإدارته فإنها تنطبق بالمثل على إسرائيل وقادتها، فلا يمكن تفسير وفهم كيف لبشر أن يفعل كل ما فعلوه في فلسطين منذ اغتصابها وما يفعلوه في الضفة وقطاع غزة حتى الآن وينامون هانئي البال مرتاحي الضمير إلا من خلال التفسير النفسي في إطار سمات الشخصية المضادة للمجتمع.
العلاج الوحيد الذي قد ينجح في الحد من هذه التصرفات الضارة بالآخرين والتي تصدر عن أصحاب هذا النوع من اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع هو العلاج الذي يعتمد على الأساليب العقابية، فهي الوحيدة القادرة على وقف سلوكياتهم حتى يتحمل مسؤولية تصرفاته وعواقبها فيقوم هو بضبط هذا السلوك الضار الذي يصدر عنه.
وقد يأخذ العقاب شكل القصاص منهم بالسجن أو ما هو أكثر من ذلك. فإذا لم ينجح العقاب في ردعهم فالأفضل أن ينفوا من الأرض، وقد يأخذ هذا النفي شكل عقوبة السجن مدى الحياة في عصرنا الحديث.
ولا سبيل غير ذلك لردع هؤلاء المفسدين في الأرض وإراحة من حولهم من جراء تصرفاتهم. لقد كان الاتحاد السوفيتي قبل انهياره يمثل جهة رقابية وعقابية للمعسكر الغربي، والعكس صحيح.
وبسقوط المعسكر الشرقي لم يعد هناك ما يردع المعسكر الغربي، إضافة إلى ضعف الأمم المتحدة كهيئة دولية رقابية وعقابية، ومن ثم صار قادة المعسكر الغربي يمارسون عدوانيتهم في حرية حتى أصبح سلوكهم مضاداً للبشرية ولكل معاني الإنسانية كما حدث في العراق.
إن ما يحدث في العالم عامة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وما يحدث في العراق وفلسطين خاصة يجب أن يدعو دول العالم لإعادة تقييم دور الأمم المتحدة وضرورة تعديل قوانينها بما يجعلها جهة رقابية وعقابية رادعة لمثل تلك الدول وهؤلاء القادة.
وحتى نحد من سلوكيات هذه الدول فلا سبيل لدينا سوى المقاومة مهما صغرت، وكما تقول الآية الكريمة "وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ...."(الأنفال:60).
والقول "ما استطعتم" يشير إلى شرط الضرورة وإن كان في حدود الاستطاعة فلم يفرض الله عز وجل أن تكون القوة مكافئة لقوة العدو ولكن المهم هو الإعداد وإن لم تكافئ قوته، أما شرط الكفاية في هذه القوة فهو أن ترهب الأعداء، ومن ثم فالمقاومة بالحجر أو بصواريخ القسام لا يمكن الاستهانة بها طالما أنها في حدود الممكن والمستطاع، وطالما أنها قادرة على إدخال الفزع في قلوب الأعداء.
وقد تكون مقاومة العدو بالتزايد السكاني للفلسطينيين في الأراضي المحتلة؛ فكل طفلة ستصبح أماً وستلد غداً مقاوماً، وكل طفل يولد هو رجل سيحمل يوماً السلاح، وتدرك إسرائيل جيداً بل ويفزعها هذا الشكل من المقاومة، لهذا فهي تسعى بكل الوسائل إلى حصار وإبادة الشعب الفلسطيني.
وكما هو الحال في فلسطين يكون أيضاً في سيناء؛ فتعميرها هو شكل من أشكال القوة التي يجب أن نعدّها لترهب إسرائيل فتحول دون عدوانها على مصر. وتدرك إسرائيل أيضاً معنى هذه القوة، ولهذا أيضاً هي تمنعنا من تعمير سيناء، أما نحن فلا حياة لمن ينادي، نعمل لحساب العدو الصهيوني ونسهّل عليه إعادة احتلال سيناء يوماً ما.
إن غياب الديمقراطية وحرية الرأي والمؤسسات الرقابية والعقابية في مجتمعاتنا العربية من شأنه أن يطلق الحرية للمسؤول للإضرار كيفما شاء بمن هم تحت مسؤوليته؛ مما يؤدي إلى تعاظم هذه السمات لديه فتزداد شدتها إلى الحد الذي قد يصل بالمسؤول إلى أن يصير ذو شخصية مضادة للمجتمع إذا كان لديه الاستعداد لذلك. ومن ثم فإن وجود الديمقراطية وحرية الرأي والمؤسسات الرقابية والعقابية في مجتمعاتنا العربية يساعد على الحد من السلوك المضاد للمجتمع للمسؤولين.
وبالمثل فإن وجود أحزاب المعارضة الحقيقية وليس أراجوزات المعارضة أمر هام وضروري حتى تعمل هذه الأحزاب على تقويم النظام وتصحيحه لتحول دون ممارسة النظام للعدوانية على الشعب والاستبداد به وسرقة ثروات البلاد، لهذا نجد كل مسؤول يرفض وجود المعارضة ويضيق بها. فإذا غابت الديمقراطية واختفت المؤسسات الرقابية والعقابية؛
فإنه يجب على جماعات المعارضة المستقلة مقاومة هذا النظام الديكتاتوري لردعه، حتى لو كانت المقاومة بالكلمة فهي ولا شك رادعة، ولهذا جاء في الحديث القدسي بأن "الله يظلّ بظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه من قال قولة حق في وجه سلطان جائر".
اقرأ أيضاً:
الممارسات الإسرائيلية من منظور علم النفس (1) / إلى أين يا وطن؟